بقلم : رشاد أبوشاور ... 6.12.06
الجثث المجهولة، ضحيّة ما يوصف بالعنف الطائفي، هي في حقيقة الأمر شواهد علي جريمة الاحتلال الأمريكي للعراق الذي أطلق هذا السعار.
أجساد تفحمت حرقاً. أجساد ثقّبت صدورها وجنوبها ورؤوسها بالدرلاّت. أجساد تتناثر بالانفجارات، أوتقطع رؤوسها بسيوف لم ترث شرف الانتساب والانتماء، لا الديني ولا القومي.
كل يوم نسمع عن عشرات القتلي المجهولين الذين يتحوّلون أرقاماً، ويصلّي علي أجسادهم دون معرفة انتمائهم الطائفي، فهم عرب مسلمون، وهم عراقيون. أهم سنّة أم شيعة ؟! وماذا يهم إن كان واحدهم سنيّاً أو شيعيّاً ؟ ماذا يعرف عن انتماء طائفي ورثه بالمصادفة، ودون تمحيص، أو اختيار؟! وهل كان يحلم سوي بأن يتعلّم، أو يجد عملاً في بلده، فيبني أسرةً، ويعيش حياة كريمة في وطن عريق غني يتّسع لأبنائه جميعاً؟
كلّهم عراقيون، قاتلون (أدوات) وقتلي (ضحايا)، في وطن يميد تحت أقدامهم وهو يتمزّق ويغرق في بحر الدم.
إنهم عراقيون تبدّد حياتهم ويضيّع وطنهم خدمة لأمريكا، يلاقون حتفهم رافعين رايات ثارات قديمة لوقائع طواها التاريخ، لا يمكن تصحيحها، أو تغييرها، لتعلو دون وعي منهم راية أمريكا، وتأفل راية عراقهم، فلا يفوزون سوي بالموت والاندثار أفراداً وجماعات.
من دجلة لم يعد العراقيون يصطادون السمك، ليعدّوه حول موائد الجمر مسقوفاً في ليالي السمر البغداديّة، فهم باتوا غذاءً للسمك، قتلي مجهولين، سواء أقتلوا تفجيراً بالسيّارات المفخخة، أو قصفاً بقذائف تسقط عليهم دون أن يعرفوا لماذا تستهدفهم، أو ذبحاً بعد اختطافهم في زمن الفوضي والرعب (الديمقراطي الأمريكي) الخلاّق!.. الذي ما زال جورج بوش الصغير بكّل وقاحة يباهي بأنه جلبه للعراق ليكون منارة (للمنطقة)، وللدول المجاورة التي يجب أن تري فيه نبراساً، وقدوة، وأمثولةً! ألم تشاهدوه وتسمعوه في مؤتمره الصحافي، في العاصمة الأردنيّة عمّان، وعلي يمينه رئيس وزراء العراق البائس يجيب علي أسئلة الصحافيين كما لو إنه رئيس وزراء يمثّل بلداً حرّاً سيّداً غير محتّل ومنهوب؟!
بعد الاحتلال الأمريكي ـ والبريطاني، ولبريطانيا أفضال متصلة علينا نحن العرب، لا تحصي ولا تعّد، من زمن بلفور إلي زمن بلير ـ باتت إحدي المهن الرائجة في العراق هي مهنة حفّار القبور، وأكثر الأقمشة الرائجة الضرورية هي أقمشة الأكفان البيضاء، وأقمشة الحداد السوداء، ولون الحداد يطوي الأجساد العراقيّة داخله مساوياً بين الجميع بغّض النظر عن الطائفة...
العراق اليوم كلّه أسود وأبيض. أبيض في عمق الثري، وأسود علي سطح الأرض ينتظر دوره في موسم الإبادة (الديمقراطيّة)!
مشاهد الجثث العراقيّة ذكّرتني بقصّة قصيرة لكاتب عراقي موهوب هو محمد خضير.
بعد حزيران 67 ازدهرت القصّة القصيرة العربيّة ونافست الشعر، ووجدت لها موئلاً في مجلّة (الآداب) البيروتيّة. أحد الذين قرأنا قصصهم آنذاك هو العراقي (البصراوي) محمّد خضير، وكان أن نوّه به وبقصّتيه (تقاسيم علي وتر الربابة، والأرجوحة) المعلّم غسّان كنفاني، فلفت الانتباه له بقوّة.
واحدة من قصص محمد خضير التي نشرها، ربّما عام 68، حملت العنوان (جامعو الجثث)، وهي تدور في مدينة القدس بعد استكمال احتلالها في حزيران (يونيو) 67 تحكي القصّة عن مواطن مقدسي جعل من عربته البسيطة التي كان يبيع عليها الخضار، وسيلةً لجمع ونقل الجثث المرميّة والمهملة في أزقة وشوارع وحارات القدس العتيقة.
يوم قرأت القصّة أعجبت بها، رغم أن فيها مبالغة كبيرة، ففي القدس لم يسقط عشرات القتلي ويتناثروا جثثاً دفاعاً عن المدينة، ومع ذلك بقيت القصّة في بالي كواحدة من القصص المؤثّرة.
بعد ساعات من لقاء بوش والمالكي في عمّان، كانت فضائيات عربيّة تذيع خبراً يقول: العثور علي 68 جثّة في بغداد، وفي اليوم التالي أعلن العثور علي 46، وفي اليوم الثالث حصدت السيّارت المفخخة 105 غير الجرحي.
قتلي مجهولو الأسماء، هم عراقيون، جيران في حارات بغدادية عريقة، أو وافدون من مدن وقري قادهم سوء حظّهم للسقوط في أيدي قتلة محترفين لا يفرّقون بين عراقي وآخر، فكّل همهم تحويل العراقيين إلي جثث، ونشر الفزع، وجعل العراق وطناً للموت، والخوف، حتي الخنوع والرضي بالاحتلال، لا مقاومته وطرده من وطنهم الذي أسّسه أسلافهم العظام منذ ألوف السنين.
قصّة محمد خضير خطرت ببالي، وأنا أتأمل حقل الجثث المرصوصة في الأكفان يوماً بعد يوم، وبعض حفّاري القبور يصلّون عليها في عراء موحش.
علي الإنترنت، وفي الصحف العربيّة، والفضائيّات، أسمع وأقرأ أرقام الجثث، فتلّح علي خاطري تلك القصّة المنشورة عام 68، والتي ربّما هدف القاص بأجواء المبالغة فيها أن يصدم القارئ العربي، ويهّز وجدانه ليدفعه لفعل شيء ضد من استباح مدينة القدس قلب فلسطين، وعاصمة الروح.
تصفّحت المجموعة القصصية الأولي لمحمد خضير (المملكة السوداء) والمنشورة في بغداد عام 1972، فلم أجد قصّة (جامعو الجثث) بين قصصها، ثمّ بحثت عنها في مجموعته الثانية (في درجة 45 مئوية) فلم أجدها أيضاً.
قلت لنفسي: يبدو أن الكاتب اكتشف أنه بالغ في وصف ما جري في القدس اعتماداً علي ما ساقته الأخبار والتصريحات الرسميّة، ومشاهد المأساة كما وصفتها الصحف، والإذاعات، ومحطّات التلفزة المحليّة آنذاك، ولأنّ القصّة القصيرة لا تحتمل المبالغة، فقد أسقطها من نتاجه. في بلاد الجثث لم تعد قصّة (جامعو الجثث) مبالغة، بل هي مشهد متواضع أمام هول ما يحدث للعراق وشعبه، فالجثث هي لنساء ورجال قتلوا غيلةً وغدراً، في موسم قتل مجّاني، ينفذه مأجورون، ويدير آلته من وفدوا مع الاحتلال، وتتحمّل وزره الأكبر إدارة بوش المجرمة التي حوّلت العراق إلي مقبرة كبيرة، عراق حضارة (بابل) و(آشور)، حمورابي، ونبوخذ نصّر...
في العراق اليوم الخبر الرئيس هو اكتشاف جثث لا حقول نفط في بلد يعوم علي بحر من النفط، ناسه هذه الأيّام لا يجدون الكاز والمازوت للتدفئة، فالنفط يسرق وتختفي 28 مليار دولار من ثمنه في زمن (شفافيّة) حكومة المالكي، وارثة (أمجاد) وأمانة التشلبي منظّر الاحتلال !
بلاد النخيل، والحضارة، والثروات، حوّلت إلي بلاد الجثث، بلاد القتلي المجهولين الذين لن يعرف ذووهم كيف قتلوا، ولا أين دفنوا، ولا لماذا !
تري: من سيكتب كّل هذا الجنون، شعراً، قصصاً قصيرة، روايات طويلة.. من؟!