أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
آخر ورقة في الروزنامة...

بقلم : حنان عارف  ... 06.10.2009

(عقارب الساعة تسير نحو الوراء... الزمن يتراجع..
الصيف يغدو شتاءً من جديد...
أوراق الروزنامة التي مُزقت ورميت وتبعثرت هنا وهناك، عادت للحياة ثانية لملمت نفسها -كما لملمتُ أجزاء نفسي المنكسرة – ورقة ورقة يوماً قبل يوم، شهراً بشهر لتعود شهوراً إلى الوراء اثنا عشر شهراً مضت حين كنا وكان الموعد؟ حين تعاهدنا أن نبدأ من جديد، متجاوزين الأخطاء القديمة، متداركين ما فاتنا، حين وعدتني أن تكون معي عندما أكون في أمس الحاجة إليك.
يومها قررنا أن يكون هذا اليوم بداية عصر النهضة لحبنا، ونهاية عصر الانحطاط...
يومها قررنا أن يكون هذا اليوم هو رأس السنة الميلادية ففيه ولد حبنا من جديد... رأس السنة الهجرية ففيه قررنا هجر كل ما قد يسيء إلى هذا الحب...
اثنا عشر شهراً مضت...
ألازلت تذكر؟ أم لم يعد للتاريخ أهمية عندك... أم أرهقتك هموم الحياة ومشاكلها لدرجة نسفك لكل التواريخ المهمة في حياتنا
هل أصبحت حوادثنا التاريخية تافهة صغيرة مملة لدرجة يصعب مرورها في الذاكرة؟...).
هذه رسالة صغيرة بعثت بها طفلة كبيرة جميلة إلى حبيبها المتوسط التفكير والجمال والأقوال والأفعال.
رسالة عتب، رسالة حب، رسالة بوح...
رسالة فيها ألف سؤالٍ ولا جواب...
رسالة دهشة واستغراب...
رسالة ألم من قلب لم يعرف سوى الألم.. قلب لم يعرف الفرح طريقا إليه من يوم اكتشافه لذاته.
بأناملها الجميلة تقلب أوراق الروزنامة من جديد ورقة ورقة تقرأها، تقسو عليها بين أصابعها التي لم تعرف القسوة، ترميها على الأرض لتأخذها الريح..
تضحك تارة والدموع تملأ عينيها، تبكي تارة وابتسامة صفراء على وجهها حين تقرأ ما كتب على أوراق الروزنامة...
ليست تلك الحكم والأمثال الشعبية والأقوال التاريخية التي تكتب عادة على ورقة الروزنامة من الخلف هي ما أضحكتها وإنما هو التاريخ ما أضحكها وأبكاها وتلك المناسبات التاريخية التي تذيل طرف كل ورقة من أوراق الروزنامة؟
تتذكر حبيبها... شخص ذكي عبقري عملي هو أفضل من أي حاسوب أو روزنامة، قادر على أن يتذكر كل هذه التواريخ والمناسبات، الأعياد الوطنية والقومية والعالمية... يستطيع أن يكون مدرس تاريخ مشهور لو أراد لشغفه بالتاريخ...
ولعل هذا ما لفت نظرها حين التقيا أول مرة...
لم يخطر ببالها يومها أنها ستجلس في هذا اليوم في هذا المكان وحيدة تقلب أوراق الروزنامة بعد مغادرة حبيبها لموعد عمل هام تهيأ له قبل أسبوع ناسياً أن هذا اليوم أيضا يحمل بين ثوانيه ذكرى جمعتهما معا...
هذا اليوم الذي تحضرت له هي كثيرا دون أن يخطر ببالها أنها الوحيدة التي تتوق للاحتفال به "كما في كل مناسبة تجمعهما".
دمعة تسيل من عينيها، حرارتها ترسم تضاريس على وجهها، نظرة غائبة، ذكريات مُغيبة، وألف سؤال على شفاهها المرتعشة..
كيف لا ينسى حبيبها عيد ميلاد الحزب وينسى عيد ميلادها؟ وهل يوم قيام الثورة أهم من يوم قيامها على قدميها من جديد بعد حادث سير أقعدها ثلاثة أشهر حين كانت مسرعة للقائه لمفاجئته ولكن سيارة من بعيد كانت أسرع لتفاجئها وترميها أرضاً.
تصحو - وحدها- في المشفى بين صرخات أصدقائها وبكاء أهلها ولكن حبيبها غير موجود؟
هذا الحادث لم ينسه أن يحضر الاحتفال الذي يقام في مكان عمله بمناسبة عيد العمال ناسيا بقاءه سنين من حياته دون عمل باحثا عن فرصة... متشردا هائما في الشوارع... حين تخلى عنه الجميع إلا هي.
هو الآن شخص مهم يستعين به أصدقاؤه ومن يعملون معه ليذكرهم بالحوادث المهمة في تاريخ الشركة والبلد وينسى أدق التفاصيل في تاريخه... تاريخهما معاً.
كيف يتذكر يوم الطفل العالمي وينسى عيد ميلاد ابنه من زوجته السابقة كما في كل سنة، كيف يستطيع أن يتذكر يوم الطفل العالمي ويكتب عنه مقالته أملاً في أن تأخذ الجائزة الأولى كما حصل في العام الماضي وينسى معاناة حبيبته
وحلمها بطفل منه يكون ثمرة حبهما وبكائها على صدره أياماً وليالي لعدم تمكنهما من تحقيق هذا الحلم بسبب ظروف واعتبارات أخلاقية وطائفية وعرقية ومجتمعية ومؤسسية ومذهبية و... و... و...
حبيبها الحاضر الغائب، الحنون القاسي، لا يتذكر أن يزور تلك المرأة التي سهرت معه بكت لألمه فرحت لنجاحه
تلك المرأة التي لم يكن له ملجأ غير حضنها في أيام القهر والذل والعذاب.
تلك المرأة التي مدت يدها لتنتشله من الضياع حين غابت جميع الأيدي.
تلك المرأة أنارت له الطريق حين أحرقت نفسها... تلك المرأة التي جعلت من جسدها جسرا ليعبر عليه.
تلك المرأة التي شاخت عيناها وهي تراقبه يكبر يوما بعد يوما... هرمت يداها وهي تقلب أوراق روزنامتها ليأتي يوم الحادي والعشرين من آذار كي يزورها وتتمكن من رؤيته كما في كل سنة ؟؟؟
فهو إن نسيّها فلن ينسى "يوم عيد الأم".
رجل التاريخ هذا... مشغول منهمك ناجح مهم ينتقل من مكان إلى آخر يأتي على الوقت تماما في كل موعد
يثير إعجاب عملائه بسبب دقة مواعيده، يسجل كل التفاصيل المهمة في دفتره الصغير ناسيا أدق تفاصيل حياته، حياتهما معاً...
تلك الحبيبة الوحيدة التي تنتظره في المنزل، التي تعيشه، تشم ملابسه، تستعمل أدواته، تشرب بفنجانه، وتمسح بمنديله، تجلس على كرسيه، تكتب بقلمه على أوراقه:
(أحبك... اشتقت إليك...
... لازلت أحبك لكنني أصبحت أكره أن أكون معك في هذا اليوم
كما في كل عام...
أعبدك لكنني لم أعد أقوى على الاحتمال أكثر... لم أشعر بالملل منك لكن مللت الانتظار... انتظارك، انتظار عودتك إلي آخر النهار بعد أن تكون فرغت من محاضرتك عن تحرر المرأة وإعطاءها حقوقها والإحساس بها كائن بشري سماوي ملائكي... متناسياً أن تعطي تلك المرأة المنتظرة جزءاً صغيراً من حقها في الحب والرعاية والاهتمام
و مشاركتها أحزانها وآلامها، أحلامها وآمالها وليس مشاركتها السرير فقط...
حبيبي...
أحبك كثيراً...
اشتقت إليك كثيراً...
ولكني اشتقت إلى نفسي أكثر...
وداعاً...
على أمل اللقاء قريباً في إحدى محاضراتك وندواتك عن المرأة ولكنني لن أكون بعد اليوم مجرد مصغية لك مصفقة لبراعتك في الحديث، ناظرة إلى الجمهور من حولي.. متسائلة: هل يعرفون أن هذا الذي يتحدث من على المنبر هناك هو حبيبي؟
لكن... ليس بعد الآن
وداعاً لن أكون تابعاً بعد اليوم ومكملاً بل سنلتقي غداً ندا لند...).
زينت الورقة بتوقيعها وغادرت مغلقة الباب على سنين عاشتها في وهم جميل.

المصدر: موقع نساء سوريه