أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
تقرير غولدستن: ومحاكمة نهج "الحياة مفاوضات"!!

بقلم : د. خالد الحروب  ... 07.10.2009

يقف أيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أمام المحاكم الإسرائيلية بتهمة الفساد المالي (واختلاس بضعة عشرات من ألوف الدولارات). ووقف قبله كثير من المسؤولين الإسرائيليين وخسروا مناصبهم في قضايا تعتبر في عرف السياسيين والمسؤولين العرب أسخف من أن تُذكر فضلا عن أن تقود إلى محاكم. في المقابل لا تزال هناك عشرات الرؤوس الفلسطينية تتحكم في مصير الفلسطينين برغم كل الفساد المالي (بالملايين) الذي لطخها على مدار سنوات أوسلو. لكن كأن ذلك لم يكن كافياً وحده فأضيف إليه الفساد السياسي والوطني الذي يتلاعب بالقضية الوطنية وجوهرها ويُقدم على قرارات تدمر ما تبقى من تأييد للشعب الفلسطيني وقضيته في العالم. الحلقة, أو بالأحرى الفضحية الأخيرة, المتمثلة بطلب السلطة الفلسطينية تأجيل التصويت على قرار تقرير القاضي اليهودي الشجاع غولدستن يجب أن لا تمر على الإطلاق, ويجب على المسؤولين عن الفساد السياسي الذي قاد إليها أن يعزلوا من مناصبهم وأن يحاكموا. من حق الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وأنصاره في كل مكان أن يعرفوا بالضبط من كان وراء هذا القرار الذي وجه طعنة مسمومة في ظهر جبهة التضامن الدولي والإنساني مع الفلسطينين, وأحبط عمل مئات المنظمات الحقوقية المؤيدة لنا, وأثلج صدر مجرمي الجيش الإسرائيلي وساسته الذين كانوا سيوضعون في قفص مجرمي الحرم ولا يستطيعون التحرك هنا وهناك بخيلاء وغرور. من حق الشعب الفلسطيني, وفي غياب مؤسساته التشريعية والرقابية والمحاسبية, أن يعرف ما الذي حدث ولماذا, ومن اتخذ القرار وتورط فيه, وما هي الأسباب الحقيقية. لماذا قُتل التقرير ودفن بأبشع طريقة ممكنة وبأيدي فلسطينية؟
الأسباب التي ساقها الناطقون الرسميون متهافتة وزادت على تهم التفريط تهمة استغفال واستغباء الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي المؤيد. القول بأن الأطراف والوفود العربية والإسلامية هي التي طلبت التأجيل وليس وفد فلسطين هو كذب صريح ومن المخجل ترداده. وقد أُبطل بعد أن تبرأت منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية في بيانين منفصلين من مقولات المندوب الفلسطيني إبراهيم خريشة الذي يجب أن لا يبقى يوما واحدا في منصبه بعد سلسلة الأكاذيب التي أدهشنا بها في الإعلام. والقول ثانيا بأن هدف طلب التأجيل هو الرغبة في تحقيق "إجماع أكبر" على التقرير وضمان تصويت دول "صديقة" لصالحه قبل رفعه لمجلس الأمن كلام لا معنى له. كل المتابعين للموضوع يدركون أن تقرير غولدستن حظى بعدد مدهش من الأصوات المؤيدة (حولي 33 من أصل 47) ويندر أن يحدث هذا في قضايا أخرى. تأجيل التصويت عليه لمدة ستة أشهر هو إنهاء وقتل للتقرير وليس تأجيلا لمناقشته. هل سيعمل الناطقون الرسميون الأشاوس على إعادة الزخم العالمي والتضامني الذي وصلنا إليه, ويزيدون عليه إقناع بعض "الدول الصديقة" للاصطفاف إلى جانبنا خلال الشهور القادمة؟ وكيف سيقومون بـ "تفعيل" القرار والاستفادة من التقرير, والشواهد السابقة لا تشير إلى إنجازات خارقة فأمامنا القرار العدلي الدولي الذي أفتى بعدم قانونية جدار الفصل العنصري, وبإجماع شبه كامل. ماذا فعلت السلطة للاستفادة من ذلك القرار وتفعيله والبناء عليه؟
ربما لا يوجد شخص على وجه المعمورة مهتم بالقضية الفلسطينية وتابع عن بعد تتابع حلقات هذه الفضيحة إلا ويعلم أن طلب السلطة تأجيل التصويت جاء بناء على ضغوطات كبيرة من أمريكا وإسرائيل. إذن وفي حال افترضنا أن السلطة لم تستطع أن تُقاوم تلك الضغوطات فلماذا تتستر عليها؟ لماذا لم تخرج للعلن وتقول بالفم الملآن للشعب الفلسطيني والعالم "أننا في السلطة الفلسطينية نواجه ضغوطا وتهديدات كبيرة من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل (أو إمعانا في الدبلوماسية "من قبل أطراف دولية") ولا نستطيع مقاومتها, وبناء على ذلك طلبنا التأجيل). أليس في هذا الإعلان كرامة وصدق وعدم استسخاف بالشعب الفلسطيني وأفضل ألف مرة من محاولات الاستغباء التي فجرت غضبا مركبا عند كل الناس؟ عندها سيتحول جزء كبير من الغضب باتجاه أمريكا وإسرائيل, من دون إعفاء السلطة بالطبع ومن دون القبول بمنطق الخضوع للضغط.
ولنأت الآن إلى نقطة الضغط هذه. كل ما ورد ويرد في سياق هذه النقطة يدور حول تهديد هيلاري كلينتون ومسؤولين أمريكيين بأن التصويت على تقرير غولدستن سوف يضعف احتمالات استئناف مفاوضات السلام, وسوف يخلق مناخات غير موائمة, ويقلل الفرص الإيجابية. ماذا عن عربدة نتنياهو وركله لكل المطالب الأمريكية والدولية بـ "تجميد الإستيطان" فقط, بل واتخاذه قرارات ببناء وحدات استيطانية جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة؟ لماذا لا ترينا السيدة كلينتون بطولاتها في الضغط والحرص على فرص السلام من خلال فرض ضغط حقيقي على إسرائيل ونتياهو؟ إذا كانت "حفلة" الطلب بـ "تجميد الاستيطان" قد استغرقت تسعة شهور من فترة حكم أوباما, فكيف لو تجرأ أحد ما على الطلب بـ "تفكيك الإستيطان" في المفاوضات العتيدة القادمة, وكم ستأخذ من الوقت عندئذ؟
ثم لنفترض أن المفاوضات أنطلقت وأنه لم يتم "تخريب" انطلاقها من خلال قرار مجلس حقوق الإنسان وقبول تقرير غولدستن, الذي أجل بطلب من السلطة لتحقيق إجماع أكبر, والعودة للتصويت عليه في شهر آذار (مارس) القادم. ماذا ستفعل السلطة الفلسطينية عندما يأتي اجتماع آذار ويعاود المجلس طرح التقرير للتصويت بموازاة المفاوضات السائرة بين الإسرائيليين والفلسطينين, هل ستتجرأ السلطة على استئناف أي جهد بأتجاه التصويت على التقرير؟ ألن تقوم بـ "تخريب" المفاوضات القائمة وليس المحتملة كما الآن؟ ما حدث إذن عبر القرار قصير النظر الذي يستحق من أتخذه محاكمة حقيقية سيضاعف الثمن ويحرج الفلسطينين مرتين: الآن وفي شهر آذار القادم. بعد ستة أشهر سوف ترفع السيدة كلنتون التليفون وتتحدث مع المسؤولين الفلسطينيين وتوجه لهم تهديداتها المتجددة.
لماذا لم يقل لها الفلسطينيون بأنهم إن خضعوا لمطلبها فإنهم يخسرون الشارع الفلسطيني وأنه لا يمكنهم أن يغامروا بذلك خاصة مع غياب المجلس التشريعي وعدم وجود أي حصانة شعبية لقرار من هذا النوع؟ لماذا لم يقولوا إن الفلسطينين سيقارنون بما تنجزه حماس من تحرير لسجينات فلسطينيات وما تتنازل عنه السلطة من تجريم لإسرائيل؟ لماذا لم يقولوا لها ولكل من ضغط عليهم ما هو المقابل الحقيقي والملموس الذي من الممكن أن يحصل عليه الفلسطينيون إذا طلبوا تأجيل التصويت؟ أين هي البراغماتية والواقعية الفلسطينية ومهارة "المفاوض الفلسطيني" الذي يتخذ من "الحياة مفاوضات" مبدأ, أين كان ولماذا لم يفاوض على شيء يأخذه في مقابل السخاء التنازلي المدهش. هل "مهارة المفاوض الفلسطيني" الذي ما زال نفسه رغم تبدل عشرات طواقم المفاوضين الإسرائيليين ان يشتري سمكا في البحر: تنازل مذهل مقابل "تحسين احتمالات استئناف المفاوضات"؟ باختصار: المطلوب فلسطينيا وعدليا وإنسانيا وتضامنيا محاكمة من كان وراء القرار, وفتح ملف نهج "الحياة مفاوضات" وأكلافه الكارثية الكبيرة!!