بقلم : د.خالد الحروب ... 17.09.2009
فداحة هذا الرقم المخيف لا تُرى من خلال قياس نسبته إلى عدد سكان البلدان العربية مجتمعة والمقدر بـ 320 مليونا، لكن إلى الشريحة التي ينتمي إليها وهي من هم فوق سن الـ 15. وبما أن من هم فوق تلك السن يمثلون 60 % تقريبا من العرب، أوحوالي 190 مليوناً فإن ذلك يعني أن حوالي 40 % من "الراشدين" العرب، وبحسب تقارير اليونسكوالأخيرة، يعانون من الأمية الأبجدية — أي لا يفكون الحرف! تفاصيل الأرقام مرعبة أيضاً، وأكثرها فجيعة ذلك الذي يقول إن 6 ملايين طفل ممن هم في سن الدراسة لا يلتحقون بأي صفوف دراسية. هذه الأرقام والنسب "ريادية" في التردي على مستوى العالم وننافس فيها أكثر الشعوب والمناطق تخلفاً. لنا أن نعرف مثلاً أن الدول التي تصدر الخادمات للعالم العربي وينظر لها كثير من العرب نظرة دونية، مثل سيريلانكا والفلبيين، تتقدم قائمة الدول الأقل أمية، وتتفوق على معظم إن لم نقل كل البلدان العربية (ما عدا الكويت والأردن وفلسطين). في عصر تكنولوجيا العولمة وكثافة الاتصالات وفيضان المعرفة والمعلومات لا يستطيع ملايين من الأطفال العرب التمتع بالحد الأدنى من حقوقهم الإنسانية وهي التعليم. للمرء أن يتساءل وبمرارة ماذا كانت تفعل دولة الاستقلال العربي منذ عقود طويلة إذا فشلت في أهم معيار من معايير التنمية الإنسانية وهونشر التعليم الأولي والإلزامي؟
كيف تنعكس واقعة أن 40 % من "الراشدين" العرب هم أميون على الحقيقة الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والدينية، والاقتصادية في العالم العربي وماذا يترتب عليها من منعكسات؟ المعنى الأهم والأكثر مباشرة، وربما حاصل جمع كل المنعكسات الجزئية هنا وهناك، هوتكريس تقليدية المجتمعات العربية وإبطاء حركة الحداثة والتحديث على كل تلك الصعد. سيكون هذا هوالنتيجة المباشرة لسيطرة الأمية الأبجدية على ما يقارب من نصف الكتلة البشرية العربية (وتصل النسبة إلى النصف إذا اعتبرنا أن مجرد فك الحرف ومهارة القراءة الأولية من قبل نسبة كبيرة تخرجهم من تعريف "أميين"، لكن ذلك لا يعني الانتقال تماماً من الأمية). لا تتوفر أية وسيلة لاكتساب المعرفة عند هذه الكتلة العريضة سوى الوسائل الشفهية والسمعية والبصرية — وكلها خطابية وإعلامية. أي أن نصف الأمة العربية يكوّن "رأيه" عن طرائق غير قرائية تمعنية ونقدية، بل إخبارية تداولية. وهذا يتم عن طريق وسائل الإعلام بشكل رئيسي (الرسمي وغير الرسمي)، ثم وسائل الخطاب الديني (المسجد، والإمام)، ثم وسائل نقل المعرفة التقليدية — تبادل وتوارث المعلومات والأفكار من المحيط العائلي أوالقبلي أوالطائفي.
المنعكس الثاني هوأن هذه الكتلة الأمية الضخمة بسبب ترهلها الذاتي من ناحية، ولأسباب موضوعية لها علاقة بتكوينها خلال الحقبة الحديثة وتأثرها السماعي بما حولها، تصبح إما عديمة الفاعلية، أوذات فعالية غير عقلانية. عديمة الفاعلية بمعنى أن تعبئتها وحشدها وراء قضايا عصرية وتقدمية يصبح أمراً شبه مُحال. لهذا فإن جدول المهمات المتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان والمشاركة السياسية، ناهيك عن البيئة وقضايا الأنسنة المعولمة، لا يستحق من قبل هذه الكتلة النضال أوالتضحية من أجله. أوتكون هذه الكتلة، في حالات أخرى، ذات فعالية غير عقلانية. وهذا يتجلى مرارا عند وقوعها تكراراً فريسة سهلة للخطابات الشعبوية غير العقلانية التي تتوجه نحوالغرائز والعواطف عند هذه الكتلة، فتدفعها لحركة مشتتة وحادة في مساراتها إن تحركت.
المُنعكس الثالث، ومرتبط عضويا بما سبق، هوتحول هذه الكتلة وفي حالات الدمقرطة الجزئية إلى كتلة حاسمة في تحديد الخيارات الوطنية ونتائج الانتخابات. ولأن الانتخابات تقوم على قاعدة "لكل فرد صوت متساوي" فإن هذه الكتلة تصبح العنوان الأكثر ارتياداً للمرشحين لأية انتخابات، لأنها الأسهل تأثراً بالخطابات الانتخابية. وبسبب طبيعتها التقليدية والسماعية والشفاهية التي أُشير إليها فإنها بالتعريف الأقرب إلى الخطاب الديني، وتكون الأسرع استلاباً من قبل الإيديولوجيات الدينية المطروحة. والوجه الآخر لهذه السيرورة، أوبالأحرى الإشكالية، هي الخطابات الانتخابية، والإسلامية تحديدا هنا، تبدأ بتقديم تنازلات جوهرية ومواقفية كبيرة لإرضاء النزعة والقناعات التقليدية السائدة في أوساط هذه الكتلة للحصول على أصواتها. يعني ذلك أن الخطاب السياسي والثقافي العام العام ينحط أوعلى الأقل لا يبدع جوهرا جديداً (وهوما نشهده في المنطقة العربية في العقود الثلاثة الماضية، رغم كثرة عمليات الدمقرطة الجزئية والانتخابات هنا وهناك). بمعنى آخر تكرس الأمية البنية التحتية التقليدية وترسخها، بحيث تبدوأية عملية دمقرطة وكأنها إجراء "برّاني" لا علاقة له بقلب التكوين المؤسس للمجتمع — بل تغيير في الطبقة الرقيقة الخارجية حوله.
المنعكس الرابع لارتفاع منسوب الأمية في العالم العربي يضرب في عمق أي تنمية اقتصادية مرغوبة، أوتخطيط تنموي بعيد المدى. وإذا كانت نسبة البطالة في العالم العربي تعتبر من أعلى النسب في العالم، تتراوح بين 15 % إلى 20 %) فإن هناك عامل ارتباط قوي بين تلك النسبة ونسبة الأمية. وأحد التحديات الكبرى المطروحة على الحكومات العربية، منفردة أومجتمعة، في السنوات والعقود القادمة هوإيجاد فرص عمل لملايين الأيدي الداخلة إلى السوق والباحثة عن مصدر رزق دائم. وأي تخطيط بعيد المدى لن يفترض في منطلقاته الأولية توفير، أوهندسة، فرص عمل للأميين لأن ذلك ضد منطق التنمية أصلاً. لكن الواقع العملي يحتم على المُخطط النزوع لمثل هذه السياسات. ولنا هنا أن نمعن التفكير في صعوبة خلق فرص عمل "للأميين" في العصر الحديث، ذلك أنه لا مناص من الحد الأدنى من القدرة على القراءة والكتابة. قد يُقال هنا لكن بالإمكان قبول ذلك "مؤقتا" لأن الأمية في المنطقة العربية في طريقها إلى الزوال المُحتم. لكن هذه الحتمية عليها علامة استفهام لأن نسبة الأمية في السنوات الأخيرة الماضية لا تقل بل ظلت ثابتة إن لم نقل إنها زادت. والسبب في ذلك هوأن نسبة النموالسكاني في العالم العربي (من الأعلى في العالم) متروكة من دون سياسات راشدة لتأكل أخضر ويابس أي تنمية جزئية. بمعنى آخر أن نسبة التكاثر العربية توفر أعداداً ضخمة من "القادمين الجدد" إلى السوق، وإلى المدرسة، وإلى الشارع، وإلى المساكن، وإلى الفضاء العام بما يفوق قدرة أكثر البلدان العربية على الاستيعاب. عندما يتجاوز عدد الطلبة الجدد الذي سيدخلون المدرسة لأول مرة الملايين فإن ذلك يفترض بناء مدارس جديدة، وتوفير مدرسين جدد، الخ. وكذلك الأمر في فرص العمل والسكن وسواه.
بالتوازي مع كل ما سبق تبقى الإشارة إلى نقطتين مهمتين. الأولى بشأن الفرضية المُستبطنة في ثنايا المقال والتي تقول بأن الأمية تكرس التقليدية وتعادي الحداثة وتدعم الخطاب الديني. فهنا سيُقال بأن هناك شواهد وأدلة تعارض هذه الفرضية، حيث إن كثيراً من الشرائح غير التقليدية والمتعلمة والحديثة لها نفس الناقد مثلا من الحداثة والمؤيد للخطابات الدينية والتيارات الإسلامية وهكذا. وهذا صحيح لكنه لا ينفي المسار العام والتاريخي لنظرية الأمية وتكريسها للجمود والتقليد، واضمحلال الاحتمالات، فيما التعليم والحداثة يفتح باب الاحتمالات. فحتى لوحدثت انحيازات فكرية وسياسية وخياراتية باتجاه مفاجئ ما، فإن البيئة التعليمية والحداثية لا تغلق بحكم تعريفها الخيارات الأخرى التي قد تأتي في زمن آخر، أوعقب انعطافة غير متوقعة.
النقطة الثانية هنا والتي ما عاد ثمة مساحة للتوسع في نقاشها هي فكرة الأمية الثقافية وهي الأكثر رعبا من الأمية الأبجدية. ذلك أن فك الحرف والتخلص من الأمية الأبجدية لا يعني بحال نهاية المشكلة، بل ربما رسم بداياتها. فهنا تصبح المشكلة كالآتي: الكتلة الكبيرة تمتلك مهارات الأبجدية قراءة وكتابة، لكنها لا تقرأ ولا تكتب — بدليل أن عالمنا العربي الأقل في نسب القراءة في العالم. تكفي هذه الإشارة رغم ما تستلزمه من نقاش مطول، لكنها إملاءات المساحة وعدم الإثقال من يقرأ ويكتب!