بقلم : د.فيصل القاسم ... 11.10.2009
مخطئ تماماً من يعتقد أن هذه الجموع الرهيبة من الأجهزة الأمنية في العالم العربي المتكاثرة كالفئران هي للحفاظ على أمن المجتمعات وتأمين راحتها وتماسكها، بدليل أنه كلما قويت القبضة الأمنية، ازداد الفساد والتدهور الأخلاقي والاجتماعي بشكل رهيب في معظم البلدان العربية. ولا داعي للتذكير بأن إستراتيجية الدول الأمنية تعتمد غالباً على الفساد والإفساد، بحيث يتم إفساد من لم يفسد بعد. فمن المستحيل لأنظمة فاسدة أن تعيش في مجتمعات صالحة، وبالتالي لا بد من إفساد المجتمعات كي يمكن لتلك الأنظمة الاستمرار في الحكم.
صحيح أن تركيع الشعوب بالترهيب والعنف مصلحة كبرى بالنسبة للحكام كي يستتب لهم الأمن ليسلبوا وينهبوا على هواهم، وليعيثوا خرباً وفساداً في البلاد دون حسيب أو رقيب، لكن سرعان ما تنكشف عورات ذلك النوع المفضوح من الأمن، حتى لو طال الزمن، كما يحصل الآن في العديد من البلدان العربية التي حكمت شعوبها بالحديد والنار.
لقد بدأت الأزمات الاقتصادية المحدقة بالكثير من البلدان العربية تميط اللثام عن هشاشة الوضع الأمني في أكثر من مكان، وبدأت تفضح أيضاً طبيعة الأنظمة الأمنية ذاتها، التي، إما أنها عاجزة عن تحقيق أمن الحكام والشعوب في آن معاً، أو أنها موجودة بالأصل لحماية الأنظمة، وليذهب أمن المجتمعات إلى الجحيم.
ألا يحق للإنسان العربي أن يتساءل هذه الأيام: لماذا تحولت بعض أحيائنا وشوارعنا العربية إلى ما يشبه شوارع شيكاغو وواشنطن لما يحدث فيها من سرقات وسطو وجرائم وأعمال عنف يندى لها الجبين؟ لقد أصبح قتل إنسان لسرقة مبلغ زهيد من المال أمراً اعتيادياً في بعض الدول العربية. فقد راح العديد من الأشخاص ضحية جرائم كان الهدف من ورائها الحصول على ما يعادل بضعة دولارات. وقد علمت قبل فترة عن قيام بضعة شبان في إحدى الدول العربية باقتحام محل تجاري بعد غروب الشمس، فقطــّعوا جسد صاحب المحل بالسكاكين ومفكات البراغي ليسرقوا منه مبلغاً لا يتجاوز مائتي دولار. وهناك مناطق سياحية في بعض البلدان العربية لم يسلم بيت واحد فيها من السطو، لأنها ليست مسكونة بشكل دائم. والغريب في الأمر أن الناس في تلك المنطقة يتحدثون ليل نهار عن سرقة هذا البيت أو ذاك في تلك المنطقة، لكن لم يسمعوا عن إلقاء القبض على لص واحد، مما يدل على أنه طالما أن المجني عليهم من الشعوب فلا بأس أن تـُسرق بيوتهم ألف مرة. المهم أن يكون أمن الدول مستتباً وليذهب أمن الناس في ستين ألف داهية.
أين جحافل أجهزة الأمن العربية؟ أليس هناك عنصر أمن لكل عشرة أشخاص في بعض الدول العربية؟ لماذا لا تتمكن تلك الأجهزة التي تتفاخر بأنها تحصي أنفاس البلاد والعباد، وتعرف ماذا أكل المواطن بالأمس، لماذا لا تتمكن من ملاحقة اللصوص وقطاع الطرق والفاسدين الذين يعيثون خراباً وفساداً في مجتمعاتنا؟
ويذكر الزميل أحمد منصور في مقال له بعنوان "الانفلات الأمني في مصر يفوق الخيال" أنه "في يوم التاسع من سبتمبر الماضي الساعة الثالثة والنصف عصراً وفي شارع أحمد عرابي (أحد الشوارع الهامة في منطقة العجوزة في الجيزة حيث يسكن كثير من كبار القوم)، قامت سيارة ميكروباص بدون لوحات معدنية يقودها سائق دون رخصة قيادة بتهشيم سيارة المجني عليه من الخلف. ولما نزل من سيارته ليعاتب السائق فوجئ بالاعتداء عليه بالسباب والشتائم، فقام بالاتصال بالبوليس. عندها أمر صاحب الميكروباص الذي كان يجلس بجوار السائق أن يتحرك بالسيارة. لكن المجني عليه تشبث بالميكروباص، ووقف أمامه حتى يمنعه من التحرك، فأمر صاحب الميكروباص السائق بأن يدهسه. وبالفعل قام السائق - حسب رواية شهود العيان - بالتحرك بأقصى سرعة ليسحل ويدهس توفيق عبد الرحمن أمام الناس الذين تجمهروا ليس مرة واحدة وإنما عدة مرات ذهاباً وإياباً، فسحقوا لحمه وعظامه على الإسفلت أمام جموع الناس ولاذوا بالفرار".
وهناك أحياء كثيرة في بلدان عربية لا تجرؤ الشرطة على دخولها لأنه يديرها الخارجون على القانون، وأن أجهزة الأمن لا تدخلها إلا لمطاردة المطلوبين سياسياً فقط. أما غير ذلك فإن حكام هذه الأحياء هم البلطجية والمسجلون خطر الذين تغولوا على الناس وعلى الدولة والنظام في ظل تخلي وزارات الداخلية عن أمن الوطن والمواطن.
ألا ينطبق المثل الشعبي: "حاميها حراميها" على العديد من بلداننا العربية. فبعض شوارع الدول العربية مثلاً تمتلئ بألوف السيارات غير المرخصة التي تنشر الموت والرعب بين الناس. ومعظم تلك السيارات تعود ملكيتها لضباط في وزارات الداخلية، وبذلك يكون بإمكانها الإفلات من الملاحقة، وليفعل سائقوها الأفاعيل في شوارعنا. وقد امتلأت الشوارع في بعض البلدان العربية أيضاً بألوف الدراجات النارية التي لا تحمل أي تراخيص. وهذه الدراجات تعيث إزعاجاً واضطراباً في الشوارع تحت سمع وبصر الشرطة، فهي تحدث أصواتاً مرعبة في الشوارع ضاربة عرض الحائط بمشاعر الناس وراحتهم، وكأنه نوع من الإرهاب المنظم للسكان، ناهيك عن أنها تتسبب في حوادث مروعة. وليس هناك من يردع سائقيها الذي يروعون الأهالي في منتصف الليالي، فطالما يطلق سائقو تلك الدراجات العنان لأصوات دراجاتهم الرهيبة لتوقظ الناس من نومهم في ساعات متأخرة من الليل بطريقة سافلة وحقيرة كسائقي الدراجات. ولو سألت أحد المسؤولين عن هذا الإرهاب اليومي الذي تحدثه الدراجات للناس لوضع اللوم على "السائقين السفلة الذين يفتقرون إلى التربية الحسنة في بيوتهم". ولو سألت ضحايا هذا الإرهاب لأشاروا بالبنان فوراً إلى كبار المسؤولين الذين يستوردون كميات هائلة من تلك الدراجات ثم يبيعونها للناس من أجل الربح السريع دون النظر إلى الرعب الذي تحدثه في الشوارع والتسبب في حوادث مخيفة.
لقد بدأ الناس يصرخون، لكن على نطاق ضيق، مطالبين الدول العربية بأن تزيد من اهتمامها بأمن الناس ومصالحهم وراحتهم قبل أن يأخذوا حقوقهم بأيديهم من أولئك الذين يوسعونهم رعباً وتوتراً. لكن وزارات الداخلية العربية، على ما يبدو، تفرغت للأمن السياسي طوال السنوات الماضية، ونسيت أن دورها الأساسي هو أمن الوطن والمواطن وليس فقط "تلفيق التهم السياسية للمعارضين واختلاق القضايا الوهمية والزج بالآلاف في السجون دون محاكمات".
إن التشجيع على الجريمة العامة بكل أشكالها في المجتمعات العربية أصبح سمة بارزة لأن الكثير من الأنظمة ليس مشغولاً بشيء سوى أمنها ومصالحها الخاصة. أما أمن الشعوب فلا يستحق سوى السحق والسحل تحت عجلات البلطجية وسكاكين اللصوص والقتلة والمجرمين.