بقلم : حنان عارف ... 03.11.2009
زميلنا أحمد ينتمي إلى شريحة المثقفين (الثوريين) المؤمنين أيما إيمان بضرورة قلب المجتمع رأساً على عقب والتخلص من العادات البالية والتقاليد الزائفة, نجلس معاً في نفس المكان على نفس الطاولة نتناول القهوة عند الصباح مع عدد من الصديقات والأصدقاء,
نثرثر كثيراً في شتى المجالات, نتحدث في الفكر والسياسة والثقافة والمجتمع, نشكو همومنا, ونصور أحلامنا وآمالنا.
كان أحمد يدعونا إلى مكتبه لتناول القهوة ومتابعة الحديث الذي بدأ بالأمس, وفي الغد نرد له الدعوة ونكمل الحديث.
اجتماعاتنا لم تكن تدور في الثقافة والفكر و.... وإنما أيضا في الحب! كنت ألمح نظراته المليئة بالحب تجاه زميلتنا سلمى التي بادلته ما بدأه وأصبحا يشكلان معا ثنائياً جميلا متشابهين في الفكر والثقافة والتحصيل العلمي والمادي.
بدأت قصة حب وانتهت فجأة حين أعلن أحمد لسلمى ذات مرة: " أحبك.. ولكن لن تكوني زوجتي!".
عاتبتُه على فعلته فأخبرني بالحقيقة التي صدمتني أنا أريد زوجة ولا أريد حبيبة فإن كان طيلة تلك السنوات استطاع أن يكون غير ما هو عليه إلا أنه حين حانت ساعة (الحقيقة) عاد إلى نا أريد تربته الأولى.
إذ لازال خوف أحمد قابعا في داخله بمجرد أن تدوس قدمه أرض قريته في أقصى الشمال الشرقي فتحكمه عادات تعتبر مجالسة النساء فيها تقليل من قيمة الرجل.
وحين قرر والده أن يُزوجه لينجب للعائلة "كومة" من الأحفاد , اختارت والدته فتاة من القرية وحُدد موعد الزواج ودُعي أحمد إلى زواجه كأي ضيف عادي.
ذهبنا لنقوم بواجب المباركة, وبمجرد دخولنا المنزل انقسمنا إلى مجلسين رجالا ونساء كل على حدة.
في القسم النسائي...استقبلتنا فتاة جميلة خجولة يبدو من ملامح وجهها وتضاريس جسدها أنها بالكاد تبلغ السابعة عشرة من عمرها ما يعني أن هناك سنوات لا تقل عن الثلاث عشرة تفصل بين الزوجين.
اليوم مضى على زواج زميلنا أحمد حوالي 11 سنة وهو الآن أب لخمسة أطفال يمشي متبخترا رافعا ظهره الحاني من همهم مفاخرا بالقول انه أب لخمس أطفال أربعة منهم من الذكور وينتظر المزيد.
أحيانا أتخيل منزله الذي يحوي خمسة ذكور مقابل اثنتين من الإناث وهل تستطيع هاتان الضلعان الضعيفتان أن تقفا بوجه خمسة ذكور؟
قطع شرودي وتفكيري وأنا أسير في الشارع منظر امرأة تنظر إلي وابتسامة تزين وجهها الشاحب رأيتها خارجة من عيادة طبيب نسائي لم اعرفها أمعنت النظر وأنا اقترب منها.. آه نعم إنها هي العروس الجميلة الصغيرة –زوجة زميلنا أحمد – لكنها اليوم تشبه نفسها وليست هي نفسها ربما أمها أو أختها الكبيرة.
تساءلت وأنا أصافحها أين اختفت تلك الفتاة الصغيرة المليئة بالحيوية والنشاط الرشيقة المتفائلة تلك الطفلة التي استقبلتنا بمرح في ذلك اليوم في منزلها! ومن هذه المرأة الشاحبة المريضة الضعيفة التي تجر أقدامها لتتمكن من السير واضعة يدها على ظهرها من شدة الألم!
أخذت تحدثني وابتسامة على شفتيها لم تشبه التبسم بشيء إلا تباعد الشفتين عن بعضهما راسمة خطوطا على خديها أضيفت إلى خطوط وجدت مسبقاً سببها المرض والإرهاق والتقدم في العمر الذي جاء قبل أوانه بكثير.
سرنا معا وكان علي أن انتبه لخطواتي حتى لا اسبقها فقد كانت حركتها بطيئة نظرا لآلام مبرحة تعاني منها في الظهر والمفاصل عامة وقد أرجعت السبب إلى أعمال البيت التي لا تنتهي بالإضافة إلى مهمة تربية خمس أطفال.
سألتها: ألا يساعدك زوجك؟ وقبل أن أكمل نظرت إلي بدهشة واستغراب واستنكرت مجرد التفكير بالموضوع قائلة: هذا عمل النساء وليس على الرجل أن يقوم بأي شيء!!
رافقتها حتى باب منزلها ودخلت نزولا عند رغبتها تأملت المكان منزل جميل لكنه صغير بعض الشيء نظرا لعدد الأشخاص القاطنين فيه وهم في ازدياد كل عام كما يبدو , تحاول جاهدة أن تبقيه نظيفا ومرتبا ولكن ومع وجود خمسة أطفال تبدو المهمة شاقة بعض الشيء.
و ما أن دخلت "صباح" المنزل حتى رأيتها تخرج عن نفسها لتنقسم خمسة أو ستة أجزاء تتوزع في أرجاء المنزل جزء يدخل إلى المطبخ لإعداد وجبة طعام للطفل الصغير الباكي وتلقي نظرة على الغسالة لترى إن أنهت دورتها حتى تقوم بنشر الغسيل, وجزء يدخل الحمام لمساعدة طفل آخر, جزء ثالث يهرع ليفض عراكا بين طفلين, ليغيب رابع في المطبخ من جديد لإعداد القهوة والقيام بواجب الضيافة, وخامس عليه مساعدة طفل أيضا بفروضه المدرسية رافضا هذا الطفل العنيد أن يؤجلها ساعة أخرى حتى لا تتضارب مع موعد برامج الأطفال الذي يليه موعد اللعب الذي لا ينتهي.
في هذه الأثناء اقتربت من الطفل الأكبر سنا بالعائلة وسألته:" ألا يحزنك ما أصاب أمك من مرض! لماذا لا تقوم بمساعدتها في أعمال المنزل وتربية إخوتك الصغار؟ "
عندها أصبت بالرعب لرؤية نظرة شرسة تلمع في عينيه وقال لي وكأن لسان حاله يقول أن هذه الفتاة مجنونة بالتأكيد: "هذا العمل للنساء فقط وليس لي وعندما تكبر أختي الصغيرة ستساعد أمي وتقومان بخدمتنا معاً, أما أنا إن قمت بهذا العمل سأغدو مضحكة لأصدقائي في الحي وأقربائي في القرية هذا ما يقوله والدي أيضاً".
عادت والدته إلي تحمل بيدها اليمنى صينية القهوة وباليسرى تسند طفلها الرضيع إلى جانبها الأيسر مستعينة بخصرها خوفا عليه من أن يقع.
وضعت القهوة وطلبت مني بلطف الإمساك بطفلها لدقائق غادرت إلى المطبخ لتعود مسرعة من جديد وبيدها كيس مليء بالخضروات جلست متأوهة من الألم وضعت طفلها على صدرها ليتناول طعامه ويداها تقومان بتقشير الثوم وتقطيع البطاطا من اجل إعداد وجبة الغداء بالوقت المناسب فقد أخبرتني بعد لحظات من الصمت المؤلم أن مشكلة كبيرة قد تقع في منزلها إن عاد زوجها ولم يكن الطعام جاهزا بانتظاره وهذا ما حدث مرة حين تأخرت عن الموعد المحدد بربع ساعة فما كان من زوجها – زميلنا المثقف أحمد – إلا أن قام بسكب الطعام على الأرض وتسبب بحروق في قدميها لا تزال آثارها حتى الآن لم استطع النظر إليها حين أشارت إلى مكان الحرق فقد هلعتُ من الفكرة أكثر من هلعي من شكل الحروق في قدمها.
هذه المرأة التي تبلغ الثامنة والعشرين من عمرها لكن شكلها الخارجي يوحي بأنها تجاوزت الأربعين ووضعها الصحي يصلح لأن يكون لامرأة في الخمسين أو الستين أما عن حالتها النفسية فأي شخص منا يستطيع أن يتخيلها إن هو أغلق عينيه لخمس دقائق ووضع نفسه مكانها.
من جانبي أنا لم أستطع إكمال الدقائق الخمس ومجرد الفكرة أصابتني بالجنون, شعرت بالاختناق ودعتها مسرعة وهرعت إلى الباب ما إن خرجت حتى أخذت نفسا عميقا مسحت العرق عن جبيني وسرت مذهولة في الشارع انظر إلى وجوه النساء المارات حولي كم واحدة منهن صباح – زوجة زميلنا المثقف – بعضهن يظهر على وجوههن ما يعانين من عنف جسدي ونفسي والبعض الآخر يخفين آثار هذا العنف بالمساحيق والمبالغة في التبرج والزينة ولكن تلمح في نظراتهن معاناة سنين من المرض والتعب والإرهاق والخوف والاضطهاد والعنف وليست صباح إلا واحدة من كثيرات يشاركننا هذا المجتمع وينتمين إلى أسر يقومون بتزويج طفلة لتنجب أطفالا تلعب معهم بدلا من أن تربيهم بالطريقة المناسبة.