بقلم : احمد حامد صرصور ... 17.10.2009
كان 29.10.1956. مساء فظيع لهذا التاريخ .انا لم اشهده عينا ولكني سمعت روايات عديدة حوله . تعم سمعته باذني وجمعت كل ما سمعت من شهادات في ذهني .انا لم اكن بين الاحياء في هذا اليوم المشؤوم ولكني خرجت للدنيا بعد عدة شهور . لقد كنت جنينا قي بطن امي وسمعت كل صغيره وكبيره .لقد رفع الله عني الحجاب قابيض شعري (يوم يجعل الولدان شيبا) انه يوم الجحيم .
قي هذا التاريخ كان العدوان الثلاثي على مصر (فرنسا .بريطانيا واسرائيل) وفي قريه كفر قاسم كان الاجتياح . حيث صدرت الاوامر من قائد المنطقه بفرض منع التجوال في القرى العربيه في المثلث الجتوبي والذي كان ساريا اصلا من العاشره مساءا حتى العاشره صباحا ولكن في ذلك اليوم قدموه من الخامسه مساء.فالمثلث العزيز يرزح تحت استبداد الحكم العسكري .
اخناروا الخامسه مساء لتكون ساعه الصفر, حيث تكون الشمس ما زالت في الافق وتبقى ساعه اخرى للمغيب يستغلها الفلاحون في قطف الزيتون وحصاد الحقول , فيعودوا لبيوتهم متاخرين انهم لا يعلمون إن قريتهم تأج بالجنود المدججين بالسلاح يربضون لهم بجانب الطريق الوحيد المؤدي الى القريه. ويستغلها الجنود في الاجهاز على اكبر عدد من الضحايا .
لقد ابلغ الجنود المختار "وديع" عن امر فرض منع التجوال من الساعه الرابعه أي قبل ساعه الصفر بساعه . فرد عليهم شامخ الراس معتقدا انهم دوله عدل وديمقراطيه كما يزعمون : كيف لي إن اعيد عشرات الفلاحبن الى بيوتهم خلال ساعه .
ردوا عليه قائلين" لقد اعذر من انذر فها نحن قد ابلغناك وكل من يخالف الامر بعرض نفسه للخطر.
التفوا الى الخلف خارجين قبادرهم المختار : انا لا اعتقد انكم ستطلقون النار على طفل او امرأه او فلاح عائد من ارضه يحمل معوله ,لكنهم مضوا لحال سبيلهم بدون أن يعيروه ادنى انتباه .
فهم مختارنا المسكين من تصرفهم هذا انه مجرد فرض منع تجوال ولن يتعدى ذلك . فامر بالنداء من على سطح المسجد بما اخبره به الجنود .
دقت ساعه الصفر. رابطت مجموعه من الجنود في اول القريه كما وانتشرت مجموعات اخرى في الازقه وما زالت الشمس تتيح الرؤيه بوضوح ومصره على عدم المغيب لكي تكون شاهده على جرائم قتل متعمد وبدم بارد وخوفا من أن يأتي الليل ويسدل ستاره على هذه الجرائم . استغل جنود الازقه هذه الرؤيه ونفذوا اول جريمه لهم الا وهي ذبح اربعة من عائله شاكر الاب والام والابن والابنه وجرح اثنان لاذا بالفرار.
ثم توالت الاحداث وقي مكان اخر وفي اول القريه ذبحت المجموعه الاولى من العمال المكونه من اربعه شباب نجا منها الشاب محمود الصوص بعد أن رمى بنفسه على الارض مدعيا الموت ولم ينقذه من الموت بعد أن ارادوا اطلاق النار على الرؤوس لم ينقذه الا ظهور الراعي وابنه المفاجيء فتركوا الضحايا واتجهوا صوبهما ليحولاهما الى شهيدين .
اما المجزره الكبيره فقد توالت احداثها في بدايه القريه . حيث رضخت الشمس لاحكام الطبيعه وغابت فاسدل الظلام بستاره على القريه وموقع المذبحه مما اعطى للجزارين الاريحيه في تنفيذ مجزرتهم .ففي هذه اللحظات بدأ الفلاحون بالعوده لبيوتهم في مجموعات ,وكان الجزارون ينتظرونهم فيأمرونهم بالاصطفاف ومن ثم اطلاق حمم فوهات بنادقهم الرشاشه في اتجاههم ولم يكتفوا بذلك بل اردفوها بطلقه في الرأس ليتأكدوا من موت الضحيه. ثم يتقدم الجنود الى الامام لكي لا يرى الفلاحون الوافدون الى قريتهم منظر الشهداء .تكررت مشاهد القتل في كل زاويه وحاره في القريه ولكن المجزره الكبرى حدثت لمجموعه "رجا الحمدان" .هذه المجموعه المكونه من تسعه عشر راكبا ما بين نساء وشباب وكبار السن وطفلين .اما الطفلين فهما رياض رجا حمدان وعبد الرحيم سليم طه وسبب وجودهم مع الركب انهما وكل واحد على انفراد ذهبا لمناداة ذويهم من الحقل واخبارهم بمنع التجوال الذي سيفرض على القريه خلال ساعه. اما الاول فقد طالته رصاصات الجلاد واما الثاني وبعد أن كانت طلقه الرأس الاضافيه موجهه الى صدره بعد أن رمى بنفسه على الارض مدعيا الموت فقد انقذه بكاء اخيه الممدد بجانبه مصابا فوجه الجندي البندقيه الى اخيه فارداه شهيدا ولم يعد المحاوله إليه ونجا من المذبحه.
وصلت هذه المجموعه الى مشارف القريه على متن ناقله معده لنقل الرمل والحصا وهذا ما كان دارجا من وسائل النفل القليله في ذلك الوقت . عادت هذه المحموعه الى القريه في عجله ولكن بتاخير حيث خيم الظلام على ربوع القريه ليخبيء قسما كبيرا من احداث الجريمه.
امر الجنود السائق بالتوقف ثم النزول من الناقلة ثم الاصطفاف كالعادة .لكن رجا حمدان والذي كان رئيس هذه المجموعه والمسؤول عنتها في العمل تقدم نحو الجنود في يده بطاقه الهويه معتقدا أن هذا ما يبحث عنه الجنود فامروه بصراخ أن يعود الى الصف وما ان بدأ بالعوده حتى سمح القائد يعطي اوامره للجنود بان اجهزوا عليهم (احصدوهم) فما كان منه الا أن ركض لخلف الصف وولى هاربا راميا نفسه في احضان شجر الصبار لينجو من براثن الجلاد ولكن وللاسف الشديد ابنه الطفل والذي ارسلته امه لمناداته بقي بين الشهداء.
لقد نجا في هذه المجموعه شاب يدعى جمال الصوص الذي ما إن رأى السيد رجا حمدان يهرب حتى انطلق في اثره ولكنه لم يجرؤ على القفز في شجر الصبار الذي لم يكن بعيدا سوى عدة امتار من المذبحه فعاد ادراجه الى مكان الحدث لا يعرف ما العمل من شدة ما رآه من أهوال .اطلاق نار بكثافه , عويل الشهداء , صراخ النساء , دخان يتصاعد ممزوجا بغبار , فوضى عارمه كانه مقطع من الجحيم .وجد جمال نفسه بالقرب من الناقله وبالتحديد على جنب العجله الاضافيه للناقله فاعان نفسه على حمل جثته ووضعها فوق العجله ليتوارى عن الانظار وخاصه أن الظلام الدامس ساعده على ذلك .