أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
تقرير غولدستن : ورفض "اشتراطات القفص"!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 14.10.2009

انتفاضة الرفض الفلسطيني الواسع لقرار تأجيل تقرير القاضي الأممي غولدستن بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة تتجاوز ردة الفعل على حدث آني عابر. هي تعبر عن غضب متراكم إزاء سياسات "السلام والعملية السلمية" التي دمرت أكثر مما عمرت في فلسطين خلال الخمس عشرة سنة الماضية. الوعي الفلسطيني الشعبي والنخبوي والسياسي الذي قال لا كبيرة لقرار التأجيل ورفض كل تبريراته يجب أن يُرى على أنه مؤشر كبير على ديمومة تشبث الفلسطينين بحقوقهم مهما ساءت الظروف, وضغطت عليهم القوى الخارجية, واستعرت ممارسات عدوهم, وتردت سياسات قادتهم.
هناك ما يمكن أن يُوصف بأنه "سياسات القفص" التي أُجبر الفلسطينيون على الخضوع لها منذ أوسلو 1994 وحتى الآن. هذه السياسات هي نتاج ميزان القوى المختل والضغوط الإسرائيلية والأمريكية (والعربية) التي كانت تفتح للفلسطينيين طريقا ذا اتجاه واحد فقط, كلما تم التوغل فيه يصعب التراجع عنه. أفتقد ذلك الطريق بطبيعة الحال إلى أية مسارب جانبية يمكن التسلل إليها في حال ظهر أن نهاية الطريق مسدودة ... أو تقود إلى قفص! كان الكل يسير إلى القفص بوعي أو من دونه, وكانت الوعود والأوهام التي تسّوق للفلسطينين تقول لهم بأن حسن أدائهم في السير في ذلك الطريق, نحو القفص, سوف يؤدي إلى تغيير النهاية.
عندما استوى في الوعي الفلسطيني الرسمي, في حقبة الراحل ياسر عرفات, وبعد انهيار محادثات كامب ديفيد سنة 2000 أن الطريق يقود حتماً إلى "قفص" وليس إلى أي شيء آخر, اختلق عرفات مسارا جانبيا تمرد فيه على إحادية الطريق ذي الاتجاه الواحد - وكانت الانتفاضة الثانية. لم تنجح الانتفاضة في تغيير المسار وكانت بعض نتائجها كارثية, لأن وقتا طويلا كان قد انقضى في التوغل في الطريق الأحادي من دون الانتباه إلى ما يحدث بالتوازي من تآكل للخيارات الأخرى وتدميرها, وحرق كل مسافة من الطريق يتم قطعها بحيث لا يعد بالإمكان العودة عنها. ولأن بنية كاملة كانت قد قامت لها اشتراطاتها الخاصة. وفيها كان الوطنيون ما زالوا يأملون بأن يقود المسار إلى دولة وأن بالإمكان تحطيم القفص, وفيها أيضا كان المنتفعون يتمتعون بإغراءات وإمتيازات "القفص" الزبائنية والمالية وسواها, فيدافع هؤلاء وهؤلاء عن المسار والخيار.
بعد فشل الانتفاضة الثانية كان الجميع قد دخل إلى القفص وتم إحكام الإغلاق عليهم. صار من الممنوع على الفلسطينين التحرك خارج القفص, أو التفكير بخيارات لا يُتيحها الهامش الضيق الذي يوفره القفص. بإمكانهم أن يديروا أنفسهم وسياساتهم, وأن ينظموا انتخاباتهم, وانقلاباتهم, وصراعاتهم, ومصالحاتهم طالما بقوا داخل القفص. في مثل هذه الحالة وفي أي حالات مشابهة ينشأ إدراك مضلل ووعي زائف بين الأطراف المتصارعة داخل القفص جوهره الظن بأن "الطرف الآخر" يتحمل مسؤولية هذا الفشل أو ذاك, مما يحدث داخل القفص. إذا غاب عن ذهن أحد ولو للحظة واحدة أن جذر كارثة القفص هو من بناه أصلا, السيطرة الاحتلالية الإسرائيلية, والسياسات الأمريكية, والتخاذل العربي, وكله مجموعا دفع الفلسطينين دفعا إلى داخل القفص, فإن كل الوعي بالقضية الوطنية يظل زائفاً. لن يختلف الشيء الكثير فيما لو سيطرت فتح أو سيطرت حماس على الأوضاع داخل القفص: يتحسن وضع التنظيم وسلطته على الآخرين, لكن جدران القفص ستبقى كما هي – هذا من نراه في الضفة الغربية وما نراه في قطاع غزة.
في السنوات الأخيرة استعر الصراع الفلسطيني داخل القفص بهدف السيطرة على ما في داخله من "مكاسب". وتفاقمت السوريالية السياسية عندما صار ذلك الصراع دموياً وحرف الانتباه كليا عن حارس القفص الخارجي وصانعه والمُتحكم فيه. سوقت إسرائيل للعالم بأن المشكلة مع الفلسطينيين أنهم لا يستطيعون تدبير أمورهم وغير صالحين كشركاء يمكن ائتمانهم على إدارة شؤون قفصهم لوحدهم. إسرائيل تحكم الإغلاق على مداخل القفص ومخارجه, وتتحكم بنسب الماء والهواء الداخلة إليه, وإن غضبت تركله كله برجلها فيكاد ينهار على من فيه (كما حدث في حرب غزة الأخيرة), ثم تذهب للعالم تشتكي أن الفلسطينين لا يستحقون دولة ... ولا قفصاً! نجحت الشكوى الإسرائيلية في اختراق مساحات واسعة من الرأي العام الدولي الذي صار يحمل الفلسطينيين مسؤولية "القفص". والأسوأ من ذلك أن مساحات أخرى من الرأي العام العربي انخرطت في الدعاية الإسرائيلية بوعي أم من دونه محملة الفلسطينين مسؤولية "الفشل" لأنهم غير متحدين داخل القفص.
كلما يتلقى القفص ركلة من الخارج يتداعى من بداخله فوق بعضهم البعض ويبدأون بكيل الشتائم والتهم لبعضهم لأن هذا الطرف مال على هذا الطرف. في أوقات الصراع العصيبة داخل القفص ينسى الكثيرون الركلات التي يوججها الجنرال الإسرائيلي إلى القفص مستهزءا بكل من فيه. تُصبح الضغوط الخارجية والركلات الإعتباطية من إسرائيل ومن الولايات المتحدة قدرا من أقدار القفص التي لابد من قبولها. و كلما زادت تلك الضغوط على القفص ومن فيه اشتدت حدة الصراعات داخله وبين أطرافه المتنافسة. صار كأنه من الطبيعي أن نفهم وأن نقبل أن إسرائيل تضغط, وأن الولايات المتحدة تضغط, وأن أوروبا تضغط, وأن العرب يضغطون, وأنه ما على أهل القفص إلا القبول.
هذه المرة تفاقمت الضغوط إلى حد لا يُطاق: قيل لأهل القفص أن عليهم أن يسامحوا ركلات الجنرال الإسرائيلي ويدافعوا عنها وهي التي تجاوزت كل الخطوط الحمراء وصار العالم ينظر إليها على أنها جرائم حرب. كاد القفص ينفجر هذه المرة على من فيه وعلى من خارجه, وانتفض وعي الناس ووجدانهم الداخلي, وقد استنفدت كل طاقات الاستيعاب والأعذار والتفهم لديهم. تقرير غولدستن أطلق انتفاضة وعي ضد كل الضغوط الخارجية. أراد الناس أن يقولوا لا كبيرة وبالفم الملآن لكل من يريد أن يمحق ذاتهم الوطنية, وأن يساويهم بقاتلهم. بيد أن هذه الانتفاضة وهذا الوعي يجب أن يتم استثمارهما بإيجابية وتفادي تحويلهما إلى قوة تدمير ذاتية. يجب أن يوجهها إلى من هم خارج القفص: إلى مهندسيه, وصانعيه, وراكليه. إذا استمر الغضب موجها إلى الذات فإن ركلات الجنرال الإسرائيلي لن تتأثر وسوف تتواصل.