بقلم : رشاد أبوشاور ... 27.12.06
المتفائل هو إنسان واقعي عملي، يري قبح الواقع، ويعمل مع الآخرين علي تغييره، لأنه لا ينتظر تغيّر الحال قدريّاً، فالله لا يغيّر ما بقوم حتّي يغيّروا ما بأنفسهم.
أنا رجل واقعي، وهذا لا يتناقض مع رومانسيتي التي أحلّق بها في فضاء هذا العالم الضيّق علي الفلسطيني، فهي تمنحني توازناً يمكنني من التعامل مع واقع عفن، قاس، فّظ، لا إنساني.
منذ خرجت من رحم أمي التي لا اذكر ملامح وجهها رحمها الله، وأنا في معمعة الحياة، لا استقّر، لا آخذ نفساً، لا أتوقّف عن الركض، أحمل كتبي وأرحل من بلد عربي شقيق إلي بلد عربي أشّق منه علي الفلسطيني. حالي من حال أهلي، وبعض حالهم تسمعون عنه في العراق الذي كان شقيقاً فشققوه، فهناك يقتلون ويستباحون جزاءً وفاقاً علي عروبتهم.
حالي من حال أهلي في لبنان، الممنوعين من العمل في 76 مهنة فقط!.. وبعد كّل هذا المنع من ممارسة كّل هذه المهن، عليهم أن يتدبّروا أمرهم ويعيشوا في مخيمات يحرّم عليهم فيها أن تكون سقوف بيوتهم البائسة من الإسمنت، حتي لا يأخذوا راحتهم، فيدفعهم حسن الظّن إلي التصرّف وكأنهم في (بلدهم) الثاني!
حالي من حال كّل فلسطيني يقف أمام الشرطي، في المطارات، والحدود، وقلبه يخفق قلقاً من أن تصفّد يداه ويزّج به في سجن ما وينسي، باشتباه ما، وبتهمة ثابتة هي أنه فلسطيني، وهي تهمة من العيب إنكارها مهما كانت التكلفة ؟!
أنا واقعي إلي حّد أنني أري في شعار الوحدة الوطنيّة نكتةً يستغفل بها الفلسطينيّون، وأري في الحوار مسخرّة يضيّع بها وقتهم، فالوحدة الوطنيّة تكون كما رأيناها في فيتنام، عندما كان الكاهن البوذي بردائه الأصفر الفاقع يتصدّر صفوف المتظاهرين جنباً إلي جنب مع (الشيوعي)، ومع الوطني الفيتنامي المستقّل، المتديّن وغير المتديّن، والجميع يسيرون لهدف واحد: تحرير فيتنام من الأمريكان، وتوحيد شطري الوطن الواحد..والجميع يأكلون وجبة الأرّز المتقشّفة من هوشي منّه إلي أبسط فلاّح.
بين من ومن تتحقّق الوحدة الوطنيّة في فلسطين، وتحت أي هدف، وبمن يتحقق الهدف، وبأية أخلاق وسلوكيّات ؟!
هل الأمر في مناطق السلطة هو هكذا ؟! هل طعامنا واحد، وبيوتنا متشابهة من حيث التواضع الذي يشي بتواضع وبساطة حياة من يسكنونها ؟! هل زوجاتنا يرتدين الملابس نفسها، أم تتوجّه بعضهن إلي (الكوافير) بحراسة ومرافقة لأنها زوجة (قائد) ؟! هل أبناؤنا يقاومون معاً؟ أم ان بعض الأبناء يستشهدون، أو يجرحون ولا يجدون العلاج بحجّة التقشّف، وبعض الأبناء يديرون الشركات العابرة للبحار، في حين يكابد (الغزازوة) لعبور معبر رفح ؟!
حالة من انعدام الوزن، واهتزاز المفاهيم، وفقدان المنطق، تتحكّم بحياتنا، ومستقبلنا...
ومع ذلك فغير مسموح لنا بالتشاؤم ونحن نري فلسطينيّاً يقتل فلسطينياً، إذ المطلوب هو الإجابة علي السؤال : كيف يحدث هذا ؟!
غير مسموح لنا بالتشاؤم ونحن نسمع عن ميليشيات عشائريّة، فهذا يجب أن يستفزّنا للتساؤل : كيف انحدرت ثورة إلي درك العشائرية الجاهلة، ومن يقف وراء هذا ؟! كيف استفحلت مفهوم أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، وغيّبت سلطة القانون، وصار الشاطر بشطارته ، وقوّة أي قيادي من عدد مسلّحي عشيرته، وقوّة العشيرة من هيمنة أبنائها علي المناصب القياديّة تنظيميّاً، والمناصب العليا في السلطة ؟!.
غير مسموح لنا بالتشاؤم ونحن نري رئيس السلطة، ومعه أبوعلاء أوسلو، يعانقان (أولمرت )، الذي وعدهم بمائة مليون دولار من أموال الضرائب الفلسطينيّة، وبتخفيف الحواجز والإفراج عن بعض الأسري، ثمّ (بشيلوكيّة) أصيلة أرجأ الإفراج عن المائة مليون حتي لا تقع في يّد حكومة (حماس)، وظلّ محتفظاً بنصف مليار دولار في البنوك الصهيونيّة ! و..تبدّد الوعد بإزالة 27 حاجزاً من حوالي 520 حاجزاً تنغّص حياة الفلسطينيين، وتمزّق قراهم ومدنهم !..و..ستستأنف اللقاءات بعد هذا اللقاء (الإيجابي)!
ولأن الأسئلة تفتح باباً للتفكير، والتأمّل، دون تشاؤم أو تفاؤل، فإنني أسأل (بطلي) أوسلو اللذين عانقا أولمرت بلوعة المشتاق : ما هي العبقرية التي دفعتكما للتوقيع علي أوسلو، بدون سيادة علي المعابر، وبدون إفراج عن الأسري، وبإبقاء الاقتصاد الفلسطيني تابعاً لاقتصاد الاحتلال، و..ببقاء أموال الضرائب الفلسطينيّة في يّد سلطات الاحتلال، وبدون اتفاق حازم بوقف الاستيطان..أليس هذا استسلاماً فضحته الوقائع؟!
كيف نخرج من هذه الدائرة الجهنميّة، وأين هي العقول والنفوس الكبيرة، الصادقة والنزيهة والجريئة، والتي تنطلق من الولاء لفلسطين وشعبها، وليس العصبويّة للتنظيم، هذا علماً بأن كثيراً من التنظيمات انتهي عمرها الافتراضي، وما عادت سوي يافطات وباب رزق لمؤجرّي (اليافطات) التالفة.
لا يظنّن أحد أنني متشائم، لا، فأنا واقعي، لا تخدعني التصريحات التي تدعو لصون الدّم الفلسطيني وحرمته، فبعض هؤلاء الذين يبدون حرصاً علي الدم هم من يوتّرون الأجواء ويسممونها، فهمّهم مناصبهم وما تدّره عليهم من أموال وجاه.
أنا متفائل تاريخيّاً، أري أن فلسطين ستعود لنا، وسيعود الفلسطينيون لها، والعائدون سيحملون معهم عظامنا لتدفن في مساقط رؤوسنا، أو رؤوس آبائنا الأولين، ولكن..لكنني حاليّاً مقهور ومحزون، وغاضب، ومنرفز، وساخط..فعقلي ونفسي وروحي وضميري لا تتحمّل أن أري فلسطينيّاً يوجه فوهة بندقيته إلي صدر أخيه، وأري في هذا انحداراً أخلاقيّاً وفساداً في التربيّة الوطنيّة، وجريمة يتحمّل وزرها مضللون مصلحيون انتهازيون.
هؤلاء المجرمون يتسببون لكثيرين منّا بالموت المبكّر، يقصفون أعمارنا، ويتسببون لنا بالخزي لأنهم يقامرون بقضيتنا، وسمعة شعبنا...
قرأت قبل أيّام ملخّص دراسة نشرت في دورية يصدرها مستشفي (مايو كلينك)، تقول بأن الأكثر تشاؤماً من عيّنة الدراسة التي أجريت علي المتفائلين والمتشائمين، زادت في المتوسّط احتمالات وفاتهم بنسبة 42% عن نظرائهم الأكثر إيجابيّة، يعني عن المتفائلين...
حتي نتفاءل لا بدّ من أن نتخلّص من أسباب التشاؤم، ومن ناشري التشاؤم، ونصيحتي لأبناء جلدتي الفلسطينيين : لا تستسلموا للحزن بسبب السفلة الحراميّة ، لأننا إن يئسنا سنخسر كّل شيء: حياتنا ووطننا...
أسر فلسطينيّة كثيرة في الضفّة والقطاع الفلسطينيين، لن تجد ما تأكله يوم العيد، فلا لحم في عيد الأضحي، ولا كعك، ولا ملابس لأبناء الأسري والشهداء، وللأرامل الدموع والحسرات..فهل نتشاءم ونقعد حزاني نادبين ؟! أم نقاوم ناشري اليأس المنتفعين بالاقتتال، حلفاء الاحتلال ؟!