بقلم : د.فيصل القاسم ... 21.1.07
برز في الآونة الأخيرة مصطلح إعلامي عربي جديد هو «التحالف الصهيو-إيراني»، ويروجه خصوم إيران في العالم العربي والمحذرون من تغلغلها في عموم المنطقة، بعد أن أحكمت قبضتها على العراق، على الأقل مؤقتاً، وقويت شوكتها في لبنان وفلسطين ومناطق أخرى، وأصبحت تمتلك قوة نووية. وكي لا يعتقد البعض أننا نؤيد الأطماع الإيرانية في بلادنا، إن وجدت، لنسلــّم مع المحذرين جدلاً بأن هناك خطراً إيرانياً محدقاً بالمنطقة، كما يجادل بعض العرب، وخاصة العراقيين منهم. لكن ألا تعتقدون أن الحديث عن حلف «إيراني-أمريكي» أو «صهيو- إيراني» يبعث على الضحك والسخرية أكثر من أي شيء آخر، ليس لأنه غير خطير، فهو قد يكون في غاية الخطورة، إن وجد، بل لأن العرب، لا الإيرانيين، هم أكبر المتهافتين على التحالف مع الأمريكيين والصهاينة، إن لم نقل على الارتماء في أحضانهم «عمـّـال على بطـّـال» من أجل فتات لا يسمن ولا يغني من جوع.؟
إن الذين يحذرون من مخاطر التآمر الإيراني-الإسرائيلي أو الإيراني-الأمريكي المشترك على العالم العربي يعطوننا الانطباع كما لو أن الأنظمة العربية الحاكمة لا هم لها إلا مقارعة الأمريكان والصهاينة ليل نهار، وإنها تمضي جل وقتها في مناهضة مخططاتهم ومشاريعهم الاستعمارية، وإن أكثر ما يقلقها ويعكر صفوها هو الهيمنة الأمريكية- الإسرائيلية على المنطقة وضرورة التصدي لها بكل الوسائل. بينما معظم حكوماتنا في الحقيقة تستقتل في التحالف مع الأمريكيين والإسرائيليين حتى على حساب مصالحها، لا بل تتنافس على كسب ودهم ورضاهم.
وإذا كان هناك تحالف صهيو-إيراني من تحت الطاولة فإن التحالف الصهيو-عربي معلن ومفضوح على رؤوس الأشهاد، فالأعلام الإسرائيلية ترفرف في سماء عواصم عربية عدة «على عينك يا تاجر» بكل اعتزاز وافتخار، ناهيك عن المعاهدات والاتفاقيات التجارية والاقتصادية الاستراتيجية بين الدولة العبرية وبعض الدول العربية.
وحدث ولا حرج عن التعامل المخفي بين إسرائيل وبلدان عربية عديدة قد يصل أحياناً إلى درجة التحالف غير المباشر، بالرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية معها. وقد رأينا أثناء العدوان الإسرائيلي الأخيرعلى لبنان كيف أن بعض الدول العربية وقفت جهاراً نهاراً مع الهمجية الصهيونية ضد المقاومة الوطنية اللبنانية دون أن يرمش لها جفن، مما جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي يثني على «أولئك القادة العرب الحكماء» الذين باركوا فاشيته بحق الشعب اللبناني.
فلو أن العرب الذين يحذرون من مخاطر التواطؤ الإيراني الإسرائيلي أو الأمريكي كانوا مقاومين يتصدون للهيمنة الصهيونية على المنطقة، لصدّقنا هواجسهم ومخاوفهم مما يسمونه بالحلف «الصهيو-إيراني» المتآمر على العرب والعروبة، أما وأنهم يرون القشة في عين الإيرانيين ولا يرون الخشبة في أعينهم، فوالله إنهم منافقون أفاقون كالطبيب الذي يداوي الناس وهو عليل. كيف لنا أن نقلق من ذلك التحالف الحقيقي أو المزعوم إذا كان الكثير من العربان المتخوفين من الخطر «الشعوبي-الصهيوني» يتكالبون على التنسيق مع إسرائيل والسير على خطاها.
إن إيران، فيما لو كانوا متحالفين مع الصهاينة على تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط، قد يكونون محقين، من منطلق أنهم قوة عظمى إقليمية ناشئة لا تسمح لإسرائيل بالاستفراد بالنفوذ، وبالتالي تريد جزءاً من الكعكة الإقليمية، بينما لايمكن، بأي حال من الأحوال، تبرير التحالف «الصهيو-عربي»، لا سيما وأن إسرائيل تحتل أراضي عربية، وتنكــّل يومياً بالشعبين الفلسطيني واللبناني، وتحرق الشجر والبشر والحجر، وتتآمر على أبعد نقطة في الخريطة العربية ألا وهي السودان، مما يحتم على العرب مقاومتها بالغالي والرخيص بدلاً من عقد تحالفات ومعاهدات معها. بعبارة أخرى فإن التحالف «الصهيو- إيراني» إن وُجد، يأتي من موقع قوة، بينما لا يمكن وصف التواطؤ الصهيو-عربي إلا بالاستسلام والتخاذل والتبعية.
ليس هناك أدنى شك بأن الإيرانيين تحالفوا مع الأمريكيين، بشكل غير مباشر ومباشر أحياناً، في غزوهم للعراق، وذلك من خلال أزلامهم وعملائهم فيما يسمى بـ«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق» وغيره من الأحزاب العراقية التي صنعتها وربتها المخابرات الإيرانية كحزب الدعوة وغيره، وأطلقتها لتقتل العراقيين على الهوية من خلال «فيالق الغدر» و«فرق الموت» و«جيش المهدي الصدري الفاشي»، على حد وصف بعض العراقيين.
وصحيح أيضاً أن الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين لم يكن له ليتم من دون المباركة الإيرانية، كما اعترف نائب الرئيس الإيراني السابق محمد علي أبطحي، لكن يجب أن نعترف أيضاً بأن إيران لم تسمح لجندي أمريكي واحد بالعبور إلى العراق عبر أراضيها، فيما وضع العديد من الدول العربية بره وبحره وجوه تحت تصرف القوات الأمريكية، وربما الإسرائيلية، كي تعيد العراق إلى العصر الحجري، كما توعد وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد وأوفى بوعيده. ناهيك عن أن مناورات «النجم الساطع» الأمريكية كانت قد جرت في صحراء عربية بمشاركة أكثر من خمسين ألف جندي أمريكي وعربي للتدرب على القتال في الأراضي العراقية والخليجية حتى قبل الغزو العراقي للكويت بوقت طويل، وذلك لأن القوات الأمريكية ليست معتادة على القتال في الصحاري والفيافي. أي أن مخطط التآمر الصهيو-أمريكي- عربي على العراق كان يُطبخ على نار هادئة قبل مغامرات صدام حسين في الكويت. أيهما أخطر في هذه الحالة على الأمة العربية، التحالف «الإيراني-الأمريكي» أم «العربي-الأمريكي»؟
وحتى لو تحالفت إيران مع إسرائيل والأمريكان ضد العراق، فقد يكون ذلك مبرراً إلى حد ما، على اعتبار أن الإيرانيين خاضوا حرباً ضروساً ضد العراق لمدة ثماني سنوات حصدت أرواح مئات الألوف من مواطنيهم وكلفتهم المليارات. أما العرب الذين تحالفوا مع أمريكا وإسرائيل ضد العراق وغيره ليس هناك ما يبرر لهم جريمتهم النكراء، خاصة أن النظام العراقي السابق خاض مع «إيران» نيابة عنهم حرباً مدمرة استنزفته مادياً وبشرياً دفاعاً عن البوابة الشرقية للوطن العربي، وذوداً عن العديد من البلدان العربية التي خشيت من وصول الخميني إلى السلطة عام 1979 وإمكانية تصدير ثورته إليهم. ومما يزيد في سخرية المراقبين أن العرب الذين يحذرون الآن من خطورة إيران على المنطقة هم الذين مكــّنوها من رقبة العراق كي تصول وتجول فيه وتستبيحه على هواها، لا بل تبتلعه ليصبح عملياً جزءاً من بلاد فارس، تماماً كما توعد الخميني ذات مرة أمام الرئيس العراقي الحالي جلال الطالباني.
وقد يرى البعض في الدعم الإيراني لحزب الله في لبنان وحركات المقاومة الفلسطينية محاولة مكشوفة لخداع الشارع العربي، وكسب النفوذ في المنطقة العربية، والتغلغل فيها عبر الوكلاء المحليين، لكن حتى في هذا، فإن العرب الذي يحذرون من الخطر الإيراني يخسرون في لعبة المقارنة. فالحركات التي تدعمها إيران أبلت بلاء حسناً ضد عدو العرب الأول إسرائيل، ومرّغت أنفها بالتراب، فيما لم يقدم خصوم إيران العرب لحركات المقاومة سوى المؤامرات من أجل عيون إسرائيل. فقد وصل الأمر ببعض الناطقين بالعربية إلى تحريض حكام تل أبيب والشد على أيديها لسحق المقاومين عن بكرة أبيهم، بينما كانت الأسلحة الإيرانية التي يستخدمها المقاومون تدمر البوارج الإسرائيلية في عرض البحر، وتضطر أكثر من نصف سكان إسرائيل للنزول إلى الملاجئ ليعيشوا هناك كالفئران المذعورة.
هل يحق للعرب بعد كل ذلك أن يعيـّروا الإيرانيين بتحالفاتهم مع أمريكا وإسرائيل، إذا وجدت؟ لماذا «التحالف الصهيو-إيراني» حرام والتحالف «الصهيو- عربي» حلال زلال؟ إن حكاية العرب المحذرين من التحالف «الصهيو-إيراني» يذكرونني بقصة ذلك اللص الذي كان يحاول سرقة خروف، فلم يعرف كيف يتغلب عليه ويحمله، فمر عابر سبيل بجانبه صدفة، وأرشده إلى كيفية حمل الخروف، فلما مشى الشخص، صاح اللص معيــّراً إياه: «آه يا حرامي الخـرفان».