بقلم : هناء حمدان ... 19.5.06
الاستيطان الفرديّ كاستمرار لسياسة السيطرة على الحيّز وتهويده
مُنذ إقامة دولة اسرائيل، تبنّت مؤسّساتها المختلفة أيديولوجيا ترى في الاستيطان اليهوديّ في أرجاء الدولة هدفًا ساميًا لتحقيق السيطرة الجيو-سياسيّة. وعملت مؤسّسات التخطيط والأراضي جاهدة لضمان الاستعمال الحصريّ والقصويّ في الأرض لصالح الجمهور اليهوديّ، وذلك من خلال إقامة البلدات اليهوديّة الجديدة. في العقد الأخير، ابتُكِر شكل جديد من أشكال الاستيطان هو "الاستيطان الفرديّ" الذي يطبّق مبادئ تهويد الحيّز وتوزيع السكّان اليهود، وإقصاء الجمهور العربيّ عن الحيّز الجغرافيّ، وحصره داخل حيّز محدّد وضيّق.
يُشكّل الاستيطان الفرديّ نقاطًا استيطانيّة تسكنها، في المعتاد، عائلة واحدة، تتصرّف بمئات وآلاف الدونمات. ويُستعمل قسم من هذه الأراضي لغرض سكن العائلة، ويُستعمل قسم منها للزراعة وَ/أو السياحة؛ أمّا حصّة الأسد من الأرض، فتستلمها العائلة كي "تحافظ" عليها وتحول دون استعمال مواطني الدولة العرب إيّاها. طَرَحَ فكرةَ "الاستيطان الفرديّ" في العام 1997 مديرُ وحدة المساحات المفتوحة (الدوريّة الخضراء) آنذاك، وكانت تلك إحدى بدائل عدّة قام مدير الوحدة بعرضها على وزير البُنى التحتيّة حينذاك أريئيل شارون وعلى وزير الزراعة آنذاك رفائيل إيتان، وذلك كوسيلة لـِ "الحفاظ على أراضي الدولة"، من خلال "وضع اليد بشكل فعليّ وملموس للحيلولة دون استيلاء العناصر الغريبة عليها". وقرّر الوزيران تبنّي هذا البديل بدون التأكّد من قانونيّته، أو حتّى فحص البدائل الأخرى المقترحة. في التقرير السنويّ لمراقب الدولة ورد ما يلي:
في النقاش الذي جرى بين وزير البنى التحتيّة القوميّة حينذاك أريئيل شارون (فيما يلي: وزير البنى التحتيّة حينذاك)، وبين وزير الزراعة آنذاك، حدّد الوزراء (فيما يلي: نقاش الوزراء) وجوب تشجيع وتدعيم الاستيطان الفرديّ، وان الهدف الأساسيّ من هذا الاستيطان هو المحافظة على أراضي الدولة *2. [التشديد غير وارد في الأصل]!
يتعامل هذا الهدف (السيطرة على الحيّز) مع حضور مواطني الدولة العرب بوصفه "مشكلة" ينبغي حلّها بجميع الطرق، وبوصفه "تهديدًا" ينبغي إحباطه وإنْ كان الامر يناقض قوانين التخطيط والبناء. يتّضح هذا الهدف من خلال ما ذُكِر أعلاه، ومن خلال أقوال بعض المستوطنين وأصحاب الوظائف الذين صرّحوا لصحيفة هآرتس في تاريخ 4.3.1998 )*3. بما يلي:
"... على الرغم من المضايقة التي تسبّبها المحكمة العليا، أعتقد بعدم توافر خيار آخر. تنبغي العودة إلى الأساليب القديمة -أن نستوطن أينما استطعنا دون الاكتراث بأيّ شيء. لقد بنينا دولة بواسطة هذه الأساليب ولم ننتظر المصادقة من أحد"!!....
ثمّة سياسة حكوميّة معلنة وراء مجهود توطين الصحراء، هدفها تهويد الحيّز... النتيجة هي تقليص مجال العيش للبدو الذين يقطنون هذه المناطق ... "إنّها حرب معلنة ومكشوفة على الأرض" -هذا ما أعلنه موظّف كبير في وزارة الزراعة... أضاف: "إذا لم نكن هنا سيكون البدو هنا". [التشديد غير وارد في الأصل] !!
كرّر أفيغدور ليبرمان (مدير ديوان رئيس الحكومة العامّ آنذاك) هذه الأقوال في مقابلة لصحيفة هآرتس في تاريخ4* 4.3.1998 :
... قال مدير ديوان رئيس الدولة العامّ أمس: "يدور الحديث عن نهب أراضي الدولة. 2.8 مليون دونم من أراضي الدولة في النقب والجليل وفي منطقة خطّ التماسّ ومناطق C تمّ الاستيلاء عليها بطريقة غير قانونيّة... حسب توصيات لجنة المديرين العامّين ستُقام لجنة وزاريّة لقضايا الاستيطان... وستُعرض على الوزراء خارطة هيكليّة لتشجيع الاستيطان الفرديّ في المناطق ذات الإشكاليّة، بهدف حماية الأراضي".
"وعلى عكس المخطّطات السابقة، مثل "خطّة النجوم" التي تحدّثت عن بلدات جماهيريّة أو مدينيّة، يسكن فيها عدد كبير نسبيًّا من السكّان داخل منطقة صغيرة نسبيًّا... نتحدّث هنا عن أفراد، سيقومون بحماية مساحات شاسعة. ولهذا الأمر أكبر الأثر"... -أوضح ليبرمان. [التشديد غير وارد في الأصل] !
بعد تحديد الوزراء لهذه السياسة، شرعت سلطات الدولة بإقامة عشرات من "الاستيطانات الفرديّة" بدون عطاءات، وبدون معايير واضحة للتوزيع وبدون رخص للبناء وَ/أو تصاريح قانونيّة، وبدون فحص سياسة التطوير واحتياجاتها. أقيمت هذه الاستيطانات من خلال الالتفاف على قوانين التخطيط والبناء، وخلافًا للسياسة والمبادئ التي حُدِّدت في الخرائط الهيكليّة القطريّة التي وضعت عددًا من المبادئ نحو: التخطيط المستديم، وتركيز السكّان من خلال تعزيز وتطوير البلدات القائمة. ويتّضح عدم التلاؤم بين سياسة "الاستيطان الفرديّ" وبين مبادئ التخطيط من خلال الوثيقة التي قدّمها للمجلس القطريّ طاقمُ تاما 35, (الخارطة الهيكليّة القطريّة الحاملة للرقم 35) في تاريخ 20/7/99.
يرى طاقم تاما 35 المخاطر الكبيرة الكامنة في سياسة الاستيطان الفرديّ كوسيلة لتوزيع السكان وَ "الاستيلاء على الأرض"، والتي لم تراقَب من الناحية التخطيطيّة....
ينبغي التشديد على أنّ الامتناع عن إقامة البلدات الجديدة، كسياسة تخطيطيّة، رُسِّخ في المبادئ الأساسيّة لتاما 35؛ وذلك بغية تسخير الطاقات لتطوير وتعزيز البلدات القائمة، عَبْر تفادي تبديد الجهد والموارد.
وعلى الرغم من ذلك، ونتيجة لهذه السياسة الاستيطانيّة، انوجد في منطقة النقب 59 "استيطانًا فرديًّا" تمتدّ على مساحة تتعدّى 81 ألف دونم، وفي الشمال انوجد نحو 37 من هذه الاستيطانات، وتمتدّ على مساحة 56 ألف دونم 5* (المعلومات محيَّنة لغاية شهر شباط 2003).
الخارطة الهيكليّة "طريق النبيذ"
حضرت الخارطة الهيكليّة اللوائيّة -لواء الجنوب رقم 4/14 (التعديل رقم 24)، طريق النبيذ في هضبة النقب (جرى إيداعها قي كانون الأول عام 2004) (فيما يلي: "الخارطة الهيكليّة "طريق النبيذ"") على ضوء قرار اللجنة الوزاريّة لتطوير النقب والجليل في تاريخ 6.11.2002 (القرار رقم 2699 ، البند ج)، والذي حدّد أنّ على دائرة أراضي إسرائيل تقديم خارطة هيكليّة لـِ "الاستيطان الفرديّ" في النقب والجليل، خلال 60 يومًا للجنة الوزاريّة لتطوير النقب والجليل. أهداف الخارطة الهيكليّة "طريق النبيذ" كما أشير في تعليمات الخارطة الهيكليّة هي كالتالي:
أ. تخصيص المساحات لتطوير منطقة طريق النبيذ في هضبة النقب لاستعمالات سياحيّة وزراعيّة ووضع التعليمات لاستعمال وتطوير هذه المساحات.
ب. تحديد الفحاوى والاستعمالات المسموح بها في منطقة طريق النبيذ في هضبة النقب، لإقامة 30 مزرعة سياحيّة زراعيّة.
ت. تُشَرْعِن بشكل تراجعيّ الخارطةُ الهيكليّة "طريق النبيذ" قسمًا من الاستيطانات الفرديّة القائمة، وكذلك تمكّنُ من إقامة استيطانات جديدة؛ ومجموعها الكلّيّ هو 30 استيطانًا فرديًّا. كذلك تصون هذه الخارطة وتضمن المصلحة الحيّزيّة للمجموعة المسيطرة وتتجاهل الاحتياجات الاجتماعيّة والحيّزيّة للسكّان البدو في النقب، ولا تأخذ بعين الاعتبار أوضاعهم الصعبة، وبخاصّة سكّان القرى غير المعترف بها. في هذه الأيّام، يسكن في النقب نحو 140,000 عربيّ من البدو، يعيش نصفهم في نحو أربعين قرية غير معترف بها، بعضها قائم منذ ما قبل قيام الدولة، وأقيم بعضها بأمر من الحاكم العسكريّ في الخمسينيّات، حيث نُقِل سكّانها من قراهم الأصليّة (التي تعود إلى ما قبل عام 1948) إلى قراهم الحاليّة. وتعتبر الدولة سكّان البلدات غير المعترف بها "غزاةً لأراضي الدولة"؛ ويعيش هؤلاء اليوم بدون بنية تحتيّة وخدمات، وتحت وطأة أوامر الهدم، ويعانون من سياسة الإجلاء والقمع الحكوميّة التي تشهد تعاظمًا في السنوات الأخيرة.
عدالة: الهدف الاساسي من وراء الخارطة الهيكلية طريق النبيذ هو منع المواطنين العرب من استعمال اراضي واسعة في النقب, وضمان الاستعمال الحصريّ والقصويّ في الأرض لصالح الجمهور اليهودي.
قدّم مركز عدالة في تاريخ 24.2.2005, بواسطة المحامية سهاد بشارة ومخططة المدن هناء حمدان, اعتراضًا على الخارطة الهيكليّة "طريق النبيذ" للمجلس القطريّ للتخطيط والبناء. الاعتراض قدم باسم عدالة والمجلس الاقليمي للقرى غير المعترف بها في النقب. ادعى المعترضون, انه على الرغم من إضفاء الصبغة السياحيّة على الخارطة الهيكليّة الموضوعة، إنّ الغرض الحقيقيّ والأساسيّ منها هو "الحفاظ على أراضي الدولة" والحيلولة دون استعمال "العناصر الغريبة" لها، أي مواطني الدولة العرب. ووُضِّح هذا الهدف توضيحًا جيّدًا من خلال الأمور التي ذُكرت آنفًا، وانعكست كذلك من خلال قرار اللجنة الوزارية لتطوير النقب والجليل في تاريخ 6.11.2002، والتي ناقشت الوسائل والسبل لـِ "المحافظة على أراضي الدولة" في النقب والجليل للحؤول دون استعمال مواطني الدولة العرب هذه الأراضي، ومن بين قرارات هذه اللجنة:
أ. الاستيطان الفرديّ يشكّل وسيلة لتحقيق سياسة الحكومة لتطوير النقب والجليل والمحافظة على أراضي الدولة في النقب والجليل.
ب. سيعمل الوزراء المعنيّون على تطبيق هذه السياسة الحكوميّة من خلال ممثّليهم في مؤسّسات التخطيط.
بدل إيجاد الحلّ الملائم لاحتياجات القرى غير المعترف بها، تضمن مؤسّسات التخطيط والارض -من خلال الخارطة الهيكليّة "طريق النبيذ"- استعمالاً يهوديًّا حصريًّا لمساحات شاسعة من الأراضي. وفي المقابل، تقوم هذه المؤسّسات بإقصاء السكّان العرب والتمييز ضدّهم. وعليه، ادعى عدالة في الاعتراض ان تناقض هذه الخارطة مبادئ الإدارة السليمة والقانون الدستوريّ، إذ تقوم بتوزيع موارد الأرض الواسعة -التي تعتبر موردًا ضروريًّا لتطوير السكّان في جميع المجالات- دون الاعتماد على معايير متساوية توفّر بدورها لجميع السكان إمكانيّة الحصول عليها، وكذلك من خلال اعتماد سياسة غير عادلة في توزيع هذا المورد المهمّ، أو -بكلمات أدقّ- من أجل قطع الطريق على أيّ إمكانيّة للتوزيع العادل لموارد الأرض في المنطقة. وسيَحُول كلّ ذلك -بطبيعة الحال- دون تطوير وتطوّر السكّان العرب البدو في النواحي الاجتماعيّة والاقتصاديّة والحيّزيّة، وسيقطع الطريق على إيجاد الحلول الممكنة لمسألة القرى غير المعترف بها في النقب.
*1.مخطّطة مدن في عدالة.
*2 .تقرير مراقب الدولة 50 ب، ص 602.
*3. دنيئيل بن سيمون, "بوكي وكولي في ارض البدو", صحيفة هآرتس 4.3.1998
*4. داغر لاهاف, "مخطّط حكومي لإيقاف 'نهب اراضي الدولة'"، صحيفة هآرتس، 2.9.1997.
*5. تقرير "الاستيطان الفرديّ في لواءَي الشمال والجنوب".