بقلم : وليد دقه* ... 10.12.2009
الإضراب عن الطعام كصدمة ثانية..وصهر الوعي للأسرى:
عندما قصفت اسرائيل باجتياحاتها المتكررة المدن الفلسطينية والتجمعات السكانية بطائرات الـ F16 والأباتشي، واقتحمت بدباباتها الأحياء المكتظة بالسكان ودخلت كل زقاق وكل زاروب في نابلس وجنين ورام الله، وهدمت بجرافاتها الضخمة الـD9 البيوت على أهلها. فإن ذلك قطعًا لم يكن بهدف الملاحقة والقضاء على مجموعات صغيرة من المقاتلين الذين أكثرما في تسليحهم وأعظمه بندقية الكلاشين.. وحيث لا يملكون أي خبرة أو تدريب عسكري يذكر.
إن الأمن، وتحديدًا أمن جنودها المدججين والمحصنين خلف ترسانة من الأسلحة والحديد كان سببًا مباشرًا وميدانيًا قد يفسر مثل هذا الإستخدام المكثف للنيران والعنف والدمار. لكنه لا يفسر الهدف الرئيسي الذي تريد إسرائيل تحقيقه من خلال هذا الدمار الذي كان يستمر في أحيان كثيرة بعد انتهاء المعارك.
إن الهدف الرئيسي هو إحداث حالة من الرعب الشديد في أوساط المواطنين الفلسطينيين وجعل كل مواطن يصل لاستخلاص مفاده أن إسرائيل بقيادتها العسكرية والسياسية فقدت أعصابها وجنّ جنونها، وأنه لم يعد هناك قانون أو محرم من المحرمات في الحرب قادر على ضبطها. وقد رافق ذلك تصريحات لمسؤولين اسرائيليين تعزز مثل هذا الإعتقاد. وقد أعطيت التصريحات صدى إعلاميًا مقصودًا لتحقيق هذا الغرض. وانتشرت في المقابل تصريحات ومواقف لقادة ومحللين سياسيين فلسطينيين تطالب الأجنحة العسكرية للفصائل بالتوقف عن إعطاء الذرائع والمبررات لشارون وحكومته في الإستمرار بالقتل والتدمير العشوائي. واستندت هذه المواقف والتحليلات على فرضيتين؛ الأولى أن هذه الحكومة الإسرائيلية فعلاً جنّت فلا يجب إعطاء "هذا المجنون شارون مراده". وكأننا لا نتحدث عن دولة لها مصالح ويضبطها منطق أهدافها. "فالجنون" كما يتضح كان استراتيجية تستند إلى الكثير من حسابات العقل.. والفرضية الثانية هي أن الهدف الإسرائيلي من التدمير، وقف العمليات المسلحة لأجنحة فصائل المقاومة. وقد أعلنت هذه الأجنحة أكثر من مرة وقف العمليات وإعطاء فرصة للحوار لكنها قوبلت اسرائيليًا بالإغتيالات والمزيد من القتل. وكان أبرزها الهدوء الذي أعلن عنه قبل اغتيال رائد الكرمي قائد كتائب شهداء الأقصى في مدينة طولكرم. الأمر الذي يؤكد أن العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي لا علاقة لها بوقف أو عدم وقف العمليات من قبل فصائل المقاومة. فقد بدأت إسرائيل حربها بهذه الذريعة، لكن استمرار عدوانها لا يتوقف بانتفاء العمل المسلح الفلسطيني، أو كما كانت تسمية القضاء على "البنية التحتية للإرهاب".
لقد أرادت إسرائيل كما كان يصرح قادتها صباح مساء "جباية ثمن باهظ" ليشكل حالة من الصدمة الشديدة للفلسطينيين يؤسس عليها لاستثمارها في صياغة وعي الفلسطيني، بعد ضرب "البنى التحتية المعنوية" للمقاومة، يمكن لسقف شارون وحكومته في رؤيتهم للحل التعايش معه، لا سيما وأن إسرائيل بيمينها و"يسارها" اعتبرت أن الخلل الأساسي لدى الفلسطينيين هو ارتفاع سقف آمالهم وطموحاتهم، وبالتالي لا بد من تخفيض هذا السقف الذي تجرأ على قوة الردع لجيشها. الأمر الذي مردّه باعتقاد شارون، اتفاقيات أوسلو التي عارضها منذ البداية.
مثلما كانت الصدمة في تجارب الدكتور كميروون لم تكن بهدف علاج مرضاه، وإنما خلقهم من جديد عبر مسح ذاكرتهم وغرس ذاكرة جديدة بالعودة مرارًا وتكرارًا على رسائل صوتية مسجلة يبثها لهم حيث تحمل مفاهيم وسلوكيات جديدة ينوي غرسها بهم[15]، فإن الصدمة التي أرادت إسرائيل إحداثها في عقل ونفس المواطن الفلسطيني هي أيضًا لم يكن هدفها الأساسي إنهاء عمل الفصائل الفلسطينية المسلحة بجعل فكرتها أي المقاومة، مكلفة. وإنما محو مجموعة المفاهيم والقيم التي تشكل البنية التحتية المعنوية للمقاومة. وأولها مقولة الشعب والقيم الوطنية الحامية للنضال والمناضلين، واستبدالها بقيم ما قبل وطنية يسهل عليها التعامل معها. بكلمات أخرى إسرائيل أرادت للدمار والقتل إحداث صدمة من شأنها أن تفقد المجتمع والنخب الفلسطينية القدرة على التفكير المنطقي والمتوازن بما يسهل عليها عملية غسيل الدماغ الدماعي دون مقاومة. وعلى الأقل أن تحقق استدخال مفاهيم وقيم تفرغ أطرها القائمة من محتواها المقاوم.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف لم تكتف إسرائيل بالدمار والقتل، وإنما تبعتها بمجموعة من الخطوات والإجراءات بدءًا بتقطيع الأراضي المحتلة إلى معازل وانتهاءً بموافقتها، إن لم يكن بدفعها، على خطة دايتون. هذا تمامًا يتطابق ومراحل تجربة الصدمة على المرض في معهد "أولون" في جامعة ميكيجن. فبعد "قصف" عقول مرضاه بكافة أنواع المخدرات والضربات الكهربائية، قام الدكتور كميروون بعزلهم عن العالم الخارجي بزنازين انفرادية، وعطل حواسهم بتغطية آذانهم وعيونهم وأكفهم حتى يفقدوا الإحساس بالزمان والمكان[16]. ليصبحوا غير قادرين على تحديد هويتهم الذاتية. وهذا بالضبط الغرض الذي تؤديه عملية تقطيع الأراضي المحتلة إلى معازل في إطار خطة صهر الوعي. فالفلسطيني غير قادر بهذه الحالة من رؤية ومتابعة المشهد الوطني بكامله، وهو غارق في هموم وتفاصيل الجزء الذي يعيشه من الوطن فيكفّ بحكم العادة والتكرار ومرور الزمن عن التفكير كمجتمع متكامل. لتأتي مرحلة "إسماع الرسائل الصوتية المسجلة"[17]، أو عملية غرس المافهيم الجديدة. وهذا ما تؤديه خطة دايتون. فخطورة ما في هذه الخطة باعتقادنا ليس بعدها الأمني، وإنما القيم التي يربى عليها مئات الشباب ممن يتم تجنيدهم في إطار الأجهزة الأمنية. وممن يفترض أن يكونوا عماد أي حركة تحرر في نضالها ضد المحتل. فكما استبدلت "الثورة" بـ "السلطة" فقد استبدل "النضال" في تعبئة هؤلاء الشباب "بسيادة القانون" و "المقاومة" بضبط الأمن ومنع "فوضى السلاح". وقد استدخلت هذه المفاهيم فئات من المجتمع الفلسطيني جراء أخطاء فاحشة مورست أثناء الإنتفاضة.
وقد أصبح اليوم رفاق النضال ليسوا خصومًا، كجزء من موقف سياسي، وإنما أعداء كجزء من عملية تعبوية تربوية وثقافية. واحتل في أحسن الأحوال شعار "محاربة الفساد" مكانة مرموقة في الخطاب السياسي بدل "الحرية والإستقلال"، وهو شعار من المفترض أن ترفعه أحزاب ويحتل مثل هذه المكانة، في دول "شبعت" استقلالا لا في بلد ما زال يرزح تحت الإحتلال.
لا أحد عاقلا يعارض "سيادة القانون" أو حتى محاربة "فوضى السلاح" لكن هذه الشعارات وغيرها لا تطرح في سياق خطاب حركة التحرر التي تناضل ضد الإحتلال وفي إطار استراتيجيتها وبرنامجها، وإنما تطرح لتغييبها وتغييب القيم التي من المفترض أن يتم اشتقاقها منها كونها العنوان الرئيسي للمرحلة.
نحن وعلى كل حال لسنا في هذه الدراسة بمعرض تقييم مدى نجاح وفشل تطبيقات عقيدة الصدمة وتداعياتها في الأراضي المحتلة. الأمر الذي يستحق الدراسة من قبل دارسين وباحثين أكثر جدية منا نحن في ظروف الأسر. وإنما أردنا عرض المناخ العام، والأصح بعض من مناخ الصدمة العامة التي يجري في ظلها مواصلة العمل على تطبيقها تجاه الأسرى، ففي السجون لا تختلف تطبيقاتها إلا من حيث الحجم، وذلك سعيًا لصهر وعي ما يزيد عن أحد عشر ألف أسير فلسطيني ممن أطلقت إسرائيل عليهم نواة الإنتفاضة الصلبة.
لقد كانت تصل أفواج الأسرى تباعًا يوميًا وبالعشرات، وبدت السجون ما يشبه يوم الحشر، وكان من السهل ملاحظة الذهول والإرتباك على الوجوه، لكنه لم يكن ارتباكـًا كافيًا بنظر إدارة السجون للسيطرة على هذه الألوف. فبالنسبة لضباطها كان هذا الكمّ البشري خطيرا يجب استيعابه وبسرعة، والأهم السيطرة عليه سيطرة محكمة. فأن تنقل كتلة بشرية منتفضة ومقاومة إلى عنابر السجن، يعني نقل الإنتفاضة إليها إن لم يتم إحسان السيطرة عليها، وقد وقفت الأجهزة الأمنية لإدارة السجون علميًا أمام خيارين:
الأول: أن لا تتيح للأسرى الجدد التقاط أنفاسهم عبر خلق حالة من عدم الإستقرار بإجراء تنقلات دائمة لهم بين السجون، لكنها في هذه الحالة ستحول دون تشكلهم كأفراد اعتقلوا من مناطق مختلفة إلى جسم أو مجموعة تحكمهم قانونية وضوابط ما، بحيث من خلالها يمكن استقراء خطواتهم وتحركاتهم المستقبلية، الأمر الذي يجعلها قادرة على فرض سيطرتها.
الخيار الثاني: تمكين الحركة الأسيرة بأطرها القائمة من استيعاب هذا الكم من الأسرى وإدراجهم في هيكليتها الأمر الذي يعني انضباطهم للتقاليد التي تراكمت وأصبحت تنظم العلاقة مع السجان. وبالتالي سيكون بمقدور إدارة السجون من ناحية أن لا تتفاجأ بأي سلوك أو تحرك غير متوقع، ومن ناحية أخرى ستقف أمام جسم منظم ويشكل حالة نضالية ومعنوية تستنهض شعبها وقيادته السياسية.
وقد بقيت إدارة السجون تتعامل مع الأسرى وفقًا للخيار الثاني حتى نهاية عام 2003 ومنتصف 2004 إلى أن استعدت تجهيزًا وقوى بشرية للخيار الأول مستغنية عن تقاليد وأطر نظمت حياة الأسرى، لكنها في نفس الآن نظمت العلاقة مع السجان وعملت على استبدال المحتوى القيمي لهذه الأطر، أو جزء منها، وحطمت وفكفكت أجزاء أخرى كما سنلاحظ لاحقًا.
لقد رافق هذه المرحلة بالذات نقاش اسرائيلي بشأن ضرورة خلق قيادة بديلة و"شريك فلسطيني" يمكن التوصل معه إلى حل، الأمر الذي لوحظ أيضًا داخل السجون في السعي لتشكيل قيادة بديلة للأسرى من خلال فصل الرموز القيادية للفصائل وعزلهم عن باقي الأسرى في قسمين. ورغم أن العزل كأسلوب عقابي لم يكن بالجديد لكنه في هذه الحالة لم يكن عزلاً إنفراديًا كما في الماضي، باستثناء حالات قليلة، وإنما شمل أعدادا كبيرة من الأسرى ممن يشكلون الصف الأول والثاني من الكادر، وهذا كي لا يحدد العزل بزمن كما يقتضي العزل الإنفرادي من الناحية القانونية. فهو بالأساس لا يستهدف الأسرى كعقاب في هذه الحالة وإنما يستهدف خلق فراغ قيادي يتيح إفراز قيادة جديدة، والتدخل في العمليات الجارية بين الأسرى.
وإذا قلنا بأن السجون مثلت مختبرًا يتم به اختبار السياسات الإسرائيلية فإن الإجراءات في الأراضي المحتلة في بعض الأحيان تتطابق تطابقًا تامًا مع الإجراءات في السجون.
لقد عزلت القيادة الفلسطينية المؤثرة والرافضة للإملاءات الإسرائيلية في المدن الفلسطينية ومنعت من التنقل، بل وبعضها عزل عزلاً ما يوازي العزل الإنفرادي في السجون. وكما قطعت المناطق بعد الاجتياحات الكبيرة إلى معازل، بعد إحداث الصدمة، فقد وازاها في السجون خطوة شبيهة بعد الإضراب عن الطعام عام 2004 عملية فصل للأسرى في أقسام معزولة بعد أن أحدثت الصدمة المطلوبة من خلال الإضراب عن الطعام ونتائجه ليتم الإستفراد في كل قسم بمعزل عن جسم الحركة الأسيرة لتطبيق ما يشبه خطة دايتون ويوازيها قيميًا في الأسر، وذلك كله في إطار خطة صهر الوعي الذي دومًا يشكل الهدف العام والرئيسي لمجمل الإجراءات داخل وخارج السجون.
لم تعد السجون الإسرائيلية والأسرى الفلسطينيون، أو كما اعتدنا تسميتهم "الحركة الوطنية الأسيرة"، كما كانوا في الماضي قبل تسلم مدير السجون يعقوف جنوت منصبه. حيث يصف قدماء الأسرى الحال اليوم بأنه "عال ماديًا" و "متدن معنويًا" في نفس الآن. وهذا الوصف ليس مرده النوستالجيا التي قد تعيشها الأجيال وكبار السنّ منهم، حنينًا لماض اندثر. فقوم الأسرى ليسوا استثناء لهذه القاعدة، قاعدة الحنين إلى الماضي، حتى بما يتصل بحياة الأسر خصوصًا عندما يجري الحديث عن أسرى أمضوا ربع قرن أو ما يزيد من عمرهم في السجن، وإنما يعبر هذا الوصف عما جرى من متغيرات عالية نسبيًا بإنجازاتها المادية، لكنها منحطة بما تتركه من أثر معنوي وقيمي سلبي. لقد صور أحد الأسرى بعفوية وبساطة بالغة الحال القيمية للأسرى رغم البحبوحة المادية حيث قال: "كنا في الماضي مع بعض واليوم نحن على بعض". القول الذي من خلاله يمكن تلخيص مجمل المشهد الفلسطيني. لكن التناقض بين شروط الحياة الجيدة نسبيًا وبين إحساس الأسير بحالة من الإنحطاط المعنوي يعود بالأساس إلى عدم قدرة الأسرى على تعريف ما يواجهون وما يتعرضون له من قمع، فهو لا يأتيهم بأشكاله الفجة المباشرة والحسيّة، ومن ثم عدم قدرتهم على تحديد سبل ووسائل مواجهته.
وقبل أن نقف على ما اتخذته اسرائيل من إجراءات داخل السجون وتحليلها للوقوف على طبيعة التعذيب الحديث ووسائله وسبل مواجهته، فإنه لا بد من عرض سريع لبعض المقدمات التي كان من الضروري توفيرها. حتى تجعل حكومة شارون خطة صهر وعي الأسرى خطة واقعية التطبيق، بل وشاملة كما سيتبيّن لنا لاحقًا، وأن تكون إجراءاتها نافذة لغاية أدق التفاصيل في حياة الأسير وبزمن قياسي، وأن تنسجم بالتالي مع الخطة العامة لصهر الوعي الفلسطيني التي تشمل مهاما أخرى لأجهزة الدولة العبرية، كما سبق ولخصناها في نقاط ثلاث.. فقد اتخذت الإجراءات التالية: أولاً: تم تعيين رجل عنصري مثل يعقوف جنوت على رأس الهرم القيادي لإدارة السجون. عُين جنوت لمنصبه هذا في أواسط عام 2003، وتلقى دعمًا مباشرًا من رئيس الوزراء أريئيل شارون، الذي على علاقة شخصية وقديمة به منذ أن كان قائده في كتيبة المظليين 101، وقد ذللت هذه العلاقة القديمة مع شارون كل العقبات البيروقراطية والإدارية التي من الممكن أن تعيق إعادة بناء وهيكلة إدارة السجون بما ينسجم ومهمتها الجديدة التي تتجاوز مهمة إحتجاز الأسرى. حيث منحه شارون مطلق التصرف في تحديد وتطبيق سياسته. هذا بالإضافة إلى زيادة الميزانية التي أتاحت له تجهيز السجون القديمة بتقنيات ونظم حديثة تتيح له ولشرطته إحكام السيطرة على تفاصيل حياة الأسرى، وبناء سجون جديدة تستوعب آلاف الأسرى الجدد ممن يعتقلهم الجيش الإسرائيلي أو حتى يخطط لاعتقالهم في إطار الخطة العامة لعملية صهر الوعي.
ثانيًا: قام جنوت بتوحيد السياسة في إدارة السجون والإنضباط لها من أصغر شرطي لغاية أعلى رتبة ومسؤول، وأصبح واضحًا تمامًا بأن هناك "مايسترو" وقائدا ومقررا واحدا. فلم يعد هناك تفاوت في تطبيق القرارات بين سجن وآخر، وأن وجد تفاوت فهذا بقرار وضمن خطة وتوجه، ولم يعد هناك مكان للعفوية والإجتهاد، فالهامش الذي كان متاحًا لمدير المنطقة أو السجن ضاق تمامًا.
ثالثًا: عمل جنوت منذ اللحظة الأولى لتسلمه منصبه على افتعال المواجهة مع الأسرى في أكثر من موقع أولها كان سجن عسقلان الذي تم قمعه بالغاز والهراوات، وقد أسفرت هذه المواجهة عن عدد كبير من الجرحى تم نقل عدد منهم للعلاج في مستشفيات خارجية. كما عقب هذه الواقعة إجراءات نعتقد بأنها وبالنظر إلى الوراء، كانت خطوة مخططـًا لها مسبقًا، وليس مجرد حادثة تهدف إلى رفع الأسرى لمربع الإضراب المفتوح عن الطعام موضوعًا وتوقيتًا. وقد تبين لاحقًا بأن جنوت هيأ كل الشروط اللازمة حتى يشكل الإضراب عن الطعام نقطة تحول في حياة الأسرى يتم استغلالها بما سيعقبها من سياسة، أو بكلمات أخرى أراد للإضراب أن يتحول إلى صدمة ثانية (بعد صدمة الإجتياحات والإعتقالات) وقوية، تعقبها عملية صياغة وغسيل دماغ.
رابعًا: شرعت إدارة السجون في تطبيق سياسة التفتيش العاري للأسرى على نطاق واسع، واستخدمت العنف المادي والمعنوي. كما استخدمت الكلاب في التفتيش على أجساد الأسرى وأمتعتهم بهدف الإهانة والمسّ بمشاعرهم الدينية. حيث يدركون بأن الكلاب تمثل في الثقافة الإسلامية نجاسة تستوجب التطهر منها، كما استخدمت الكلاب للترويع أثناء نقل الأسرى بين السجون. وقد تركت هذه السياسة آثارا نفسية ومعنوية بالغة الشدة على الأسرى مثلت أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت بهم نحو مربع الإضراب المفتوح عن الطعام لوقف الإهانة اليومية وإمتهان كرامتهم[18].
خامسًا: تم استكمال تركيب الزجاج العازل في غرف الزيارات. وذلك لضمان الفصل بين الأسير وأسرته. فلم يعد بمقدور الأسير أن يلامس أسرته؛ زوجته وأطفاله. واقتصرت العلاقة بهم على حاسة السمع[19]. لكن الأهم ضمان وقف الصلة بالأهل قبل الإضراب تحديدًا، حيث من المعروف لإدارة السجون بأن تركيب الزجاج سيؤدي بالأسرى لاتخاذ موقف الإمتناع عن الزيارة. وهذا للإستفراد بهم بعزلهم عن أهم دائرة اجتماعية تشكل الداعم النفسي والمعنوي، فالزيارة بالنسبة للأسير ولقاؤه بأسرته يُعيد له توازنه النفسي وتقديره الذاتي وقدرته على مواصلة الصمود.
لم يسبق في تاريخ السجون الإسرائيلية بأن ألحت إدارة السجون وحثت الأسرى على خوض الإضراب المفتوح عن الطعام كما فعلت خلال الأشهر التي سبقت الإضراب في أغسطس/ آب 2004. بعد أن قامت بكل إجراءاتها آنفة الذكر، وأكملت استعداداتها لمواجهة الإضراب. وقد حاولت قيادة الحركة الوطنية الأسيرة الإنحناء لتمرير هذه الهجمة الشرسة، خاصة وأن غالبية الأسرى حديثو التجربة في الإعتقال. وذلك من خلال الإستجابة والتعاطي مع السياسة الجديدة لإدارة السجون، مع حفظ ماء الوجه مقابل تخفيف إجراءات الضغط والقمع التي تستهدف الكرامة الإنسانية والمشاعر الدينية. وقد قدم الأسرى رسائل عديدة بهذا المعنى إلا أن مدير الجسون قابلها بالرفض القاطع. حتى بدا الإضراب عن الطعام نهائيًا هو المخرج الوحيد أمام الأسرى.
لقد كان جنوت قد أعد العدة خلال عام كامل وجهز كل الإمكانيات لكسر الإضراب بوسائل حديثه تترك الأسرى في حالة من الصدمة الشديدة، أو على الأقل إمكانيات لم تعهد مثلها الحركة الوطنية الأسيرة في إضراباتها الكثيرة من قبل. إن أهم ما في الوسائل التي أعدت كان اعتمادها على نظريات حديثة في علم النفس، وعلم نفس الجماعات ونظريات في الحرب النفسية والإعلامية والتضليل تمامًا كما لو كانوا يعدون خطة يواجهون بها جيشًا جرارًا وليس أسرى مكبلين وكل ما يملكونه من سلاح هو أحشاؤهم الخاوية جوعًا. وقد جند لهذا الغرض مهنيون ومختصون في هذه المجالات من خارج المؤسسة، قاموا بتفعيل الخطة لأدق التفاصيل لما يجب أن يؤديه آخر شرطي مناوب في أقسام السجن. ولم يتركوا أي قضية أو سلوك مهما كان صغيرًا وثانويًا للصدفة أو الإجتهاد الشخصي لأحد، لا لشرطي ولا حتى لمدير السجن. لقد تبين لنا بأننا أمام منظومة من الإجراءات القمعية مخيفة في منطقيتها تمتد من سجن جلبوع شمالاً حتى نفحة جنوبًا.
لقد رافق الإجراءات التي اتخذتها إدارة السجون ضد الأسرى أثناء الإضراب عن الطعام دعم سياسي من أعلى المستويات في الحكومة الإسرائيلية. وقد صرح الوزير المسؤول عن السجون – وزير الأمن الداخلي – تساحي هنجبي، بأن الأسرى المضربين عن الطعام بمقدورهم الموت فهو لا ينوي الإستجابة لمطالبهم[20]
وقد شكلت هذه الإجراءات، التي لا تدل منفردة على وجود تعذيب فوق العادة وغير محتمل، قوة ضاغطة نفسيًا وعصبيًا، رغم أن المشهد الأبرز هو تحد وصمود، حيث ومن جملة هذه الإجراءات نذكر التالي:
1. إبقاء النور مشتعل في الغرف على مدار ساعات اليل والنهار بهدف استنزاف أعصاب الأسرى بمنعهم من النوم.
2. مصادرة كل وسيلة بحوزة الأسرى مهما كانت تافهة وبسيطة، ولكنها قد تريحهم جسديًا كمالمخدات مثلاً... أو العبوات البلاستيكية والكاسات التي قد يتم استخدامها لملء الماء ووضعها بجانب الأسرة حتى لا يضطر الأسير السير نحو الحنفية كي يشرب، ولمنع أي مظهر تضامني بين الأسرى كتوزيع الماء باستخدام هذه العبوات والكاسات على الأسرى الذين يستصعبون النهوض للشرب بمفردهم بعد أن أرهقت أجسادهم جوعًا.
3. تمت مصادرة ملح الطعام من الأسرى، حيث اعتادوا تناوله أثناء الإضراب عن الطعام حتى لا تتحول الأضرار الصحية الناجمة عن الجوع إلى عاهة أو خلل صحي مستديم. وقد استصدرت إدارة السجون قرارًا (غير مسبوق) قضائيًا من محكمة العدل العليا يجيز مصادرة الملح. كما صادرت السجائر من الأسرى، وهذا الأسلوب استخدم لأول مرة كأداة ضغط ضد الأسرى المضربين عن الطعام.
4. خلق حالة توتر وعدم استقرار وذلك بإخراج الأسرى من غرفهم بحجة التفتيش عن "ممنوعات"، رغم أنه تم تفريغ الغرف من كل محتوياتها وأبقي فيها فرشة لكل أسير. كما أجريت تنقلات للأسرى بين الغرف وأقسام السجن بشكل دائم. مرتين في اليوم الواحد أحيانًا. فبالإضافة للإرهاق الجسدي الذي يحدثه التنقل للأسير أثناء الإضراب، كان الهدف فكفكة دوائر المعارف والأصدقاء التي تشكلت على مدار سنوات الإعتقال.. وبالتالي إضعاف الدائرة المعنوية المباشرة الداعمة نفسيًا لصمود الأسير.
5. إسماع الأسرى نداءات عبر مكبرات الصوت وتوزيع نشرات تهدف إلى إضعاف قناعة الأسير بخطوة الإضراب وقيادته، كأن يبث بأن الإضراب هو خطوة دفعت بها حماس خدمة لأجندات سياسية خاصة وليس بهدف تحقيق أي مطلب من مطالب الإضراب.. أو أن القائد الفتحاوي فلان قد كسر إضرابه وتناول الطعام.. الخ.
6. إقامة حفلات المشاوي للشرطة وبعض السجناء الجنائيين يوميًا في باحة السجن، وتناول الطعام أمام أعين الأسرى المضربين وبصورة استعراضية. وقد خصصت غرفة في كل قسم لإيواء سجناء جنائيين مهمتهم الطبخ وتناول الطعام وإسماع الأسرى موسيقى صاخبة ومزعجة ليل نهار.
7. وأثناء نقل الأسرى بين السجون، أو في الحالات التي تمت فيها إحالة الأسير المضرب عن الطعام على أثر تدهور حالته الصحية إلى المستشفى أو عيادة السجن استخدم العنف وجهاز الصدمة الكهربائية لحثهم على السير بسرعة. فهذا الجهاز يستخدم في الأصل لحث الأبقار على السير. كما استخدم جهاز كشف المعادن – الميجنوميتر في تفتيش الأسرى وهم عراة تمامًا بحجة البحث عن أدوات حادة مخبأة على أجسادهم!!
8. منع المحامين من زيارة الأسرى والتواصل معهم أثناء الإضراب، وذلك لإحكام السيطرة والعزل التام عن العالم الخارجي، ومنع تسرب أي خبر عن حملات التضامن والإعتصامات الجماهيرية دعمًا للإضراب. حتى لا تشكل هذه الأخبار داعمًا معنويًا معززًا لصمودهم.
لقد واءمت إدارة السجون إجراءاتها وعدلتها أثناء الإضراب بما يتناسب والتطورات في كل سجن بل وكل قسم من أقسام السجن الواحد. فالخطوات كانت محسوبة ولم تكن مجرد تنفيس غضب أو سادية تمارس على الأسرى لمجرد تعذيبهم وإلحاق الأذى بهم. فقد استندت إدارة السجون في إجراءاتها هذه كما تبين لاحقًا لخبرات عالمية كخبرة المخابرات الأمريكية وربيباتها من الأنظمة الحاكمة في دول أمريكيا اللاتينية في سنوات السبعينيات، إن كان ذلك بطبيعة الوسائل المستخدمة لقمع الإضراب أو الأهداف الرئيسية التي يستهدفها هذا القمع. حيث يروي الأسرى، الذين اعتقلوا وعذبوا في سجون الأرجنتين على يد الطغمة العسكرية الحاكمة في شهاداتهم أمام "لجان الحقيقة" بأنهم واجهوا جهازًا كان كل جهده وهدفه منصبا ليس على انتزاع المعلومات منهم فحسب، وإنما على إرغامهم على خيانة مبدأ أساسي اكتشف محققوهم بأنه يشكل جزءا جوهريا في قناعاتهم اليسارية، وناظما لمجمل سلوكهم السياسي، وهو مبدأ التضامن والشعور مع الآخر وبمجرد وقوف معذبيهم على أهمية هذا المبدأ لدى الأسرى، وضعوه هدفًا لهم لاستئصاله عبر العلاج بالصدمة. ففي الظاهر كان هدف التحقيق الحصول على معلومات كانت في الغالب بحوزة الأجهزة الأمنية، لكنهم كانوا معنيين بأن يقوم الأسير بخيانة رفاقه فهم معنيون بفعل الخيانة ذاته للقضاء على التضامن كمبدأ[21 ]
وفي السجون السرية أو تلك التي تدار أمريكيًا بشكل مباشر مثل جونتانامو وأبو غريب كسر الأسرى وتحطيم شخصيتهم وتكوينهم النفسي عبر استخدام الإسلام والقناعات الدينية ضد الأسرى المسلمين. وقد ظهر في شهادات الأسرى الذين احتجزوا في هذه السجون مرارًا وتكرارًا شكلان أساسيان من التعذيب؛ التعرية.. ومضايقة الأسرى أثناء تأديتهم شعائرهم الدينية[ 22 ]
لقد استخدم التعري في حالة الأسرى الفلسطينيين قبل وأثناء الإضراب عن الطعام، وشكل سببًا رئيسيًا لخوضهم خطوة الإضراب. لكن مجمل الإجراءات التي اتخذت بغية قمع الأسرى استهدفت تمامًا حالة التضامن وقيم العمل الوطني المشترك. هذا التضامن الذي تبلور على مدار عقود من النضال الفلسطيني الأسير كان الحلقة الأهم التي تجمعت عليها مطارق السجان لفكها، ليس من أجل إنهاء الإضراب عن الطعام فحسب، بل ولإنهاء فكرة العمل الجماعي في أي خطوة إضراب مستقبلية[23]. فالتضامن كمبدأ حوّل الأسرى من مجموعة أفراد وفصائل تختلف عقائديًا وأيديولوجيًا لقوة لم يكن بمقدور السجان، رغم ظروف الأسر، الحيلولة دون تضامنها وتواصلها مع نضال شعبها ونضال الشعوب وحركات التحرر.
لقد كان من المستحيل تمامًا تطبيق السياسة الجديدة التي اتبعتها إدارة السجون بعد الإضراب مباشرة، دون أن يشكل الإضراب ونتائجه صدمة شديدة يصبح من خلالها الأسرى أكثر سهولة على الصيغة والإمتثال لما كان يعد لهم في إطار خطة صهر الوعي، فقد كان حاضرًا في أذهان الأسرى ووعيهم الجماعي مجموعة من المفاهيم التي تحمل بمجملها دلالات العمل الجماعي، وتمثل قيم النضال الوطني الأسير المشترك. لهذا كان لا بد من ضربة تهز مجموعة المفاهيم والقيم المشتركة للأسرى لتقضي على لجانهم وأطرهم التمثيلية بصيغتها ومحتواها الوطني القائم ليكفوا عن كونهم جسما أو كيانا وطنيا أسيرا واحدا.
لقد فشل الإضراب عن الطعام في تحقيق مطالبه، ولكن الفشل الأهم والذي ستبقى تداعياته على حياة الأسرى لسنوات، هو نجاح إدارة السجون في فكفكة السجون والأقسام المضربة الواحد تلو الآخر لتوقف إضرابها ليس بصورة منظمة وبقرار قيادي واحد وبخطوة جماعية وبالتزامن مع كافة السجون كما دخلت الإضراب، وإنما بشكل فردي وفوضوي، وبمعزل عن الخطة والإتفاق. فمدير السجون مدركًا تمامًا بصفته عسكريًا سابقًا، بأنه حتى تضمن بأن لا تعود قوات عدوك لساحة القتال مجددًا بعد انسحابها بمدة قصيرة، لا يكفي أن تحتل مواقعها وتدحرها إلى الخلف بل يجب أن يبدو تراجعها وهزيمتها أبعد ما يمكن عن الإنسحاب المنظم أو وفقًا لقرار قيادي مركزي، وفعلاً فقد كان وقف الإضراب أشبه بالفوضى منها إلى الإنسحاب المنظم، ضمن من خلاله جنوت الإنهيار الكلي للهرمية القيادية لسنوات ومعها منظومة من القيم التي تحوّل الجنود من أفراد إلى وحدات قتالية. وهكذا أصبح الأسرى مهيئين أكثر للتشكيل وتطبيق خطة صهر الوعي.....يتبع
............................
D. Ewen Cameron, “psychic Driving”, American Journal of psychiatty15. 112, No.7 (1956): 502-509
[16]. نعمي كلاين، عقيدة الصدمة (تل أبيب: الأندلس، 2009)، ص50.
[17] . المصدر نفسه، ص 45.
[18] . التفتيش العاري والمسّ بالمشاعر الدينية أسلوب تكرر في جوانتانامو وأبو غريب، وتحديدًا استخدام الكلاب. أنظر نعمي كلاين، نفس المصدر السابق، ص136.
[19] . هذه المرحلة توازي مرحلة تطويق الحواس في تجارب الصدمة بعد عزل المرض. هدفها الإستفراد بالأسرى بعملية الصياغة من جديد وإضعاف مقاومتها.
[20] . الخبر نشر في الصحف العبرية – اسم الصحيفة، التاريخ، الصفحة
[21] . نعمي كلاين، عقيدة الصدمة (تل أبيب، الأندلس، 2009)، ص 135.
[22] . المصدر نفسه، ص136. ظهرت أثناء الإضراب عن الطعام إساءات لمشاعر الأسرى الدينية كتمزيق المصاحف، رميها في الأرض أو المراحيض لكنها لم تشكل ظاهرة وبقيت حالات فردية.
[23] . كرر يعقوف جنوت مدير السجون، قبل الإضراب وأثناءه للأسرى بأنه سيعمل على أن يمثل الإضراب للأسرى وكتجربة آخر إضراب يخوضونه، وأنه لن يكون هناك إضرابات بعده "وعليكم نسيانه كأسلوب نهائيًا".