بقلم : نرين طلعت حاج محمود ... 15.3.06
هل يمكن أن تسعى المرأة لنيل حقوقها وتعمل من أجل تحقيق مساواتها مع الرجل في ميادين الحياة، إذا لم تتوفر لديها ثقة وقناعة بأنها مساوية له حقا؟
تُنشىء المفاهيم الاجتماعية الفتاة الصغيرة على فكرة أساسية؛ أنَّ الأنوثة هي الخضوع والطاعة للذكور وأنَّ شأن المرأة أقل من شأن الرجل، وتحدد للأم المكانة الثانية في بيتها وتُهيىء الطفلة الصغيرة على أنَّ واجباتها خدمة الذكور في العائلة وأنَّ العمل الوحيد الذي يمكن للمرأة تحقيقه أن تكون زوجة وتحت جناح رجل وليس زوجة بالمفهوم العصري للزواج الأُحادي الحضاري، إنما أقرب لمفهوم المرأة المُعالة، وبالتالي فدورها الخدمة والطاعة وإنجاب الأبناء الذكور لزوجها حيث تنظر هذه المرأة - بسبب التشوه الذي أصاب أُمومتها- تنظر إلى أبنائها الذين خرجوا من رحمها باعتبارهم أبناء الزوج أولا. والمرأة غير المطيعة هي متمردة، وهي أفعى يجب ضربها على رأسها كلما رفعت رأسها. والفتاة قطعة زجاج يمكن لأي كان أن يخدشها ويكسرها.
وليلى يجب أن تطيع أمها طاعة عمياء وتسير في الطريق الذي حددته لها بدقة فلا تساعد العصافير الجريحة في الطريق ولا تكلم الغزلان والأرانب لأن الذئب (الرجل) سوف يلتهمها (يغتصبها) وبالتالي تفقد حياتها (عذريتها) إن هي حاولت الاستمتاع بجمال الطريق واكتشافه والتعرف على كائناته أكثر من اهتمامها بالوصول للهدف النهائي المحدد لها مسبقا وهو الوصول لجدتها لتكرار صيغتها تماما.
والفتيات الصغيرات يُحَبِّبن بأنفسهن لحكمة إلهية بكونهن غير مرغوبات وبالتالي يلجأن لتحبيب أنفسهن لضعف موقفهن في الحياة وفي العائلة مقارنة بإخوتهن الذكور، ولكن لو أنهن نسين أنفسهن فإن الحرمان العاطفي سيكون جزائهن، ولكي تحصلن على العاطفة يجب عليهن الرضوخ والإقرار بمكانتهن الأقل بالنسبة للذكور وذلك بطاعتهن لهم.
فهل المرأة حين ستسعى لنيل حقوقها والعمل لتحقيق المساواة هي متوازنة ومؤمنة في أعماقها بأنها مساوية للرجل في ظل هذه التربية وبالنظر إلى الحالات النادرة التي تتلقى فيها الفتاة تربية لا تقوم على التمييز ولا تزعزع شعورها الطبيعي بالمساواة، وهذه حالات لا تُتاح إلا في بعض العائلات حيث يكون الأب غالبا هو من يحمل مفاهيم مختلفة عن مفاهيم محيطه، أو لدى بعض الأقليات الدينية أو الأقليات الإثنية القادمة من خارج المنطقة العربية، والأب بهذه الحالة سوف يخاطر كثيرا بمنح ابنته الثقة والحرية لأن المجتمع لن يتعاطى معها بنفس الطريقة، وسوف تجد أنَّ المرأة التي تُقر بأنها أدنى سوف تنجح أكثر في الحياة العملية والزوجية لأنها تلجأ لسلاح الضعفاء، النفاق والكذب، وهو الأسلوب الأفضل والأنجع بهذا المجتمع. ولماذا تكون المرأة مساوية للرجل بنظر المجتمع إذا كانت القوانين في الدول العربية لا تساوي بين المرأة والرجل فَتَعرُّض الإبنة لظروف زواج سيء وطلاق عسير بعد أن تتخلى عن كل حقوقها للحصول عليه، هذا كاف لإقناع الأسرة بالمثل الشعبي (همّ البنات للممات)؟
ولماذا سينظر المجتمع نظرة مساواة ويفرح بقدوم الأنثى فرحه بقدوم الذكر في مجتمعات يغيب فيها دور المؤسسات العامة التي تصون حقوق الأفراد، وحيث صيانة الحقوق مسؤولية الفرد، والأسرة الكثيرة الذكور مرهوبة الجانب وأسرة من الإناث مهضومة الحقوق حتى بالنسبة لأبسط الأمور كالعلاقة مع الجيران؟ وحين تعمل امرأة على صيانة حقوقها لن تلجأ إلى المؤسسات العامة المشلولة بل تلجأ إلى العائلة وبالتالي هي مضطرة لقبول وصاية العائلة عليها أو تلجأ لطرف آخر وهذا يعني أن تدفع مقابلا عن ذلك، أو -وهو الأفضل- أن تتنازل عن هذه الحقوق لتحفظ كرامتها واستقلالها.
حسنا وفي مجال العمل هل ستُثبت المرأة جدارة وكفاءة تجعل المجتمع يقتنع بأن المرأة ليست ناقصة عقل وأنها أهل لتحمل المسؤولية؟
طبعا ليس بالجديد على البلدان النامية القول بأن أي تحقيق وظيفي في معظم مجالات العمل (ولا نقول كلها) قائم على المحسوبية ولا علاقة له بالكفاءة والقدرة ولا يتم على أساس تقييم معايير الأداء ولا يتم اختيار احد لمنصب على أساس التوصيف الوظيفي أو أي من هذه الخزعبلات من مفاهيم علم الإدراة الحديث. والمحسوبية هي احتساب شخص على شخص آخر وفي الواقع تعني أن أُقدم لك خدمة كي تُقدم لي خدمة، وأي ترقي وظيفي أو ترفيع أو حتى أتفه دورة تدريبية لرفع مستوى الأداء تحتاج للمحسوبية.
وماذا ستقدم المرأة كي تتقدم وظيفيا؟ إما أن تقدم عنها عائلتها إذا كانت من أصحاب الصلات والنفوذ وحسب مستوى المردود الخارجي للمنصب المطلوب، أو تقدم هي بنفسها في حال عدم تمتع الأسرة بهذا النفوذ. وماذا ستقدم امرأة في مجتمع مهووس بجسد المرأة، وبعض الأحيان إذا حققت المرأة صعودا جيدا وتحقيقا ذو عائد فان الأسرة تتجاهل كيف تم ذلك لان هذا التحقيق كاف لإسكات الجميع.
فكيف نريد للمجتمع أن يعتبر المرأة مساوية للرجل في مجتمع يخلط ما بين قيمة الإنسان وتحقيقه الحياتي، وهل ستعتقد المرأة أنها فعلا مساوية له في مثل هذه التربية وغياب دور المؤسسات وسيادة المحسوبية في ظل أوضاع لا تحقق المساواة بين الأفراد، والحقوق فيه لا تُنال إلا بالقوة، والحقيقة لا تقال كاملة؟ وتتحول الابنة إلى عبء ومصدر للقلق والمتاعب بينما الابن في الواقع هو من يحقق القوة والحماية والاطمئنان للأسرة.
تتلقى الفتاة كل هذه الجرعات في التربية المنزلية وتتلقى ما هو أسوء في المدرسة حيث القصص الخرافية ذات الرموز الجنسية تتداول بين الفتيات فتزيد هذه القصص من جهلها وشعورها بضعفها ومفاهيمها الخاطئة تجاه الحياة. وأما في دروس التربية الدينية فتتعلم أنها عورة ويُعزز فيها الشعور بالذنب على أخطاء لم تقترفها وشعور بضآلة قيمة المرأة التي ستكونها مستقبلا وعدم محبة الله لها لأن أغلب أهل جهنم من النساء كما يقال لها، وأسوء النتائج ستصيب الفتاة التي تتعاطى بكل صدق وجدية مع كل ما تسمعه.
وهي تُلقن بأن الزينة -هذا الميل الفطري الطبيعي فيها- هو تبرج وكفر، وتتعلم كيف تقمع ميولها الطبيعية والغريزية وتستعملها فقط من أجل تحقيق المنافع والغايات والمآرب دون أن يكون له علاقة بشعور إنساني عميق.
وأما ما تقدمه لها الفضائيات العربية أو "شلة حسب الله" الممتدة من المحيط للخليج، فإما صورة مكررة لتلك التي تمنحها العائلة العربية الشعبية عن المرأة الأفعى أو المرأة المطيعة بجمودها وغياب الأسئلة من رأسها، وهناك الصورة الأخرى التي تقدمها برامج تعتقد بأنها برامج حضارية والتي تقدم صورة أشبه بـ "مس صيف" و "مس شتاء" و "مس كذا وكذا".. فتعتقد الفتاة المراهقة أن هذه هي الفتاة أو المرأة الأمثل وهي صورة امرأة بلا طعم ولا لون ولا رائحة ولا ملامح شخصية واضحة، وتتعلم الفتاة التكلم مثلها والمشي مثلها والتحرك مثلها فتزيد الحصار على عفويتها وتلقائيتها إن لم تكن هذه العفوية قد انتهت تماما. وتعيد رسم نفسها على تلك الصورة.
وحين يرى المجتمع المرأة في ميادين العمل والوظائف وخصوصا المرأة التي حققت منصبا ما ليكُّون مفاهيمه حول المرأة الناجحة على صعيد العمل، فإنه غالبا سيكرر المثل الشائع (الله لا يُحَكم امرأة على أُمة). حيث يجني المجتمع نتائج تربيته التمييزية بين الإناث والذكور في هذه المرأة التي تتصف بنزعاتها العدوانية الظاهرة بسبب شعور عميق بالدونية تجاه الرجال تعبر عنه بكراهية وأذية للنساء لمجرد كونهن نساء، ويذكرنها بشعورها هذا، وتمنح المجتمع صورة عن المرأة الناجحة وكأنها بالضرورة صورة امرأة مشوهة تطغى عليها نزعة التنافس المرضي والتسلط، وهي بهذا التسلط تخفف من ألمها نتيجة التربية الخاطئة، وهي امرأة عاجزة عن اكتشاف أنوثتها، أو يرى المجتمع تلك المرأة الناصلة اللون (والتعبير هنا لبيير داكو) المُلغِية لعفويتَّها وتلقائيتها تماما وليس فيها شيء طبيعي أو حيوي، وهي امرأة رسمت نفسها حسب نماذج محددة ومقطوعة عن عمقها وذات أنوثة مشوهة.
وإذا تابعنا الأفلام والمسلسلات فإن المرأة العربية هي المنافقة أو الراقصة أو الجشعة ولن تكون امرأة صالحة إلا إذا احتملت خيانة الزوج وحماقة الابن وظلم الجار وجور المدير واستبداد الأب كي تفوز بالنهاية السعيدة حين سيندم كل هؤلاء على تصرفاتهم فجأة ويعودوا إلى رشدهم، أما الرجل فهو المغلوب على أمره مع المرأة. أما في الأفلام الأمريكية، وهي الأكثر سيطرة، فالرجل "فان دام" الخارق و "ستالون" الناجح دوما، وهي أشبه بصورة الإله الشاب المحارب لدى القبائل الرعوية.
ألم يحن الوقت كي تدرك المؤسسات التعليمية ضرورة إدراج مواد جديدة في مناهجها بدل المواد الكثيرة التي تصدع الرأس وتحشو الدماغ... مواد تقدم بعض المعارف الإنسانية والمفاهيم الحديثة عن الأخلاق وتُعرف الفتيات والصبيان بأنفسهن أكثر وتدرك منها الفتاة ما معنى امرأة وتدرك منابع قوتها وتتعرف إلى تاريخها وكذلك الرجل، فقد يتعلم هؤلاء الناشئة أنَّ الفتاة الصغيرة ودودة، نعم، وتحبِّب بنفسها وتلك حكمة إلهية رائعة، نعم، ولكن ليس لأنها تشعر غريزيا بأنها أقل قيمة وموقفها اضعف من موقف أخيها وتربيتها حسنة وثواب، وإنما لأن هذه الفتاة الصغيرة هي أُم أولا وأم ثانيا وأُم ثالثا وأُم منذ يوم ولدت، سواء أنجبت أو لم تنجب، أُم وتتعاطى مع كل حياتها بدافع الأُمومة، وهي ودودة مع أبيها لأنها في أعماقها هي أُم أبيها وأُم أخيها وأُم لكل ما حولها، ولذلك فإن المرأة هي الحياة لأن الحياة هي أُم جميع كائناتها، وبهذا الشعور والحدس تتعاطى مع نشاطها، وعلى المجتمع صيانة هذا الشعور وعدم تشويهه وعدم المساس من تلقائيتها فيحولها إلى كائن شرس عدواني مغتاب مفصول عن أهم مصادر قوَّتِه، كائن بلا لون ولا طعم ولا رائحة، وكي تتعلم الفتاة الصغيرة أن ليس على ليلى الخشية من الطريق بل عليها السير فيه والعمل بما يمليه عليها شعورها الأمومي العميق فتساعد العصافير وتكلم الأرانب، بل وتفتح سلة الطعام وتأكل وتطعم أصدقاءها وتهدي السلة لمن ينتفع بها من الكائنات، وهي إن لم تفعل ذلك فكيف ستُميز الرجل الذئب الذي ينوي التهامها والرجل الثعلب الذي يريد خداعها والرجل الدولفين الودود والمحب الذي يقدم المساعدة دون مقابل و يمضي والرجل الحصان النبيل، و كيف ستكون أما، والأُم هي الحياة، وهي محجوبة عن هذه الحياة لا تتعرف حرارة الشمس ولا برودة الصقيع، وكيف ستنقل المعرفة الغريزية التي لا تنتقل بالكلمات بل بالأحاسيس إلى أبنائها وتخبرهم عن كل هذه الكائنات وهي تعتقد أن كل هذه الكائنات شريرة وتريد التهامها؟