بقلم : د.فيصل القاسم ... 4.2.07
قبل حوالي ثلاث سنوات فقدت الوزيرة البريطانية آن وينترتون منصبها كمتحدثة باسم رئيس حزب المحافظين لشؤون الزراعة بسبب نكتة سخيفة. فقد تهكمت الوزيرة أثناء تناولها الغداء مع مجموعة من الأصدقاء والصحفيين في أحد الأندية الرياضية على الجالية الباكستانية في بريطانيا. لكن سعادة الوزيرة لم تكن تدرك أن تلك النكتة السمجة ستطردها من الحكومة. فبعد ساعات فقط من وصول النكتة إلى وسائل الإعلام كان رئيس حزب المحافظين إيان دنكين سميث وقتها على الهاتف ليخبر الوزيرة بأنها مطرودة من حكومة الظل التي يرأسها. وقد برر سميث قراره السريع والحاسم بأنه يُمنع منعاً باتاً التلاعب بالنسيج العرقي والاجتماعي في بريطانيا. أو بعبارة أخرى فإن الوحدة الوطنية في البلاد خط أحمر لا يجوز لأحد تجاوزه مهما علا شأنه، وأن أي مس به سيعرّض صاحبه لأقسى العقوبات.
وعندما استخدمت ممثلة بريطانية عبارة فـُسرت على أنها عنصرية بحق الممثلة الهندية شيلبا شيتي في برنامج تلفزيوني قبل أسابيع، ثارت ثائرة الإعلام البريطاني عن بكرة أبيه لتصحيح هذا الجرم الرهيب، وانتهى الأمر بأن قامت القناة الرابعة في التلفزيون البريطاني بمنح الممثلة الهندية جائزة البرنامج الكبرى لتصحيح الخلل العنصري وسط ضجة عارمة.
وقد سنـّت الحكومة البريطانية وغيرها من الدول الأوروبية قوانين صارمة جداً لمكافحة العنصرية والطائفية والتحزب العرقي والديني، بحيث غدا النيل من الأعراق والطوائف والإثنيات والديانات في البلاد جريمة يُعاقب مرتكبها عقاباً أليماً. صحيح أن هناك ألف طريقة وطريقة للتمييز ضد بعض مكونات المجتمعات الغربية في العمل والمسكن والمعاملة وغيرها، لكن الأكيد في الموضوع أن الشحن الطائفي والعرقي والإثني والمناطقي والديني ممنوع منعاً باتاً في الغرب، وأن أي محاولة لشق الصف الوطني أو إضعاف التلاحم الاجتماعي جريمة لا تـُغتفر في الأعراف الغربية.
لقد حاولت الحركات الانفصالية في أوروبا كثيراً الانفصال، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً في بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وغيرها. فبالرغم من لجوء منظمة الجيش الجمهوري الإيرلندي إلى العنف لعدة عقود من أجل فصل إيرلندا الشمالية عن بريطانيا، فإنها لم تنجح، وقد وجدت نفسها مضطرة أخيراً للتفاوض مع التاج البريطاني، والتخلي حتى عن سلاحها. صحيح أن منظمة الباسك الإسبانية ما زالت تحاول الانفصال، لكن الحكومة الإسبانية لن تحقق لها مرادها على ما يبدو. وكذلك الأمر بالنسبة للكورسيكيين في فرنسا. ولا ننسى أن هناك ولايات أمريكية تسعى منذ زمن بعيد للاستقلال عن واشنطن كولاية كالفورنيا، لكن الانفصال مازال حلماً بعيد المنال بالنسبة لها.
وفي الوقت الذي تحافظ فيه الدول الغربية على نسيجها الوطني واللحمة الداخلية وتحميها من التفكك بضراوة عز نظيرها نجد أن التلاعب بالوحدة الوطنية في العالم العربي أسهل من شرب الماء. فقد قام الغزو الأمريكي والبريطاني للعراق في المقام الأول على سياسة «فرق تسد Divide & Rule» التي حولت العراق إلى ملل ونحل وطوائف ومافيات متصارعة ومتناحرة بعد أن كان العراق يفخر بأنه لم يعرف التمييز بين عرق وآخر أو طائفة وأخرى على مدى أكثر من ثمانين عاماً. وبينما ترفض أمريكا رفضاً قاطعاً السماح لأي إقليم بالانفصال عن المركز، نرى أن واشنطن ولندن لا همَّ لهما سوى تشجيع مكونات الشعب العراقي على الانفصال والتشرذم والاقتتال الطائفي والمذهبي الذي أودى بحياة أكثر من مليون عراقي حتى الآن ونزوح الملايين حتى بتنا نسمع عن كردستان العراق والإقليم الشيعي والمثلث السني وغيرها من التسميات الطائفية والعنصرية البغيضة.
ولا يقل الأمر خطورة في السودان، فهناك كلام عن تقسيم البلاد إلى أربع دويلات على أسس عرقية ودينية ومناطقية، ولا ندري إلى متى يظل الجنوب منضوياً تحت العلم السوداني وأيضاً دارفور، والحبل على الجرار.
وفي لبنان، حيث عادت حليمة إلى عادتها القديمة تتباهى بطوائفها المتناحرة. ومن الواضح أن القوى التي لا تريد لبلادنا سوى التمزق والتشرذم عادت لتعزف على الوتر الطائفي في لبنان بالتعاون مع لوردات وباكاوات وتجار وأباطرة الطوائف المحليين، بحيث يقف لبنان على حافة حرب أهلية طائفية ستحرق الأخضر واليابس.
إن أوطاناً تسكن على هذا الصفيح الساخن الطائفي البغيض وهذا التنوع العرقي الكثير، لابد لها من انتهاج سبيل قويم غير ذلك الطرح العليل من تأجيج النيران وإثارة النعرات، وإيجاد كافة السبل للمِّ شمل الأوطان وتوحيدها وتعزيز لحمتها لا توتيرها وتجييشها الذي سيذهب با القطاع الحساس.
إن غربان الطائفية الجرباء التي ما فتئت تنعق ليل نهار، والذين استمالوا شرائح الرعاع والغوغاء، والدهماء هذه الأيام، أفلحت في تأجيج مشاعر الفتنة وإيقاظها من سباتها، وإيغال صدور الناس بالحقد والكراهية والمذهبية والبغضاء، وضخها بالسفائف والتخاريف والتجنيات والتلفيقات والترهات البالية الجوفاء، ونزعت هويتهم الوطنية المقدسة ومسختهم وقزّمتهم إلى طوائف ومذاهب وعشائر وملل ونحل ما أنزل الله بها من ملكوت وسلطان، وأدت إلى هذه الحالة المؤسفة والمريرة من التوتر والاحتقان والتنافر وقابلية الانشطار والاستقطاب الحاد، الذي يهدد مصير وبقاء ووجود هذه الأوطان برمتها ، فهم كالبوم والخفافيش وطيور الظلام التي لا يحلو لها العيش إلا في الأنقاض والخرائب والأطلال.
وكي لا نبرئ الأنظمة العربية الحاكمة من التلاعب بالوحدات الوطنية لابد من التذكير بأن هناك أنظمة كثيرة تلاعبت بالنسيج الوطني لأغراض بغيضة. لكن هذا يجب ألا يجعلنا نغض الطرف عن الحملة الاستعمارية الجديدة التي تستهدف وحدة الأوطان بهدف تفتيتها وبعثرتها على أسس مذهبية وطائفية قذرة، خاصة إذا ما علمنا أن الاستراتيجية الاستعمارية الجديدة تقوم بالدرجة الأولى على إنهاك المجتمعات العربية اقتصادياً واجتماعياً وعقدياً كي تكون جاهزة في اللحظة المناسبة للتفكيك والتشتيت والتفتيت إلى شظايا.
لقد حاصر الأمريكيون العراق أربعة عشر عاماً، ومنعوا عنه حتى أقلام الرصاص، وجوعوا شعبه، وأنهكوه بشتى الوسائل، مما جعله في النهاية عرضة للانهيار، ومن ثم التشرذم الطائفي والعرقي والمناطقي. وبالتالي يجب أن نفهم جيداً أنه مهما كانت الوحدة الوطنية قوية ومتماسكة في أي بلد فإنها لا تستطيع الصمود إلى ما لا نهاية إذا ما اشتدت عليها الضغوط الداخلية والخارجية والمؤامرات. ولو تعرضت أي دولة غربية للضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية والدعائية كما تعرضت بعض الدول العربية كالعراق لما استطاعت الحفاظ على نسيجها الوطني. وقد لاحظنا كيف أن المسؤولين البريطانيين يخشون على وحدتهم الوطنية من نكتة بسيطة تتناول التركيبة العرقية في البلاد، فما بالك لو أنهم تعرضوا لحملات إعلامية شريرة ومسعورة لا هم لها سوى الشحن الطائفي والعرقي ليل نهار والعزف على الأوتار الاجتماعية الحساسة كما يحدث الآن في عموم المنطقة العربية.
وفي الوقت الذي نحيي فيه الغربيين على غيرتهم العظيمة على وحدتهم الوطنية، نناشدهم ألا يعبثوا بوحدتنا وأن يتوقفوا عن ألاعيبهم التقسيمية الشيطانية التي دفعت الشعوب ثمنها من استقرارها ودمائها وخبزها وحريتها. كما نناشد مشايخنا ووعاظنا ومثقفينا وإعلاميينا ومعارضينا وسياسيينا أن يتعلموا من الدول الاستعمارية التي تدافع عن وحدة بلادها بالحديد والنار، وهي على حق، فلا قيمة لأوطان تسكنها طوائف وملل ونحل وقبائل وبطون وأفخاذ متناحرة وتنام وتصحو على الصراعات الطائفية والدينية والعرقية القاتلة وتمضي وقتها بالتهديد والوعيد، وتلهي نفسها بثقافة التخوين والتكفير.
أما آن الأوان لنقتفي أثر تلك الدول، والبلدان التي تمنع التحريض الطائفي والعرقي وتجرمه بكل السبل نظراً باعتباره جريمة عنصرية ونظراً لما لذلك من أهمية على وحدة الأوطان وبقائها، ولجم جواميس، وثيران التكفير الطائفي الهائجة من أوكارها، والتي تنعق صبح مساء، ومن كل حدب وصوب وتزيد الموقف توتراً، وتوثباً، وتحفزاً، واشتعالاً؟ وبذا نتقي شر أولئك الجهلة والموتورين والمعوقين عقلياً وعزلهم والحجر عليهم ومنع خطابهم المريض من الوصول للناس ومحاولة إعادة تأهيلهم إنسانيا واجتماعياً وفكرياً، هذا إن أمكن ذلك.
المطلوب إذن أن تقوم الحكومات العربية، وعلى وجه السرعة، بسن قوانين قراقوشية مستعجلة للضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه إثارة الفتن الطائفية والمذهبية، على أن يبدأ العقاب بالمحرضين وشيوخ التكفير من كل الطوائف والمذاهب والفرق وإغلاق مواقعهم الالكترونية، ووضع حد لفوضى الفتاوى وتوزيع صكوك الغفران، ومنع الغوغائيين والمضحوك عليهم من الشباب من نشر غثائهم الطائفي والمذهبي المقزز على الشبكة العنكبوتية، فهو أمر في غاية السهولة. كما يجب أن لا تقل عقوبة مثيري النزعات المذهبية والطائفية عن عقوبة تجار المخدرات وكبار اللصوص والمجرمين والقتلة، خاصة وأن الفتنة أشد من القتل في عرفنا العربي والإسلامي. فتغذوا بالطائفيين والمحرضين وتجار التكفير قبل أن يتعشوا فينا وبأوطاننا!