بقلم : د.فيصل القاسم ... 11.2.07
لا شك أن "العراقيين الجدد" الذين تسلموا مقاليد الحكم بعد سقوط النظام السابق قد أبلوا بلاء حسناً عندما فضحوا وشهــّروا بالمستفيدين مما كان يُسمى بـ"كوبونات النفط" التي كان يوزعها الرئيس العراقي السابق على أنصاره ومؤيديه خارج العراق، والتي اعتبروها أنها كانت تذهب من قوت الشعب العراقي على الموالين والمحازبين من سياسيين وإعلاميين وفنانين وشركات ورؤساء وتجار. لقد كان ذلك فعلاً طيباً للغاية لحماية المال العام العراقي والتحذير من إساءة استخدامه مستقبلاً. وقد أخذنا الانطباع وقتها بأن النظام الجديد سيكون أحرص الناس على ثروات العراق، وسيحافظ على كل قطرة بترول عراقية. لكن هيهات! فما أبخل صدام حسين، وما أكرم خلفاءه في إهدار النفط العراقي، فبينما كان هو يعطي لحلفائه "من الجمل أذنه"، فإن الذين حلوا محله يتنازلون الآن لأسيادهم الطامعين بنفط العراق عن الجمل بما حمل، مع ترك الذيل، وربما الخـُفـّين للشعب العراقي.
وأرجو ألا يعتقد البعض أن هذه مجرد تخرصات "قومجية"، إلا إذا اعتبروا صحيفة الاندبندنت البريطانية من محازيب صدام أو "صوت العرب" الجديد. فلحسن الحظ أن الحديث عن نهب ثروة العراق هذه المرة لا يأتي من مصادر عربية تريد أن تـُفسد على أحمد الجلبي وشركاه فرحة "الديمقراطية العظيمة" التي حلت على العراق بعد سقوط النظام السابق، بل من مصادر غربية بحتة كان مفترضاً بها أن تتستر على أكبر عملية نهب نفطية في التاريخ الحديث. لكنها أبت إلا أن تسلط الضوء على ما يحدث وارء الكواليس بهدوء شديد بعيداً عن حمامات الدم التي تروع العراقيين صبح مساء. ففي الوقت الذي يتم فيه التركيز على الفضائع اليومية، هناك تعتيم شبه كامل على مستقبل البترول العراقي، علماً أن الهدف الأهم من الغزو الأمريكي للعراق هو السيطرة على النفط. لهذا على الذين كانوا يعتقدون أن هم الأمريكيين الأول أصبح معالجة الأوضاع الأمنية في البلاد أن يغيروا رأيهم، فالعم سام ومحاسيبه يمسكون السلاح بيد ومضخات البترول العراقية باليد الأخرى. فهل يُعقل أن الأمريكيين تجشموا كل هذا العناء العسكري والمالي ليتخلوا عن الجائزة الكبرى التي تقدر بأكثر من مائة وخمسة عشر مليار برميل نفط، وهو احتياطي العراق؟ هل يعقل أنهم أنفقوا حتى الآن أكثر من ثلاثمائة وخمسين مليار دولار على حملتهم العسكرية من أجل سواد عيون العراقيين؟
وفي هذا الخصوص يشير الكاتب العراقي سلم علي في مقال موثق أن واشنطن تضع اللمسات الأخيرة على مسودة نهائية لمشروع "قانون النفط" قبل أن يُعرض على الحكومة العراقية تمهيداً لتمريره في البرلمان. والمخيف في الأمر أن مهمة الحكومة العراقية "المنتخبة" ستنحصر في المصادقة على المشروع لا أكثر ولا أقل، فحسب تقرير "اندبندنت أون صنداي" فإن "ثلاث جهات خارجية أتيحت لها فرصة تمحيص مسودة هذا التشريع أكثر مما أتيح لمعظم العراقيين. فقد اطلعت عليها الحكومة الأمريكية وشركات نفطية كبرى في يوليو الماضي، ثم صندوق النقد الدولي في سبتمبر الماضي، قبل أن تطرح المسودة على الحكومة العراقية والبرلمان العراقي!! ولا عجب في ذلك، فقد تولت الحكومة الأمريكية الإشراف على "قانون النفط" العراقي الجديد عبر مؤسسة استشارية تابعة لها يعمل ممثلها في السفارة الأمريكية في بغداد بشكل منتظم. وفي حال إقرار القانون، وهو الأرجح، فإنه سيمنح شركات النفط الغربية الحق في استغلال احتياطي النفط الضخم الذي يملكه العراق، بطريقة ترهن ثروة البلاد النفطية لهذه الاحتكارات على مدى عقود مقبلة، وتفرط بحقوق الشعب العراقي، في أفظع انتهاك صارخ للسيادة الاقتصادية والوطنية في هذا العصر.
ربما أراد الأمريكيون أن يقولوا لصدام حسين وكل الذين حاولوا تأميم النفط كثروة وطنية: إنكم ستدفعون ثمن تعنتكم وستحسدون الدول التي كنتم تعيرونها برهن نفطها للعم سام. وعلى ما يبدو هذا هو بيت القصيد، إذ تبدو الدول العربية الأخرى التي كنا نعتقد أنها تفرط بنفطها إرضاء لشهوات العم سام، تبدو أكثر تحكماً بثرواتها النفطية من العراق الجديد بعشرات المرات. فحسب مشروع "قانون النفط" المرتقب حسب مسودة جرى تسريبها، "فقد أشارت إلى أن بنوده تمثل خروجاً جذرياً عما هو معتاد بالنسبة إلى البلدان النامية. فبموجب نظام يعرف بـ "اتفاقات تقاسم الانتاج" ستتمكن احتكارات نفطية عالمية مثل "بريتيش بتروليوم" و"شل" في بريطانيا، و"اكسون" و"شيفرون" في أمريكا، من توقيع اتفاقات لاستخراج النفط العراقي لمدة تصل إلى 30 عاماً".
وتسمح صيغة "اتفاقات تقاسم الانتاج" أو "عقود المشاركة بالانتاج" للبلد المعني بأن يحتفظ بملكيته القانونية لنفطه، لكنها تعطي حصة هائلة من الأرباح إلى الشركات العالمية التي تستثمر في البنية التحتية وتشغيل آبار وأنابيب ومصافي النفط. وفي حال تبني هذه الصيغة سيكون العراق أول من يطبقها على صعيد منتجي النفط الرئيسيين في الشرق الأوسط. فالدول الأخرى تفرض سيطرة مشددة على صناعاتها النفطية من خلال شركات تملكها الدولة من دون مشاركة أجنبية ذات شأن، وهو الحال أيضاً بالنسبة إلى معظم دول منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك). لذا فإن على العراقيين أن يهبوا للحفاظ على ثروتهم الآيلة للنهب لعقود وعقود، خاصة وأنهم بأمس الحاجة لكل فلس كي يعيدوا بناء بلدهم الذي توعد وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد بإعادته إلى العصر الحجري وأوفى بوعيده.
ولا شك أن الشعب العراقي المعني قبل أي جهة أجنبية بكل ما يمس ثرواته الوطنية وفي مقدمها النفط، لا شك أنه مدين للدكتور فخري كريم مستشار الرئيس العراقي الحالي بنشر أسماء المستفيدين من "كوبونات النفط الصدامية" وتعريتهم في جريدته الغراء "المدى" بالتنسيق والتعاون مع صحيفة "المؤتمر" للدكتور أحمد الجلبي رئيس حزب المؤتمر الوطني العراقي. لكن الشعب ينتظر الآن على أحر من الجمر أن تسارع الصحيفتان "الوطنيتان" جداً إلى إماطة اللثام فوراً عن أكبر سرقة نفطية في العالم، بينما يصطف العراقيون في طوابير ماراثونية للحصول على بضعة ليترات من البنزين، في الوقت الذي يسبح بلدهم على ثالث، إن لم يكن ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم سيكون جله من نصيب لصوص النفط الذين دخلوا البلاد يداً بيد مع جنود المارينز ودباباتهم.
وكما تفضل الدكتور الجلبي على العراقيين في الماضي بفضح المتلاعبين بثروتهم النفطية وصدّع رؤوسهم بذلك "الفتح العظيم"، فعليه الآن أن يتفضل عليهم ثانية، خاصة وأنه من أكبر المسؤولين عن ملف النفط في العهد الجديد، إن لم يكن أهمهم، بعد أن فاز بأصوات ستمائة عراقي في الانتخابات الأخيرة، ثم ابتعد عن الأنظار مؤخراً للمشاركة في إدارة ذلك القطاع الحيوي الخطير. فهل سنسمع له وللدكتور فخري كريم صوتاً في هذه الأيام العصيبة، خاصة وأن الأمر يتعلق بترليونات الدولارات، وبمستقبل الشعب العراقي بأكمله، وبثروته الوطنية الأولى، لا بمجرد كوبونات وعمولات من نوع "الفكة" بلغة الفلوس.
فهل قضية "الكوبونات" جريمة لا تـُغتفر بينما استحواذ الاحتكارات البترولية الغربية على سبعين بالمائة من عائدات العراق النفطية مسألة فيها نظر؟.