بقلم : د. فيصل القاسم ... 4.3.07
لا يمل المثقفون العرب، وخاصة «الديمقراطيجيين» و«الليبرالجيين» منهم، من تعيير أبناء جلدتهم وحكوماتهم بالإنجازات التكنولوجية والصناعية التي حققتها بلدان مثل الهند وكوريا الجنوبية وماليزيا. ويميل الكثير من المعلقين العرب إلى جلد الذات وتحميل بلدانهم المسؤولية كاملة عن حالة التخلف الذي ترزح تحته. طبعاً لا يمكن بأي حال من الأحوال تبرئة العرب من التقاعس والقصور الفادح عن اللحاق بركب الحضارة الصناعية والتكنولوجية الصاعدة بسرعة الصاروخ. لكن أليس من حقنا أن نتأمل قليلاً فيما حدث للعراق، وما قد يحدث لإيران لأنهما تجرآ على القفز إلى عربة التطور العلمي والتنمية الصناعية؟
وكي لا نـُتهم بتحميل مصائبنا للآخرين، لا بد من الاعتراف بأننا بأمس الحاجة إلى الديمقراطية ورفع معدلات التنمية بأشكالها كافة في أوطاننا المتخلفة في شتى المجالات، مهما كانت التحديات والصعاب. لكن هل، لو حاولنا الانطلاق فعلاً، سيُسمح لنا باللحاق بقطار التكنولوجيا والتنمية؟ لا أريد العودة إلى تجربة محمد علي النهضوية في مصر، وكيف تم إجهاضها جهاراً نهاراً على أيدي القوى الاستعمارية آنذاك، بل أريد التركيز على مثالين معاصرين حيين حاولا النهوض من حالة التخلف العلمي والصناعي، وهما العراق وإيران، فكانت النتيجة أنه تمت إعادة الأول إلى العصر الحجري، كما توعد وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد وأوفى بوعيده، فيما تجري الآن الاستعدادات لتحطيم النهضة العلمية الإيرانية وتحويل المصانع والمختبرات الإيرانية إلى «أكياس من الرمل»، على حد وصف أحد حاخامات إسرائيل.
قد يكون من الصعب الدفاع عن الكثير من سياسات النظام العراقي السابق، لكن لا يمكننا بأي حال من الأحوال إلا أن نعترف له بإنجازاته العلمية والصناعية الهائلة بمقاييس العالم الثالث. فكلنا يعرف أنه حاول أن يبني قوة نووية. ولعلنا نتذكر كيف اصطحب صدام حسين الرئيس المصري حسني مبارك ذات يوم ليريه مفاعل «تموز» العراقي الذي كان يطلق عليه صدام وقتها وصف «عز العرب». لكن عز العرب المأمول غير مسموح به، لهذا تعرض لهجوم إسرائيلي كاسح بمباركة غربية، فذهب هباء منثوراً.
ولم يقتصر الطموح العراقي العلمي على البحوث النووية، بل تعداها إلى شتى أنواع العلوم الحديثة كالطب والكيمياء والهندسة المدنية. فقد كان النظام السابق ينفق القسم الأكبر من ثروته النفطية على التطور العلمي والتكنولوجي، بحيث انتشر آلاف الطلاب العراقيين في معظم الجامعات العالمية الكبرى. ومما كان يميز الطلبة العراقيين عن غيرهم من الطلاب العرب في ذلك الوقت أن معظمهم كان يتخصص في المجالات العلمية تحديداً، وليس في العلوم الإنسانية، فقلما تجد في تلك الأيام طالباً عراقياً يدرس الأدب أو الفلسفة، إلا ما ندر، فمعظمهم كان يمضي وقته في المختبرات العلمية الغربية.
وكم كنا نحسد نظراءنا العراقيين الذين كنا ندرس معهم في الجامعات البريطانية، فبينما لم يزد راتب بقية الطلاب العرب على مائتي جنيه استرليني في بعض الأحيان، كان الطالب العراقي يحصل على راتب خيالي بمقاييس ذلك الوقت،وذلك تشجيعاً له على التحصيل العلمي والعودة إلى بلده مسلحاً بأحدث العلوم والمعارف.
وكان العراق قد مهـّـد لتلك النهضة العلمية من قبل بالقضاء كلياً على الأمية، بحيث كان أول بلد عالمثالثي وصلت فيه نسبة الأميين إلى الصفر بشهادة الهيئات الدولية. وفيما كانت تعاني المستشفيات العربية وقتها من تدني خدماتها الطبية، كان المثل يُضرب بالأطباء العراقيين المتخرجين من أعرق الجامعات الغربية. وقد تفوق «المستشفى الأولمبي» العراقي آنذاك على أحدث المشافي الغربية من حيث التجهيزات والخدمات. ولا داعي للحديث عن الخبرات الهندسية العراقية العظيمة التي كانت تعيد بسرعة خيالية بناء الجسور والمنشآت التي كان يدمرها الطيران الأمريكي خلال سنوات الحصار. فكل الجسور الكبرى التي تربط العاصمة بغداد هي من تصميم وبناء محليين.
طبعاً لقد تم الإجهاز على كل منجزات العراق العلمية والصناعية والتكنولوجية أثناء فترة الحصار كما اعترف مؤلف كتاب «التنكيل بالعراق» جيف سيمونز. ولعلنا نتذكر أنهم عاقبوا التلاميذ والمدارس العراقية بمنع حتى أقلام الرصاص عنها، بحجة أن الرصاص قد يُستخدم لأغراض حربية. يا سلام! ولا داعي للخوض في تفاصيل الحصار الذي حرم العراقيين من أبسط المواد الأولية وحتى الأدوية لحوالي خمسة عشر عاماً حتى لا يفكروا بالتعافي فما بالك بالنهضة.
وقد ظننا، وبعض الظن إثم، أن التنكيل بالعراق قد ينتهي مع سقوط النظام. لكن كم كنا مخطئين، فقد كان كل ذلك مجرد تسخين للجولة الثانية التي ستعيد بلد العلم العربي الأول إلى غياهب التخلف السحيقة. وقد لاحظنا كيف استهدف الغزاة في البداية الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث والمصانع العراقية. وقد شاهدنا استاذة جامعية من جامعة الموصل على شاشات التلفزة وهي تروي كيف اجتاح الجنود الأمريكيون وعملاؤهم العراقيون تلك الجامعة العريقة واتلفوا مكتباتها ومختبراتها، مما جعل البعض يشبــّه تلك الحادثة بفعلة المغول الشهيرة عندما رموا بمحتويات مكتبات بغداد الضخمة إلى نهر دجلة، بحيث أصبح لون الماء أزرق لكثرة ما قذفوا فيه من كراسات ومجلدات وكتب مكتوبة بالحبر الأزرق.
وبعد أن استتب الأمر للغزاة راحوا وعملاؤهم وأزلامهم يصفـّون العقول العراقية النيرة عن بكرة أبيها، فتعرض معظم العلماء وأساتذة الجامعات والباحثين والأطباء العراقيين إلى الاغتيال بطريقة منظمة، فيما غادر الباقون منهم أرض العراق حفاظاً على حياتهم. أما الجيل الصاعد فسيعاني من مشاكل عقلية بسبب سنوات الفقر والجوع والمرض والحرب والحصار والتنكيل حسب الدراسات العلمية الغربية، بحيث سيكون التفكير بالنهوض العلمي بالنسبة له كحلم إبليس في الجنة.
وبعد أن أعادوا بلاد الرافدين إلى المربع الأول، ها هم يحضّرون لتكرار المشهد في إيران، فقد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها احتجاجاً على مفاعل إيران النووي السلمي. وها هي أوروبا تفكر بكل أنواع العقوبات لكبح جماح إيران العلمي. وها هي البوارج الأمريكية تحاصر المنطقة لقتل الطموح الإيراني في مهده، وكأنها تقول لشعوب المنطقة: «تخلــّفوا تسلموا! إياكم أن تفكروا بالنهضة العلمية والتكنولوجية وإلا أعدناكم إلى الجاهلية. عليكم أن تعلموا أننا نحن نقرر من يتقدم ومن يتخلف، ومن ينهض ومن يبقى رابضاً في مكانه». وكم أضحكني مفكر سويدي عندما قال إن «أمريكا يمكن أن تضع السويد على قائمة الإرهاب فيما لو امتنعت عن تزويدها باليورانيوم». أما المفكر الفرنسي روجيه جارودي فقد صرح من قبل بأن أمريكا هددت «شركات الأجبان والنبيذ والعطور الفرنسية بالإفلاس فيما لو لم تنصع فرنسا للأوامر الأمريكية». وقد خضع الفرنسيون عندما علموا أن التهديد الأمريكي سيكلف شركاتهم حوالي ثلاثين مليار دولار، وهو رقم هائل يمكن أن يهز الاقتصاد الفرنسي. ولا ننسى كيف هددت أمريكا فرنسا ذات مرة بخلق حرب أهلية داخلها إذا لم تتوقف عن تعنتها. فإذا كانت واشنطن تستطيع أن تسحق شركاءها الأوروبيين، فما بالك بأعدائها «الإسلاميين الفاشيين» على حد وصف الرئيس بوش؟ وفيما لو نفذ الأمريكيون تهديداتهم لإيران فإن النتيجة قد تكون أخطر بكثير، خاصة وأنهم يريدون هذه المرة استخدام السلاح النووي التكتيكي للوصول إلى المختبرات العلمية الإيرانية تحت الأرض وتدميرها عن بكرة أبيها.
لاشك أنه بإمكان الجميع أن ينتقد السياسات العراقية والإيرانية ليل نهار، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر على البلدين أنهما سعيا للحاق بركب الحضارة العلمية والصناعية والتكنولوجية بكل جوارحهما، وأبليا بلاء حسناً رغم كل الصعاب والمؤامرات القريبة والبعيدة، لكنهما لسوء حظهما لا يندرجان على قائمة المسموح لهم بالنهوض، حتى لو كانا أنبغ أمم الأرض، فكان لابد من وضع العصي في عجلاتهما، هذا إذا لم يتم تحطيم العجلات أصلاً.
قد يجادل البعض أن العبرة ليست في الإنجاز العلمي والتكنولوجي فحسب، بل في القدرة على المحافظة على ذلك الإنجاز وحمايته وعدم إعطاء الأعداء الفرصة كي يدمروه، وهو ما لم يحققه الرئيس العراقي السابق صدام حسين بسبب مغامراته وسياساته الطائشة. لكن ألم يأت القصف الإسرائيلي المدعوم غربياً لمفاعل «تموز» العراقي عندما كانت العلاقات العراقية الأمريكية في أحسن حالاتها، وقبل أن يتورط النظام العراقي السابق في أي مغامرة إقليمية؟ بعبارة أخرى، فإن وضع اللوم على صدام حسين في تعريض إنجازاته العلمية للخطر واتهامه بعدم الحفاظ عليها هو اتهام باطل لأن الهجوم كان مبيـّتاً. ولو افترضنا جدلاً أن العراق لم يحسن حماية منجزاته العلمية والصناعية، فماذا عن إيران؟ ماذا فعلت غير السعي الحثيث للحاق بركب الثورة العلمية كي يتم استهدافها الآن والتهديد بإعادتها إلى العصر ما قبل الزراعي؟ هل ارتكبت أي أخطاء كصدام؟ بالطبع لا، إلا إذا اعتبرنا محاولتها الأخذ بشروط النهضة العلمية الحديثة جريمة لا تـُغتفر؟
وقد يقول البعض الآخر إن بعض البلدان تقدمت رغماً عن أنف أمريكا، كماليزيا. لكن هل نسينا ما فعله جورج سوروس وصندوق النقد الدولي بالاقتصاد الماليزي قبل سنوات عندما كادا يدمران عملة البلاد؟ ألم نر ما حصل لـ«نمور آسيا»؟ ألم يعترف الرئيس الباكستاني الذي تمكنت بلاده من تصنيع القنبلة النووية بأن واشنطن هددته بقصف جوي يعيد باكستان «إلى العصر الحجري» حسب وصف ريتشارد أرميتاج نائب وزير الخارجية الأمريكي وقتها إذا لم ينصع للأوامر الأمريكية ويضع البلاد تحت تصرفها؟ وعلى ما يبدو فإن إسلام أباد قايضت سلامتها وبعض إنجازاتها العلمية بالرضوخ التام للعم سام. صحيح أن بعض تلك البلدان الآسيوية مازال يتقدم، لكن علينا أن لا ننسى هنا أن ماليزيا وأخواتها ليست في الشرق الأوسط كالعراق وإيران، بل في مكان آخر. وكذلك كوريا الجنوبية والهند وحتى الصين، ناهيك عن أن كوريا الجنوبية ما كان لها أن تنجز كل تلك الإنجازات العلمية والصناعية الهائلة لولا الدعم الياباني الذي لم ولن يتوفر مثيل له لأي بلد عربي، ولولا الرضى الأمريكي.
لكن أرجو مرة أخرى أن لا يفهم البعض أنني أبرر للبلدان العربية تخلفها العلمي والصناعي الرهيب، فلا يفعل ذلك إلا مغفـّـل، فنحن بأمس الحاجة لدخول العصر الصناعي أولاً بعد أن خرجت منه الدول المتقدمة إلى عصر ما بعد الصناعة. لكن ألا يحق لنا، يا ترى، أن نتفكر أيضاً، ليس من باب التفكير التآمري، بل من باب التأمل فقط، في تجربتي العراق وإيران النهضويتين، وكيف كانتا وبالاً عليهما؟
وكأن الغرب يريد أن يقول لنا: «ناموا ولا تستيقظوا، ما فازَ إلا النوّمُ، وتثبتوا في جهلكم، فالشرُ أن تتعلموا»!!