بقلم : صبري حجير ... 8.4.07
[ الحلقه الثانيه]
سنين طويلة مضت على الهجرة الثانية للفلسطينيين ، من دول اللجوء ومناطق الشتات ، إلى الدول الأوروبية . كانت الهجرة لأسباب شتى ، منها ما هو متعلق بالحياة الكريمة ، ومنها ما هو متعلق بأسباب سياسية .أنىّ يهاجرالفلسطيني ، وأينما يسكن ، في أقاصي الأرض أو على حوافها ، تبقى القضية الفلسطينية تسكنه ، وتتفاعل أحداثها في أعماقه ، لأنّ قوة الانتماء للهوية الوطنية الفلسطينية ، كما يبدو ، تعلو ، في المهاجر ، فوق الاعتبارات الأخرى ، وتدفعه حيوية الالتزام بقضيته الفلسطينية إلى بذل التضحيات العظمى ، في سبيل تلك القضية الراسخة في وجدانه .
مثلَ كلّ الفلسطينيين ، تتابع الجاليات الفلسطينية ، في أوروبا ، أخبار الأهل ، في الوطن والشتات ، وتراقب عن كثب، أوضاعهم ، وما آلت إليه أحوالهم ، وتتفاعل مع قضيتهم الوطنية ، ومع ما تتعرض له من هجمات ، وما يعتريها من مآسي وأحداث ، وما تتركه تلك الأحداث من آثار عينية ، وضغوط مادية ، وأبعاد نفسية ، تنعكس ، في كثيرٍ من الأحيان ، عليهم في المهجر الأوروبي ، فترتفع دينامية حركتهم الجماهيرية ، وتكتسي قوة دفعٍ وعنفوان ونشاطٍ تارةً ، وتارة أخرى تجعلها تركن وتستكين .
لكنّ الفلسطينيين في معيشتهم اليومية ، في أوروبا ، وبكلّ الأوقات والمراحل ، وخلال كلّ الظروف يعيشوا تحت وطأت الشعور بالمسؤولية الوطنية ، التي زادت من تأجيجها في داخلهم ظروف الهجرة والإبتعاد ، فالشعور لديهم لا ينقطع بمسؤولية نقل المشهد الدرامي الفلسطيني الى مساحات الإدراك والمشاعر لدى الأوروبيين .
المشهد الفلسطيني ، بما فيه من مكونات ، وما يحتويه من مؤثرات ، أصابت حياة الفلسطينيين بكراماتهم وإنسانيتهم ، وجعلت قوة بقائهم على تراب الوطن ضرباً من ضروب المعجزات الإلهية ، جرّاء التأثير المتواصل لإجراءات القوة الإحتلالية ، وما ترتكبه الآلة العسكرية ؛ من قتل وإجرام وسادية صهيونية مقيتة .
والمشهد الآخر ، هو مشهد قوة الشعب الفلسطيني القابع في المخيمات ، ذات البيوت السكنية الرثة ، والأزقة الموحلة والضيقة ، في دول اللجوء ومناطق الشتات ، لا تقلّ تأثيراً ، فهي القوة الخلاقة التي أسست ، رغم التباعد الجغرافي والتمزق المجتمعي ، الكيانية السياسية الواحدة الموحدة ؛ منظمة التحرير الفلسطينية ، هو مشهد الشتات الفلسطيني الذي تحاول فيه الجاليات الفلسطينية في المهاجر أن ترسم ملامحه ، وترفع صوره أمام عيون الأوروبيين .
التلاقي :
التلاقي الطاريء ، الذي جمع الفلسطينيين القادمين من الشرق العربي ، بالأوروبيين ، فوق أرضهم ، وفي مناخات طبيعتهم الضبابية ، المعبأة بغيوم الدعاية الصهيونية ، وأمطارها وعواصفها العاتية ، وضع الطرفين " الأوروبي والفلسطيني " في دائرة التوافق والتلاقي والصراع في آنٍ واحد .
حيثُ فرضت ظروف الهجرة على الفلسطينيين التعايش والتلاؤم مع الحياة الأوروبية ، بكلّ تفاصيلها ، ومقايسها الرتيبة ومستلزماتها ، ومعطياتها الفكرية والسياسية والقيمية . هذاالتلاقي الطاريء اقتضت ضروراته على الفلسطينيين الإندماج في الدوائر الإجتماعية والثقافية والفنية الأوروبية ، وفقاً لمقتضيات العيش المشترك ، والحياة الواحدة ، كما هو حال كلّ المهاجرين في أوروبا .
رغم قوة الشروط الإقتصادية والإجتماعية والثقافية ، وقوة شروط الحياة في أوروبا بشكل عام ، بقي الفلسطيني متمسكاً بقضيته الوطنية ، وانتمائه الى الشرق العربي ، بدليل تعبيره المتواصل على تمسكه بالمواقف المدافعة عن القضية الفلسطينية ، وعن القضايا العربية .
في مجريات حياته ، يستدعي الفلسطيني ، في بيئته الأوروبية ، صورة ذلك الأوروبي الذي وصل الى الشرق العربي مستعمراً وغازياً ومضطهداً ، ويحاول أن يجد المبررات النفسية والفكرية التي تجعله يباين بين الحقب التاريخية ، ويفرق بين الشعوب الأوروبية وحكوماتهم الإستعمارية تاريخياً ، أو المعادية ، على الدوام ، لقضيتهم الوطنية بفضل تأييدها الدائم للسياسة الإسرائيلية ، تلك السلطات الأوروبية المستعمرة والمعادية ، جاءت نتاج تطور تاريخي ومادي في أوروبا الصناعية .
اتجاهات الرأي الأوروبي :
كانت اتجاهات الرأي في أوروبا ، قبل عقدين من الزمن ، منحازة بكليتها الى كلّ ما هو معادٍ للقضايا العربية ، وخاصةً القضية الفلسطينية ، ومؤيدة للسياسة العدوانية الإسرائيلية ، ومدافعة عن حقّ اسرائيل بالبقاء والهيمنة على فلسطين ، وتلك الإتجاهات الأوروبية أنشأتها عوامل مختلفة ، منها ماهو تاريخي ، ومنها ما أملته عليهم مشاعر عقدةالذنب لديهم ، بسبب الجرائم التي ارتكبوها بحقّ اليهود الذين كانوا يعيشون بين ظهرانيهم ، وأشعلوا فيهم المحارق . استمرت تلك الإتجاهات سائدة عقود مديدة ، نتيجة غياب حركة التنوير السياسي للمجتمعات الأوروبية ، تاركة المجال للدوائر الصهيونية تشيع ما تشاء من دعايات التضليل والكذب ، مستفيدة من تواصل التعاطف الجارف مع معاناة اليهود ، في أوروبا ، جراء الممارسات العنصرية والإجرامية للنازية بحقهم ، ومستفيدة من حالة الغياب العربي والفلسطيني ، ممّا أتاح لها سهولة اقتحام العقل الأوروبي ، وارساء ثوابت الإقناع الراسخة بجدوى وأهمية المشروع الصهيوني في فلسطين .
جرياً وراء القناعة التي رسختها الدوئر الصهيونية في الفكر والوجدان الأوروبيين ، جاءت الأدبيات والدراسات والثقافات والفنون الأوروبية تجسد الفكرة الصهيونية الداعية الى حقّ الدولة الإسرائيلية في البقاء والأمن ، وبما يؤكد على الإستهتار ، وعدم المبالاة بمعانات الفلسطينيين ، وفي أفضل الأحوال ؛ الإلتفات إليهم بقليل من المساعدات الإنسانية .
التغييرات :
في العقد الأخير ، اشتعل النشاط الفلسطيني في الرحاب الأوروبية ، وحققت الجاليات الفلسطينية تقدما ، قد نجيز فيه الوصف ، في كثيرٍ من الأحيان ، بالانجازات الوطنية على المستويين الأوروبيين ، الشعبي والرسمي ، وانتصارات ملموسة ضدّ دوائر الحركة الصهيونية في أوروبا ، ممّا لفت انتباه الجميع إلى تلك الفئات الفلسطينية المغيبة.
كما استطاع الفلسطينيون ، في أوروبا ، استنهاض قدراتهم الذاتية وكفاءاتهم وخبراتهم ، ممّا أهلهم من تحقيق الحضور المناسب والفاعل في قلب المجتمعات الأوروبية ، وفي كلّ المجالات ، وفوقَ هذا وذاك ، أبقوا العلم الفلسطيني مرفوعاً ، وشعلة القضية متقدة في الشوارع والساحات الخضراء ، والمدن الشقراء .
لم يحظَ الفلسطينيون في المهاجر الأوروبية ، لسنين طويلة ، بالاهتمام ، رغم ما قاموا به من أدوار وطنية ، على مدى تاريخهم في هذي البلاد ، سواء في مجابهة السياسات والأنشطة الخبيثة للدوائر الصهيونية ، وهي الدوائر ذات القدرات الهائلة ، والتي تمتلك أدوات التأثير في صنع الآراء وتحديد اتجاهاتها ، أو في دعم النضال الفلسطيني الذي يجابه الاحتلال ، بكلّ أوجه الدعم .