أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الفلسطينيون والعرب: كالمستجير من الرمضاء بالنار!!

بقلم : نقولا ناصر* ... 24.07.2010

يجد الفلسطيني نفسه اليوم في مواجهة دور عربي يقتصر على "التوسط" إما بينه وبين الاحتلال أو بينه وبين الراعي الأميركي للاحتلال
المجلس "الثوري" لحركة "فتح"، الذي لم يعد له علاقة ب"الثورة"، منعقد هذه الأيام، والمجلس "المركزي" لمنظمة التحرير الفلسطينية، الذي تحول إلى غطاء لتآكل "مركزية" المنظمة في صنع القرار الوطني لصالح سلطة الحكم الذاتي، سوف ينعقد الشهر المقبل، والمجلس الأول يحاول بلورة موقف يحمله إلى الاجتماع الوزاري للجنة متابعة مبادرة السلام العربية التابعة لجامعة الدول العربية في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، والثاني سينعقد لبلورة موقف يحمله إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب في أواسط أيلول / سبتمبر المقبل.
والموقف المطلوب بلورته في المجلسين لا علاقة له طبعا حتى بوضع استراتيجية تفاوضية أكثر جدوى وصدقية، ناهيك عن وضع أي استراتيجية وطنية بديلة لاستراتيجية التفاوض "فقط" التي انهارت، وكان الثمن المدفوع مسبقا لانطلاقها هو رأس "الثورة" والمقاومة الوطنية، بينما الانقسام الوطني الراهن هو ثمن الجهود الحثيثة الجارية لإحيائها وعظامها رميم، بل إن الموقف المطلوب بلورته له كل العلاقة باستمرار الحرث في مياهها الآسنة، بمجادف "عربية" محطمة، يحاول مفاوض منظمة التحرير وفتح أن يستقوي بها على خذلان راعيه الأميركي، كالمستجير من الرمضاء بالنار، متعاميا عن حقيقة ساطعة كالشمس وهي أن الموقف العربي الذي يستجير به ليس عمليا إلا مجرد امتداد للموقف الأميركي الذي يحاصره.
وإذا كانت في التاريخ عبرة، فإن العبرة سلبية جدا من مراجعة الدور العربي، "الحكومي" لا الشعبي، في فلسطين منذ النكبة عام 1948، ففي تلك المرحلة الفاصلة في تاريخ القضية العربية – الإسلامية في فلسطين اختارت الحكومات العربية التي كانت ما زالت لم تتخلص بعد من نير الاستعمار الغربي الأوروبي أن تكون بديلة لعرب فلسطين في نضالهم بدل أن تكون ظهيرة لهم، إن لم تكن شريكة، فألغت دورهم، وكان استشهاد عبد القادر الحسيني في القسطل على أبواب القدس رمزا لطغيان القوة المحتلة القاهرة بقدر ما كان رمزا لليأس الفلسطيني من الدعم العربي.
وكانت النتيجة أن كادت فلسطين تمحى عن الخريطة السياسية. وعندما أعادتها الهزيمة العربية الثانية عام 1967 بقوة إلى هذه الخريطة، وجد الدور الوطني الفلسطيني نفسه محاصرا بالعجز العربي الرسمي هذه المرة، بعد أن حاصره في المرة الأولى قبل حوالي ربع قرن من الزمن وهم الحكومات العربية بالقوة العسكرية، فوعد بالدعم إن نقل مقاومته من خارج الوطن الفلسطيني إلى داخله، وعندما رضي الدور الفلسطيني بسلطة حكم ذاتي محدود لكي يكون "في الداخل"، قيل له إن المفاوضات هي التي أدخلته وليس المقاومة فطولب بالتالي بالتخلي عن المقاومة بوعد عربي هذه المرة بدعم تفاوضه سياسيا، ليجد هذا الدور الفلسطيني نفسه اليوم في مواجهة دور عربي يقتصر على "التوسط" إما بينه وبين الاحتلال أو بينه وبين الراعي الأميركي للاحتلال، دون أي دعم، لا بل ليجد نفسه مطالبا حتى بالتخلي عن أي دعم غير عربي يأتيه كشرط للتكرم العربي عليه حتى بهذه الوساطة !
في الثامن عشر من الشهر الجاري استقبل الرئيس المصري حسني مبارك الوسيط الرئاسي الأميركي جورج ميتشل، ونظيره الفلسطيني محمود عباس، ورئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، وليس للمرة الأولى منذ توليه منصبه، الذي يحرض علنا من أجل ممارسة الضغط العربي والأميركي من أجل الانتقال من المباحثات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة دون شروط، وهؤلاء هم "اللاعبون" الرئيسيون في "ملعب" التفاوض الحريصون على ما يسوقونه باعتباره "مكاسب" لاستراتيجية التفاوض فقط يجب البناء عليها.
وقد ذهب نتنياهو إلى القاهرة بهدف "الطلب من مبارك الضغط على عباس للموافقة على البدء في مفاوضات مباشرة" مع دولة الاحتلال، كما قالت وسائل إعلامه، ومثله ميتشل لم يخف خلال جولته الأخيرة أنه سيقوم بزيارة عدد من الدول العربية للحصول "على دعمها لخطة السلام الأميركية" وملخص هذه الخطة الآن هو استئناف المفاوضات المباشرة، والمعنى واحد: أي الطلب منها الضغط على مفاوض منظمة التحرير للقبول بذلك، ولم يكتف ميتشل بطلب الضغط العربي، بل التقى مفوضة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون للغرض ذاته.
والسؤال هنا لا يتعلق بعباس الذي يخوض مفاوضات مباشرة وغير مباشرة، سرية وعلنية، منذ مدة طويلة ويلتزم ب"التفاوض فقط" كاستراتيجية وحيدة، بل يتعلق بالأسباب التي تجعل دولة الاحتلال وراعيها الأميركي يتجرآن باستمرار على مطالبة قادة عرب بالضغط على أشقائهم الفلسطينيين. والسبب الرئيسي الواضح كالشمس طبعا هو أن كثيرا من أصحاب القرار العرب قد تخلوا عن دور الظهير للنضال الوطني الفلسطيني وتحولوا إلى دور "الوسيط" بين دولة الاحتلال وبين أشقائهم الرازحين تحت الاحتلال.
وإذا كانت مصر ملزمة بالقيام بدور الوسيط بنص معاهدة صلحها المنفردة مع دولة الاحتلال، ومثلها الأردن طبعا، فإن التفسير الوحيد لتطوع دول عربية أخرى غير موقعة على أي معاهدات مماثلة مع دولة الاحتلال للقيام بدور الوسيط هو كون سياساتها تجاه الصراع مع دولة الاحتلال قد تحولت عمليا إلى امتداد للسياسة الخارجية الأميركية تجاهه بحيث أصبحت تتعامل معه باعتباره ليس صراعا عربيا – إسرائيليا شاملا بل مجرد صراع "ثنائي" فلسطيني مع دولة الاحتلال هي معنية بالتوصل إلى "حل" له فقط بسبب مضاعفاته الإقليمية على استقرارها وأمنها وتنميتها، ولهذا السبب تحديدا فإنها تريده حلا سلميا بالتفاوض لا غيره.
إن الحصة العربية من تعهدات المانحين لسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني في مؤتمر باريس أواخر عام 2007 تعطي لهذه الدول العربية وسيلة ضغط على السلطة لا تقل وزنا عن مثيلتها غير العربية، وليس من المتوقع أن تقاوم السلطة الضغط العربي أو الضغط غير العربي، فهذه التعهدات التي غالبا ما لايلتزم أصحابها بمواعيدها هي فقط التي تبقي سلطة مفاوض منظمة التحرير عائمة، وإن كان صرفها بالقطارة.
ولا يتوقع أحد أن يقدم المانحون منحهم لوجه الله، دون شروط سياسية، وبالتالي لا يتوقع أن لا يستخدموا وسيلة ضغط فعالة بحوزتهم، ولا يتوقع أحد أن تخلع الحكومات العربية جلدها "السلمي" أو الأميركي من تلقاء نفسها بين ليلة وضحاها لكي تنقلب على نمط تاريخي في سلوكها تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، فكل ذلك هو جزء لا يتجزأ من الوضع الإقليمي السائد منذ النكبة قاد إلى الوضع الراهن المأساوي للقضية العربية والإسلامية في فلسطين.
لذلك فإن وزراء خارجية المتابعة العربية في اجتماعهم أواخر الشهر الحالي ثم في الاجتماع الذي يلم شملهم جميعا أواسط ايلول / سبتمبر المقبل سوف يكونوا منسجمين مع هذا الوضع إما ليضغطوا على مفاوض منظمة التحرير لكي يفاوض مباشرة إن كان جادا في رفضه استئناف التفاوض المباشر أو ليوفروا له الغطاء العربي الذي يتدثر به في مواجهة الرفض الوطني والشعبي لاستئناف التفاوض، ليظل كل طرف منهما يحمل الآخر المسؤولية عن استمرار الحرث في الماء، وليستمرا معا في الدفاع عن موقف مرفوض سياسيا ووطنيا وقوميا وإسلاميا وإنسانيا وأخلاقيا ومنطقيا ولا يمكن الدفاع عنه أمام شعوبهم جميعا.
في مداخلة له بواشنطن العاصمة في الثامن من الشهر الجاري قال المفاوض وداعية السلام الفلسطيني المخضرم والناطق المفوه باسم كل مسيرة التفاوض العقيمة وعضو المجلس الثوري في فتح السفير عفيف صافية: "اليوم، علينا أن نعترف بأنه بعد مضي 19 سنة على مؤتمر مدريد و 17 سنة على أوسلو، فإن ما نراه ونشهده ليس انسحابا إسرائيليا بل توسعا للاحتلال وليس انحسارا له." ومع ذلك يصرون جميعا على أن يلدغوا من الجحر ذاته مرات لا مرتين.

* كاتب عربي من فلسطين