بقلم : د. فيصل القاسم ... 25.07.2010
صدق من قال إن المال لا يصنع السعادة، وشتان بين أن تكون سعيداً وأن تكون ثرياً. لكن بالرغم من اقتناعنا بهذه المقولات التي لا نطالع جريدة إلا ونقرأها، ولا نتابع إذاعة إلا ونسمعها، إلا أننا نمضي مجاهدين ومصارعين للحصول على المال ظناً منا أنه وحده لا شريك له هو القادر على إسعادنا. إنها عملية خداع يمارسها الكثيرون على أنفسهم ربما بسبب سطوة المال على الحياة الحديثة وتحريكها وجعلها مرتبطة ارتباطاً دائماً ووثيقاً بالفلوس، مما يجعلنا بدورنا مهووسين دائماً بطريقة الحصول عليها وتكديسها. وتمضي بنا الأيام لنكتشف أننا أضعنا حياتنا في اللهاث وراء المادة دون أن نكون قادرين حتى على الاستمتاع بما يمكن أن توفره لنا من ملذات.
كم حزنت عندما أخبرني ذات مرة رجل ثري قائلاً: "لقد عملت المستحيل لبناء قصر منيف وشراء سيارات فارهة وألبسة فاخرة وملء المخازن في المنزل بما لذ وطاب من طعام وشراب، لكنني ها أنا الآن لا أستمتع إلا بالقليل مما جنيته من ثروة. فمن شدة لهفتي اليومية على متابعة أخبار البورصة وتذبذبات الأسهم ارتفاعاً وهبوطاً، فقلما أجد الوقت حتى لتناول وجبة شهية، ففي معظم الأحيان ألتهم سندويشة بسيطة بسرعة البرق، لا بل إنني لا أتمكن أحياناً من هضمها بشكل جيد لأن كل تفكيري محصور في حركة الأسهم وإدارة الأموال. وحتى عندما أذهب إلى البيت، فقلما أمضغ طعامي جيداً، فينزل الطعام إلى المعدة غير مهضوم، مما يجعلني لاحقاً أشعر بألم في البطن وتلبك معوي.
وحدث ولا حرج عن قيادة السيارة، ففي كثير من الأحيان أقودها بقليل من الوعي، لأن يدي على المقود، وعقلي مشغول في مكان آخر تماماً. ولولا ضرورة الظهور بمظهر جيد لربما ارتديت الألبسة ذاتها يوماً بعد يوم، لأنه وبالرغم من امتلاء الخزانة بعشرات البزات والقمصان والربطات الغالية، إلا أن الأمر ينتهي بي إلى ارتداء قميص أو قميصين دون غيرهما. وكم اشتريت أحذية جديدة وظلت قابعة في علبها، وكذلك الأمر بالنسبة للقمصان والسراويل. وكم اكتشفت أنني اشتريت ألبسة، ووضعتها في مكان ما من البيت حتى وجدتها بالصدفة بعد عدة أشهر في إحدى زوايا البيت المهجورة".
لعل صاحبنا أعلاه يصغي للقصة القصيرة التالية التي يتم تداولها بشكل واسع على البريد الإلكتروني بين الأصدقاء ربما أعاد النظر في طريقة حياته، فكثرة المال هذه الأيام تودي بأصحابها إلى المرض والتعاسة أكثر منها إلى السعادة والاستمتاع بالحياة. تقول القصة إن قارباً رسا في قرية صيد صغيرة بالمكسيك، فامتدح سائحٌ الصيادين المحليين في جودة أسماكهم، ثم سألهم كم احتاجوا من الوقت لاصطيادها، فأجابه الصيادون بصوت واحد: "ليس وقتا طويلاً". فسألهم السائح: "لماذا لا تقضون وقتاً أطول وتصطادون أكثر؟"، فأوضح له
الصيادون أن صيدهم القليل يكفي حاجتهم وحاجة عائلاتهم. لكن السائح سرعان ما سألهم عما يفعلون ببقية أوقاتهم.
فأجاب الصيادون "ننام إلى وقت متأخر، نصطاد قليلاً، نلعب مع أطفالنا ونأكل مع زوجاتنا. وفي المساء نزور أصدقاءنا، نلهو ونلعب بالغيتار ونغني بعض الأغنيات..... نحن نعيش حياتنا". فقال السائح مقاطعاً: "لدي ماجستير إدارة أعمال من جامعة هارفرد، وبإمكاني مساعدتكم! عليكم أن تبدأوا في الصيد لفترات طويلة كل يوم، ومن ثم تبيعون السمك الإضافي بعائد أكبر، وتشترون قارب صيد أكبر مع القارب الكبير، وتستثمرون النقود الإضافية في شراء قارب ثان وثالث، وهلم جرا حتى يصبح لديكم أسطول سفن صيد متكامل. وبدل أن تبيعوا صيدكم لوسيط، ستتفاوضون مباشرة من المصانع، وربما أيضاً ستفتحون مصنعاً خاصاً بكم، وسيكون بإمكانكم مغادرة هذه القرية والانتقال لمكسيكو العاصمة، أو لوس أنجلوس أو حتى نيويورك! ومن هناك سيكون بإمكانكم مباشرة مشاريعكم العملاقة". فرد الصيادون على الاقتراح بسؤال: "كم من الوقت سنحتاج لتحقيق هذا؟" فأجاب السائح: "عشرون أو ربما خمس وعشرون سنة". "وماذا بعد ذلك؟" سأل الصيادون، فقال السائح: "بعد ذلك؟ حسناً أصدقائي، عندها يكون الوقت ممتعاً حقاً. وعندما تكبر تجارتكم سوف تقومون بالمضاربة في الأسهم وتربحون الملايين". فتساءل الصيادون: "الملايين؟ حقاً؟ وماذا سنفعل بعد ذلك؟"، فأجاب السائح:"بعد ذلك يمكنكم أن تتقاعدوا، وتعيشوا بهدوء في قرية على الساحل، تنامون إلى وقت متأخر، تلعبون مع أطفالكم، وتأكلون مع زوجاتكم، وتقضون الليالي في الاستمتاع مع الأصدقاء". فما كان من الصيادين إلا أن ردوا عليه بصوت واحد للمرة الثانية: "مع كامل الاحترام والتقدير يا سعادة السائح، ولكن هذا بالضبط ما نفعله الآن، إذن ما هو المنطق الذي من أجله نضيع خمسة وعشرين عاماً نقضيها شقاءً؟"
ليتنا نتعلم من الصيادين المكسيكيين الحكماء، ونستمتع بما توافر لنا من أرزاق، فاللحظة الراهنة لا يمكن أن تعود، والوقت لا ينتظر أحداً. لنستمتع بالورود تحت نافذة الغرفة التي ننام فيها بدل أن نحلم بتلك الحدائق البعيدة. ولنحدد إلى أين نريد الوصول في حياتنا، فلعلنا هناك فعلاً.