بقلم : رشاد أبو شاور ... 21.07.2010
لا أكتب عن إفلاس بنوك، أو شركات، أو مؤسسات ماليّة، لا، فالإفلاس الذي أعنيه، هو إفلاس الفصائل الفلسطينيّة ماليّا، تتقدمها الحركة ( الأم) فتح، وتتبعها بقيّة الفصائل بكل تصنيفاتها، حجما، وأيديولوجيا!
عندما كنا في تونس، تحديدا في آخر شهور إقامتنا، فوجئنا بكشف السر عن مفاوضات أوسلو، وبالترافق مع (بشائر) السلام، اتخذت قرارات ( ثورية) بإيقاف رواتب العاملين في دوائر المنظمة، بحجّة إفلاس صندوقها.
ولأن من أوقفت رواتبهم يحتاجون لدفع أجور بيوتهم، وإطعام أسرهم، فقد وقع كثيرون في ورطات، ومآزق، وعانوا من مهانات.
باع كثيرون الأثاث، وناموا على الأرض، ليسددوا أجور البيوت، وليؤمنوا الطعام لأسرهم، وقد اضطرت بعض الفلسطينيّات للتسوّل، والوقوف أمام المساجد!
لم تكن المنظمة مفلسة، ولا فتح مفلسة، و..لكن الأموال حوّلت إلى بنوك ( تل أبيب) لبناء جسور الثقة مع شريك السلام!
كتبت يومها رأيي بصراحة، متسائلاً عن سّر الترويج لإفلاس المنظمة، وادعاء أن ( فتح) هي التي تنفق على كادر المنظمة، ومنذ سنوات!
أمّا كادر المنظمة _ كتبت هذا وأعيده للتذكير _ فكان يتكوّن، وما يزال، من: دوائر المنظمة، وهؤلاء بنسبة 90 ' ينتمون لحركة فتح، فالسفارات، وكادرها من السفير حتى عامل جهاز اللاسلكي ينتمون للحركة. قادة أجهزة الأمن و( عناصرها) ينتمون للحركة. المنظمات الشعبية ينتمي أغلب القائمين عليها للحركة.
هذا يعني ما يلي: أن الحركة كانت توظّف كل كوادرها على حساب المنظمة، وتدّخر أموالها، فإذا كان صندوق المنظمة مفلسا فهذا لأن المنظمة حوّلت إلى جهاز تابع للحركة!
هذه الأيّام قرأنا، وسمعنا، عن إفلاس حركة فتح نفسها، وليس ( اليتيمة) المستباحة م.ت.ف، وأن المجلس الثوري سيناقش الموضوع في اجتماعه القريب، وربما يشكّل لجنة للتفتيش والتنقيب عن ممتلكات وأموال الحركة.. التي اختفت!
قبل سنتين تناهى إلينا أن لجانا تتسابق على وضع اليد على ممتلكات الحركة في لبنان، وسورية، والأردن، وفي بلاد بعيدة أوروبيّة، وأفريقيّة، وان هناك صفقات تعقد، وأسماء سجلت باسمها بعض الممتلكات، ما كانت تخطر على البال، منها شخصيات عامة لبنانية، تجري معها مساومات!
تناهب المتسابقون الممتلكات، وأبرموا الصفقات، و..بقيت ممتلكات كثيرة لم يتّم اكتشافها حتى اللحظة، لعدم توفّر وثائق، بين أيدي المطالبين، أو لأن القائمين على مالية الحركة اختفى بعضهم، ومات بعضهم ليرثهم الأبناء، و..دفن السّر بعض الأحياء منهم، والسّر كنز غير مرصود، لأنه خاص جدا!
تحوم الشكوك التي غالبا لا تحتاج للبراهين عليها، حول أشخاص ظهرت عليهم دلائل الثراء الفاحش، جاءوا للحركة من بيئات فقيرة، ولم يعملوا خارج ( الثورة)، والسؤال الذي لا جواب عليه: كيف ومن أين جنوا كل هذه الثروة؟!
سيضيف بعض القرّاء: اغتنى من اغتنى، وواصلت أسر الشهداء الأبطال، التسوّل، والعيش بمهانة، وتحت خط الفقر، و..تدفقت الملايين إلى حسابات اللصوص الأوغاد، بغزارة دموع زوجات فقدن الزوج الحبيب في ريعان الشباب، وأبناء وبنات راح معيلهم على طريق فلسطين، و..توشك القضيّة التي من أجلها استشهد البطل قبل أن يتمتع بالشباب، أن... تُصفّى بفضل من أفلسوا المنظمة وفتح، ومن أفلست فصائلهم ( اليساريّة) أيضا!
الإفلاس عنوانه مالي، وجوهره سياسي، وأخلاقي، وتنظيمي، وهو يبدأ من ( الكبير) وينزل إلى ( الصغير)، فالمرض انتشر في الجسد الذي حُطم ( جهاز) مناعته الأخلاقي، والتنظيمي، وبسبب التسيّب، وعدم وجود جهاز رقابة مركزي يتابع، ويدقق، ويسأل، ويملك سلطة الملاحقة، والمقاضاة، وفضح اللص أيّا كان.
الفلسطينيون ليسوا غافلين عمّن ( أفلسوا) المنظمة، وفتح، وغيرهما، فهم يرون كيف، بين عشيّة وضحاها، ظهرت آيات النعمة (الشيطانية) على ابن المخيّم..فإذا به شريك في ( مستشفى)، وفي شركة نقل بحريّة عملاقة، و..ممتلكات في دبي، وشركات في النمسا، ومحلاّت مجوهرات في باريس، وفنادق في عواصم عربيّة، ناهيك عن تجارة الحجارة الكريمة، وهذه تختلف عن حجارة الانتفاضة!
من جاعوا وأسرهم في ( تونس) بتوجيهات من قيادتهم، يروعهم أن شخصا وفد إلى بيروت شبه حاف، يمتلك اليوم مئات الملايين، وتنشط ( شركاته) في كردستان، ومصر، ودبي، وبعض الدول الأوروبيّة، وبمشاركة رجال (أمن) وفّروا له الحماية، وضمنوا له السلامة، وعدم الملاحقة، مقابل الشراكة في نهب مال شعب فلسطين، وخبز أبناء الشهداء، ودفاترهم وأقلامهم، وحبّة الدواء لأمهم التي انكسر قلبها بعد فقدان رفيق العمر، مّما عانته فيما بعد ممن أمنهم البطل على أسرته، وقضيته، وسلاحه، وشرفه، وكرامة أسرته!
سأحكي لكم مختصر سيرة حياة أحد كبار اللصوص، وكيف امتلك هذا الشاطر عشرات الملايين من الدولارات، واسمحوا لي أن لا أذكر الاسم، فتكفيكم الحكاية، ومنها ستستنتجون الكثير.
من عاش في الشام، أو تردد عليها، لا بدّ أنه يعرف طلعة ( جوزة الحدبا)، وهي منطقة يعبرها شارع قصير، يصل بين ( البحصة) الملاصقة للمرجة، وسوق ساروجة.
ذلك الشارع اشتهر بأنه موئل لورشات صغيرة لصناعة الأحذية، تضم عددا محدودا من ( الصنايعيّة)، يباع ما يُعد فيها للتجّار الكبار الذين يوزعون البضاعة على المحال في دمشق، وغيرها من المدن السوريّة.
صديقنا ـ أنا وكثيرين ـ ( أبو ريّا) كان يذكرني دائما بأبطال قصص وروايات مكسيم جوركي. إنه مكافح صلب، شريف، معطاء، يقتسم لقمته المغمسة بالعرق مع كل محتاج. تعرفت بـ (ذلك) الشخص عنده، وكان فتى غرّا، يحدب عليه أبو ريّا، ويوجهه إلى النضال، وحب الشعب، وفلسطين.
أبو ريّا كان شيوعيا، ولفرط صلابته، ومبدئيته، وكان نزيل سجن ( نابلس)، ردّ على والده الذي زاره طالبا منه أن يستنكر الحزب الشيوعي ليفرج عنه، و..محاولاً التأثير عليه: يا ولدي.. أنا أتسوّل لأطعم أمّك وأخواتك. فيرد أبو ريّا: يا والدي كل شعبنا فقير ويتسوّل من وكالة الغوث..إن كنت تخجل فتسوّل في قرى لا يعرفك أهلها!
أبو ريّا وعدد من كوادر الحزب الشيوعي الأردني شكّلوا الحزب الشيوعي الفلسطيني، ونادوا بالكفاح المسلح، ولكنهم لأسباب كثيرة لم يستمروا، فانضم بعضهم لفصائل يسارية وبعضهم لحركة فتح، مع من كانوا يوصفون باليساريين!
الفتى التحق بفتح و..أرسل إلى ( عين ترما) في الغوطة الشرقية، ومن هناك، من مالية فتح، وكمحاسب بسيط بدأت رحلته إلى الملايين!
عرف الفتى أن أفكار ( أبو ريّا) لا تطعم خبزا، فأتقن التزلّف، و..أخذ في الصعود من محاسب، ومدقق..إلى..وفي تونس صار ركنا في ( الماليّة)!
بعد ( العودة) إلى غزّة أريحا، تسلّم مؤسسة ( وطنيّة) حسّاسة..فاحتكر، وتلاعب..وبشطارة لص هجّر أسرته إلى كندا، وهناك اكتنز ملايينه التي تراكمت كتدفق بئر نفطيّة، وعندما عرض عليه بعض النافذين مشاركته أبى، فقبض عليه، ووجهت له التهمة بنهب أزيد من مائة مليون..فقط!
وماذا جرى؟ حكم عليه بعامين، و.إعادة مليوني دولار!
قضّى بعض الحكم مستمتعا بشتاء ( أريحا) أولا..وربيع رام الله ثانيا!
هذا واحد ( منهم) ..وهم كثر، ومعروفون، ولن يُحاسبوا فالحراميّة لا يقسون على بعضهم!
هذا واحد من الشطّار، الذين نهبوا المنظمة وفتح، و( حُماتهم) يبررون لهم: الذي شبع أحسن من الفجعان الذي سيأتي بعده. هذا القول لقائد تاريخي كبير!
أترون كيف ترعرع اللصوص، وضاع المال، ودخلنا حقبة الإفلاس السياسي والمالي والأخلاقي؟!
المجلس الثوري، والمجلس الوطني، ومجلس السوفييت الأعلى لو بُعث حيّا، لن يُصلح الحال، فالوضع يحتاج علاجا جذريا شاملا، وليس طبطبة وتدليسا...