أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الشوارما والأسد والمونديال....!!

بقلم : سهيل كيوان  ... 01.07.2010

كان مستلقيا على السرير الأبيض تحيط به حلقة من أبنائه وبناته وأنسبائه وأحفاده، معظم الزائرين كانوا ينحنون على الرجل ويقبلون جبينه أو خده أو لمجرد إصدار ذلك الصوت الذي يعني حدوث القبلة بْسُؤ بْسُؤ بْسُؤ...!
كان بعضهم يذرف دمعة ويلتفت حوله مؤكداً أنه حنون ومرهف الحس ويتألم، وآخر ينتحي جانباً وكأنه يقول: 'لا أستطيع النظر إلى هذا الضعف من بعد قوة'! بينما ينظر آخر مبتسماً ويهز برأسه وكأنما يقول 'أنا ذو تفكير عميق وأنتم أغبياء وسطحيون'!
تمر الممرضة وتمارس جزءاً من وظيفتها على طريقة الرجل الآلي مخاطبة الخمسة عشر زائراً 'الزيارة مسموحة لزائر واحد فقط'.. وتمضي دون أن تلتفت إلى النتيجة التي حققها بيانها الالكتروني!
جميعهم كانوا يطمئنون المريض ويسوقون أمثلة عن أناس عانوا من نفس مظاهر هذا المرض ولكنهم في النهاية خرجوا سالمين، والمطلوب فقط هو الصبر والإيمان والإصرار على دحر المرض!
تقول زوجته التي تشبهه وكأنها توأمه وهي تدفع بكاسة الحساء إلى وجهه:
'يجب أن تأكل كي تشفى...عندما تخرج من هنا سنقيم حفلة في مقام سيدي الأسد..' وهو غار فيه ضريح لرجل يقال إنه جاء من العراق إلى فلسطين، ترك حماره بجانب النبع، عندما فرغ من صلاته رأى أن أسداً افترس الحمار، فما كان منه إلا أن أمر الأسد فجاءه هذا صاغراً فامتطاه كما يمتطي الحمار، وصار اسم القرية (دير الأسد).
الرجل المريض عاجز عن تناول حتى لقمة واحدة، كان كل بضع دقائق يسرع إلى الحمّام، ورغم ذلك لم يجد المحبون طريقة للتعبير عن حبهم وتضامنهم مع شخصه الكريم إلا بإطعامه! بل أستطيع القول إنهم كانوا يرشقونه ويقصفونه بالطعام!
- لازم توكل ....هذه مليحة كلها..كي تشفى بإذن الله....إذا لم تأكل فستبقى هنا ولن تخرج أبداً...الجسد بحاجة للغذاء..لا يمكن أن تبقى جائعاً...! كان الرجل يطمر نفسه في الغطاء ويخفي رأسه كأنما يستغيث..ليس هذا ما أحتاجه الآن...! ولكنهم كانوا يرفعون عنه الغطاء رغماً عنه. ما بك..!خذ...الحساء جيد..كلها من يدي...هذه مليحة...إشرب إشرب هذه شوربة زغاليل..خذ مني..عشان روح سيدي الأسد..هذه زغاليل من تمام ابنة عمتك!
كان سيل الزائرين مستمراً، وكل من يصل يضع ما بيده في الزاوية وحول السرير ثم يبدأ باستجواب المريض من جديد..ما الذي حصل بالضبط وكيف وما هي آخر التطورات!...ويعتذر بعضهم لأنه لم يعلم بأن الرجل في المستشفى...ولو علم من قبل..والله العظيم لما تأخر عن الزيارة من أول يوم...!
جميعهم يحكون أن اللقمة التي في فمه ليست له، وهو كثير العزائم ويحب الضيف، ولهذا كان الجميع مهتمين بإطعامه وهم يرددون.. 'مثلما أطعمت الناس يجب أن تأكل'...وتحول هدف الزيارة بل محور العلاج...إلى الطعام!
كل الهدايا كانت أطعمة وفاكهة ومشروبات خفيفة وعصائر وحلوى محلية ومستوردة وخلطات واجتهادات غذائية!
تسود حالة من الهدوء للحظات عندما يتألم المريض 'آخ يا يمّه دخيلك...'! ولكن لا يلبث أحدهم أن يفتح كيساً من النايلون يخرج منه علبة وملعقة ثم يلتفت الى المريض 'لا تقل انك غير قادر...ستأكل يعني ستأكل' ويقصف المريض بملعقة فيها خليط من الطعام 'هذا سيفيدك جرّبه'! ثم تقول امرأة 'يوجد طبيب يداوي بالأعشاب من الأردن عالج خالي السّعيد الله يرحمه...هو استفاد من العلاج ولكنه مات....'، فيغمزها البعض من كتفها فتستدرك قائلة...هو لم يمت من المرض بل كان هذا حدّ عمره! ويعقب أحد الأنسباء 'إتصلنا بمصر مع مقدم برنامج عن الطب الطبيعي على قناة فضائية، هاتفناه وأرسل لنا عن طريق معبر رفح خلطة أعشاب بعدما حولنا له سبعمئة جنيه...المشكلة أنه أخذ مرة وتوقف، يجب إقناعه بمواصلة تناول هذه الخلطة..
- كادت تقتلني....يردّ المريض...
تمر الممرضة وتبدي ملاحظتها الآلية مرة أخرى: 'الزيارة مسموحة لزائر واحد فقط' وتمضي دون أدنى محاولة لتطبيق قانون الزيارة. كنت وصديقي الذي يحتل السرير الآخر في الغرفة منكمشين في الزاوية نراقب المشهد بمتعة نتبادلها بصمت!
الرجل المريض لم يعد يحتمل هجمات الإطعام والسقاية القسرية..كلما أكل بضع لقيمات أسرع مترنحاً إلى الحمام ليفرغها..ولكن أحداً لم يرحم ضعفه، فقد تحولت غرفة المستشفى إلى مطبخ ومطعم! اشتد الأمر عليه وبدأت مقاومته تنهار أمام إلحاح المطعمين، خلال هذا رمقني بنظرة من بين الحشد....ابتسمت له فرفع رأسه واعتدل في جلسته وقال موجها الأنظار إلي:...لقد أحببتك منذ دخولك الغرفة...تعال..إقترب مني. ثم التفت إلى يمينه وحمل بأصابع مرتجفة قطعة من الحلوى الطرية...هذه ستأكلها.....ورمقتني كثير من العيون وكأنما بإجماع متفق عليه: ممنوع أن تفشله!
قلت وأنا شبه مرتعب- أرجوك... سامحني لست جائعا...أكلت قبل دقائق...
وهل تفشلني! وتدخّل أكثر من واحد...لا تفشله....وحياة الله لا تفشله...إنه يحب إطعام الطعام..هكذا هو في كل حياته...لا تفشله الآن في مرضه!
لا لن أفشلك يا خال...ازدردتها مجاملا بصعوبة وقلت...لا بأس إنها جيدة! فتورطت بقطعة ثانية....ولكن هذا كان فخذ دجاجة....هذه يجب أن تأكلها..ثم وجه توصيته إلى أبنائه وأقربائه وزائريه...من يحبني يطعم هذا الرجل!
أود الفرار من الغرفة، ولكن ليس من مخرج. أكثر من واحد وواحدة قالوا: ما بك...الى أين أنت ذاهب! هل تفشل رجلا أحبك! خذ من يدي...لا تفشلني...لا تفشله...لا تكسر بخاطره...إنه هكذا...من يحبه يرغب بإطعامه..هذه هوايته..عليك أن تلبي رغبته!
أمام نظرات الجميع وخصوصا زوجته وبناته وأبنائه وإلحاحهم وحثهم تناولت فخذ الدجاجة من يده بعد الحلوى ومن يد أخرى خصلة عنب ومن أخرى لا أعرف عصير ماذا بالضبط ثم قهوة ومرة أخرى حلوى...وبصراحة عقدت النية على إجراء امتحان مفاجئ لجهاز مناعتي الذي ما زلت أثق به!
اعتدل في سريره وراح يرقب بمتعة حركة شدقيّ وأنا أطحن ما يقدم لي...! صحتين ...أنا أحببتك منذ رأيتك....ثم نظر إلى زاوية المطبخ المكدسة بالأكياس والأطباق وقال:....يا عمي أنا تشبعني قطعة خبز وحبة بندورة، ما ضرورة كل هذا الطعام! أكثر ما يضايقني أنني صرت سجيناً...وأنا أحب الحركة والحرية...
ستتعافى وتخرج من هنا وتعود حراً وتدعو الناس الى بيتك كما كنت...
عندما أخرج من هنا سأعمل حفلة كبيرة في مقام سيدي الأسد..سأذبح خمسة رؤوس من الغنم وستكون أنت على رأس المدعوّين....عدني بأن تأتي...
أعدك سوف آتي..
وعد شرف...!
وعد شرف..
إلتفت يميناً ووقع نظره على رغيف من الشوارما المغرق بالطحينة...وقبل أن يرميني به تساءلت وأنا أبحث عن ثغرة نحو المدخل... من سيلعب غداً....!
اختلطت الأصوات- هولندا...البرازيل ...غانا ...الأورغواي.. ستكون اللعبة ناراً بين ألمانيا والأرجنتين، سيراها معظم العالم...ومن بين هذه الأصوات تساءلت صبية..هل صحيح أن هيفاء وهبة طلبت الاشتراك في السفينة اللبنانية لكسر الحصار على غزة وحسن نصر الله رفض اشتراكها...!
قلت- هي تنفي الخبر...ولكن سمعت أن مي الحريري على السفينة..ولكن أعتقد أنه من الذكاء أن يؤجل اللبنانيون سفينتهم إلى غزة لبضعة أيام..العالم الآن كرة قدم! وهنا توجه أكثر من واحد ليسأل المريض مداعباً: وأنت مع من..تؤيد من!
أنا..! أنا مع من ينقذني من هذا المرض اللعين...دستور لو سمحتم..أوصلوني إلى الحمّام..!