بقلم : نقولا ناصر* ... 04.09.2010
في فقرتين من خطابه بواشنطن يوم الأربعاء الماضي الذي دشن إطلاق العودة إلى المفاوضات المباشرة بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وبين رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، أورد الرئيس الأميركي باراك أوباما سببين يدعوانه للتفاؤل بأن "التقدم ممكن" في المفاوضات. ومع أن الباحث عن الفقرتين بالكاد يعثر لهما على أثر في وسائل الإعلام الرئيسية التي لم تورد نص خطابه كاملا، فإن عدم تسليط الأضواء عليهما لا يقلل من أهميتهما كدليل ملموس على جبهة ثالثة مفتوحة، قلما تحظى بما تستحقه من تغطية إعلامية أو ردع وطني، تستهدف غزو العقل الفلسطيني بمفاهيم عن السلام لا علاقة لها بالسلام بقدر علاقتها بالاستسلام للاحتلال كأمر واقع هدفها ترسيخ الاحتلال والاعتراف به و"التعايش السلمي" معه واعتباره "شريكا في السلام"، وهو ما يمكن تلخيصه ب"نشر ثقافة السلام" بهذه المفاهيم في أوساط عرب فلسطين ككاسحة ألغام ثقافية تردف التصفية العسكرية للمقاومة الوطنية، وهذا هو الاحتلال الأخطر.
السبب الأول الذي ذكره أوباما هو أن "الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية تتعاونان فعلا الآن على أساس يومي لزيادة الأمن وتخفيض العنف"، في إشارة إلى التنسيق الأمني ومطاردة المقاومة. والسبب الثاني هو أن "الإسرائيليين والفلسطينيين العاديين - - أي القادة الدينيون وجماعات المجتمع المدني والأطباء والعلماء ورجال الأعمال والطلاب - - يجدون طرقا للعمل معا كل يوم. إن جهودهم البطولية على المستوى الشعبي تبين أن التعاون والتقدم ممكنين وينبغي لهذه الجهود أن تكون مصدر إلهام لنا جميعا"، لذلك "فإننا نرى فعلا أساسا لإحراز تقدم".
إن الرسالة التي تبعثها إشادة أوباما ب"الجهود البطولية على المستوى الشعبي" بين أناس "عاديين .. يجدون طرقا للعمل معا كل يوم" هي رسالة مضللة، لأنها توحي بأن هذه "الجهود البطولية" تبذل طوعا بمبادرات ذاتية، لكنها في الحقيقة جهود شاذة ينحت التمويل الأميركي وغير الأميركي لها في الصخر لكي يشق طريقا لها وسط الثقافة الوطنية السائدة المقاومة للاحتلال، لا بل إن هذا التمويل يلجأ إلى وسائل الإكراه والابتزاز واستغلال الحال الاقتصادي المتدهور لفرضها، مثل الاشتراط الأميركي بوجوب أن تكون مثل هذه الجهود فلسطينية – إسرائيلية "مشتركة" للحصول على التمويل أو التوقيع على تعهد ب"نبذ الارهاب" للحصول على التمويل.
غير أن كلا السببين اللذين أوردهما أوباما يؤكد بأن القيادة المفاوضة لمنظمة التحرير صادقة في تكرار تأكيدها على وفائها باستحقاقات السلام، مقدما، ومجانا، ودون المعاملة بالمثل، وقبل أن يتم التوصل إلى أي اتفاق للسلام ما زالت تلهث وراء سرابه دون طائل حتى الآن، ويؤكد كذلك بأن "ثقافة السلام" التي تلتزم بها إنما تصب فقط في خدمة تحييد الأسس الثقافية للمقاومة التي يقرها ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والقانون الطبيعي والعرف الإنساني وشرع الله.
وتكمن "ثقافة السلام" التي ينشرها مفاوض منظمة التحرير في صلب الأساس الذي يدعو أوباما إلى التفاؤل. فالتطور في "العقيدة الأمنية" لأجهزة أمن سلطة الحكم الذاتي الذي أشار إليه الناطق باسمها اللواء عدنان الضميري قبل شهرين، دون أن يوضحه، كان عبد الرزاق اليحي وزير الداخلية السابق في حكومة د. سلام فياض قد أوضحه عندما قال إن عقيدة هذه الأجهزة ليس التصادم مع قوات الاحتلال، بحجة التزامات السلطة بموجب الاتفاقيات الموقعة مع دولة الاحتلال، بالرغم من عدم المعاملة بالمثل، وبالتالي فإن التصدي للاجتياحات والاغتيالات ومكافحة التجسس (كما يحدث في قطاع غزة) ليس من وظائف هذه الأجهزة، مع أن القانون الأساسي للسلطة، وهو بمثابة دستورها، يحدد وظائفها في الدفاع عن الوطن وخدمة الشعب وحماية المجتمع، لتتحول الوظيفة الأساسية لهذه الأجهزة إلى التنسيق مع قوات الاحتلال، ولتتحول هذه القوات إلى شريك في الحفاظ على الأمن والسلام ضد "العدو المشترك" المتمثل في المقاومة الذي تسميها دولة الاحتلال "الإرهاب" وتسميها السلطة أسماء اخرى مثل "الخارجين على القانون والشرعية".
واللافت للنظر أن متوسط أعمار منتسبي المؤسسة الأمنية حاليا يقل عن ثلاثين عاما، كما قال اللواء الضميري، بعد أن أحالت حكومة فياض كل أجيال "الثورة" و"المقاومة" المخضرمة في هذه المؤسسة إلى التقاعد بحجة الإصلاح، مما يعني أن "السلالة الفلسطينية الجديدة" التي تحدث الجنرال الأميركي كيث دايتون عن "إنتاجها" في إطار "ثقافة السلام" إياها أثناء مهمته لدى السلطة الفلسطينية التي استقال منها مؤخرا قد تسلمت المقاليد الأمنية لهذه السلطة فعلا.
ولهذه السلالة الفلسطينية "الأمنية" الجديدة المهجنة أميركيا رديف "مدني" هو السبب الثاني الذي يدعو أوباما للتفاءل.
إن تصريح الرئيس محمود عباس في المناسبة نفسها بأن العلاقة الي يريدها بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين هي علاقة "سلام بينهم، وعيش طبيعي بينهم" وأنه يريد "أن نعيش شركاء وجيران إلى الأبد" هو تصريح ينطوي على مفارقة مفجعة إذا ما وضع في إطار الانفصال إلى الأبد عن الاحتلال الذي كان الهدف الرئيسي للانتفاضة الفلسطينية الأولى في ثمانينات القرن الماضي التي جاءت بمنظمة التحرير إلى الأرض المحتلة في المقام الأول، لكن الأهم في تصريحه أنه يفسر "ثقافة السلام" السائدة في عهده، وهي ثقافة تزرع الهزيمة في العقول وتخلق طابورا خامسا من المتطوعين للتعايش السلمي مع احتلال ما زال يصر بالرغم من ذلك على استخدام لغة القوة، طابورا مهيئا "ثقافيا" للتجنيد الاستخباري المعادي وللتعاون مع الاحتلال ضد مقاوميه اقتداء بقيادته الثقافية والتزاما بثقافة السلام التي ينشرها مفاوض منظمة التحرير أو يغض النظر عن التمويل الأميركي والأوروبي لنشرها.
إن تقرير صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية الذي تداولته وسائل الإعلام الفلسطينية على نطاق واسع الأسبوع الماضي عن حملة إعلامية يقودها عباس وكبار مفاوضيه تحت شعار "نحن شركاء، وأنتم ؟" التي تشرف عليها "مبادرة جنيف" في إطار "تحالف السلام الفلسطيني – الإسرائيلي" بقيادة عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عبد ربه بتمويل أميركي قدره مليون شيقل إسرائيلي إنما هو تقرير يكشف فقط قمة جبل جليد لشبكة واسعة من المنظمات المماثلة الأصغر التي أشاد أوباما ب"جهودها البطولية" في نخر الأساس الثقافي لمقاومة الاحتلال "على المستوى الشعبي" الفلسطيني.
وهي شبكة لم تنقطع "مفاوضاتها" يوما، وهي "مفاوضات شعبية" تجري على كل المستويات الدنيا سواء في المؤسسة الأمنية أو في منظمات "فلسطينية – إسرائيلية" للمجتمع المدني تتكاثر كالفطر، حيث يصول ويجول فيها خبراء الحرب النفسية والاستخبارية لدولة الاحتلال بكامل حريتهم في التواصل اليومي مع القطاعات الشابة بخاصة من الشعب الفلسطيني دون أي رقيب أو حسيب، ودون أي إجراء من "السلطة الوطنية" لحظر مثل هذا "التواصل الشعبي" أو لحصر الاتصال والتعاون مع دولة الاحتلال بالمفاوض نفسه أو في الأقل لتحصين من يقعون في أفخاخ مثل هذه "المفاوضات الشعبية" بمفاهيم وطنية مستوحاة من الثوابت الوطنية لشعبهم، لا بل إن هذه "الجهود" التي وصفها أوباما ب"البطولية" تجد كل التشجيع والقدوة في قيادات التفاوض نفسها.
في الثامن عشر من الشهر الماضي لم يفكر شاب فلسطيني من ضحايا ثقافة السلام هذه في "الاطلاع" على معاناة أبناء شعبه في عشرات الكانتونات المحاصرة بالمستعمرات الاستيطانية وجدار الضم والتوسع وقوات الاحتلال في الضفة الغربية، أو معاناة آخر تجمع عربي فلسطيني بجوار المسجد الأقصى في سلوان، أو معاناة أهله في دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسها، أو معاناة بعض آخر من أهله المحاصرين في قطاع غزة، أو في غير ذلك من التعبيرات الحية للنكبة الفلسطينية المتواصلة منذ عام 1948، بل فكر في معاناة اليهود في العهد النازي لكي يقود وفدا من 22 شابا وشابة فلسطينية لزيارة متحف "الهولوكوست" المقام على أرض مغتصبة من أهله في القدس المحتلة "للاطلاع" على معاناة أصبحت اليوم جزءا من التاريخ.
وهذه عينة من الرديف "المدني" للسلالة الأمنية الفلسطينية الجديدة التي تعمل على "إنتاجه" شبكة يضمها "منتدى مؤسسات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية" الذي يبحث عن قواسم مشتركة تعطي أولوية، على سبيل المثال، للكفاح النسوي الفلسطيني – الإسرائيلي المشترك ضد سيطرة الرجل الذكورية على أية قواسم مشتركة فلسطينية لمقاومة الاحتلال، وتشمل الشبكة "جهودا مشتركة" و"مفاوضات شعبية" متواصلة للتعاون الجامعي والطبي والصحي والبيئي واللغوي والعلمي والثقافي والفني والديني والتعليمي والعائلي (لمن فقدوا أعزاء في الصراع) والأبحاث والحوار والتنمية والإبداع وعلم تسوية النزاعات والإعلام والمرأة و"زيتون السلام" بل توجد في هذا المنتدى منظمة باسم "محاربون من أجل السلام" تجمع بين مقاومين وجنود احتلال سابقين، ناهيك عن المدن الصناعية وجيش فلسطيني من رجال الأعمال والوكلاء والموزعين التجاريين لمنتجات دولة الاحتلال.
ومن المفجع وطنيا أن تكون جنين التي تحولت إلى رمز للمقاومة خلال انتفاضة الأقصى، في شمال الضفة الغربية لنهر الأردن، قد تحولت اليوم إلى "قصة نجاح" لثقافة السلام هذه يسوقها أصحابها كمثال ونموذج يحتذى به.
وجميع "المفاوضين الشعبيين" المنخرطين في هذه الجهود مرتبطين مصلحيا ووظيفيا ببقاء الاحتلال واستمراره، وقد افرزت هذه الظاهرة محترفين فلسطينيين في كتابة مشاريع طلبات التمويل أشبه بكتبة الاستدعاءات المنتشرين أمام المحاكم. وجميع منظمات هذه الشبكة ممولة أجنبيا بمساهمة "إسرائيلية" تمويلا لخص المسرحي الفلسطيني إسماعيل الدباغ نتائجه المدمرة عندما قال: "بأمانة .. التمويل حول المسرحيين إلى مرتزقة"، يساهمون بوعي أو دون وعي في هدم أية جسور لبناء الوحدة الوطنية الفلسطينية بينما يقيمون كل الجسور الممكنة مع دولة الاحتلال، ويجدون لهم في ذلك قدوة في قادة التفاوض.
فكبير مفاوضي المنظمة، د. صائب عريقات، عدا عن التمويل الأجنبي المشروط سياسيا لدائرة شؤون المفاوضات التي يرأسها وعن كونه مشاركا في حملة "يوجد شريك فلسطيني" التي تقودها "مبادرة جنيف" منذ سنوات عديدة، مما يتناقض مع معارضته القوية المعلنة في حينه لأي شراكة لحركته "فتح" مع حماس في أي حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، هو أيضا داعم نشيط لحركة "صوت واحد" الفلسطينية - الإسرائيلية، وعضو مجلس إدارة "بذور السلام" التي تنظم مخيمات صيفية مشتركة لفتية فلسطينيين وإسرائيليين وعرب، وقد تخرج ثلاثة من أبنائه من هذه المخيمات، لأنه يؤمن بأن حل الصراع مع دولة الاحتلال ممكن فقط بصنع السلام بين "الشعوب" قبل صنعه بين الحكومات، وعبر التفاوض "فقط" وهي قناعة سبق له القول إنه توصل إليها منذ حصوله على درجة الدكتوراة بمنحة دراسية من كلية دراسات السلام الممولة من وقف لطائفة الكويكرز الأميركية بجامعة برادفورد البريطانية عام 1983.
أهي مصادفة أن عباس وعبد ربه وعريقات هم الفريق الرئيسي المفاوض اليوم في واشنطن بعد أن صفى الاحتلال جسديا كل القيادات الفلسطينية الأخرى، أو نجح مع راعيه الأميركي في إبعاد من بقي حيا منها عن صنع القرار الفلسطيني، من المؤمنين بثقافة سلام مختلفة أساسها العدل تضرب جذورها في رسالة السلام الإسلامية والمسيحية التي يؤمن شعبهم بها؟