بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 31.08.2010
السؤال عن الحرب في المنطقة مطروح منذ عدة سنوات، لكن وتيرة الطرح ترتفع مع كل تصريح ينطلق من هذا الطرف أو ذلك، أو مع كل حدث له علاقة بالتسليح أو بتوتير الأوضاع بين قوى الممانعة العربية والإسلامية وبين إسرائيل وحلفائها. الناس يترقبون بصورة عامة، والمحللون يقدمون الكثير من الأفكار، منهم من يرى أن الحرب ستتنشب، ومنهم من يقول بعكس ذلك، ولكل واحد قرائنه للتدليل على صحة ما يقول. لكن العنصر الذي يمكن أن يتفق عليه الجميع يتمثل في التوتر القائم في المنطقة، ونهم أطراف عدة في البحث عن أسلحة جديدة، والتفكير في أساليب قتالية جديدة يمكن أن تساهم في شل الخصم.
رأيي أن الحرب ستنشب في المنطقة في المستقبل المنظور وليس البعيد. متى بالضبط؟ لا أعلم، ولا أظن أن رؤساء أركان الجيوش المعنية يعلمون. ليس من السهل تحديد ساعة الصفر لأن العوامل والحسابات التي تتحكم بذلك كثيرة جدا منها السياسية والاقتصادية والجوية ومواقف دول كثيرة داخل المنطقة وخارجها.
الحرب متأخرة
الحرب في المنطقة العربية تأخرت عن وقتها، والأطراف المختلفة تلعب الآن في الوقت الضائع. ويمكن تفصيل هذا التأخر بالتالي:
أولا: الأصل هو أن تبادر سوريا بالهجوم، ومعها أطراف عربية لأن إسرائيل هي التي تحتل الأراضي العربية وليس العكس. الأراضي العربية في الجولان وفلسطين وجنوب لبنان ووادي الأردن هي الواقعة تحت الاحتلال، والأصل أن يقوم المعتدى عليه بمحاربة المعتدي وتحرير الأرض. وإذا لم تقم سوريا بذلك، فإن الأطراف الفلسطينية واللبنانية تبقى مسؤولة عن تحرير الأرض.
سوريا لم تستطع أن تقلب الميزان الاستراتيجي في المنطقة، وهي ما زالت غير قادرة على شن حرب وكسبها بدون مساعدة الآخرين، وليس من المتوقع أن تشارك في حرب إلا إذا كانت على يقين بأن النصر سيكون حليفها وحليف حلفائها. أما حزب الله فيواجه مسألتين وهما انقسام الجبهة الداخلية اللبنانية، وعدم قدرته المكتملة على شن حرب متحركة. تشكل قوى 14/آذار قوة كبيرة في مواجهة حزب الله، ويمكن أن تساهم في إفشاله في الحرب ضد إسرائيل، وقدرة جيش حزب الله على الهجوم لم تكتمل بعد. يمكن لجيش حزب الله أن ينتقل إلى الهجوم بقوة فيما إذا دحر الجيش الإسرائيلي في الجو، أي أنه قادر الآن على خوض حرب دفاعية تنتقل إلى الهجوم، لكنه ليس في وضع يؤهله للهجوم ابتداء.
ثانيا: إسرائيل تأخرت في شن الحرب لأنها متشككة في نتيجة الحرب. لدى الإسرائيليين تخوف كبير من خسران الحرب، وفي هذا مغامرة كبيرة قد تنتهي بزوال إسرائيل، ليس بالضرورة كنتيجة لحرب آتية، وإنما نتيجة لحرب ثانية تليها. إسرائيل تقف على خيط رفيع جدا الآن لأنها لم تعد واثقة من أن ميزان القوى مختل لصالحها، وترى في المغامرة مقامرة غير محسوبة النتائج.
إيران ميزان القوى
تقوم النظرية الأمنية الإسرائيلية على عدد من الأسس منها استمرار التفوق العسكري الإسرائيلي على الدول المعادية مجتمعة ومنفردة. وقد حرصت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة على ترجمة هذا الأساس إلى واقع، فدعمت إسرائيل عسكريا ومن ضمن ذلك إقامة المفاعل النووي في النقب، ومنعت الدول العربية وغير العربية من تطوير قدراتها العسكرية بطريقة تهدد التفوق الإسرائيلي.
واضح أن إيران قد أحدثت شرخا كبيرا في ميزان القوى في المنطقة العربية الإسلامية، وأن إسرائيليل لم تعد قادرة على القيام بما كانت تقوم به في السابق. سابقا، كانت ضربات إسرائيل تسبق أقوالها، لكنها الآن تقول كثيرا وتتردد في الفعل. لقد ركزت إسرائيل منذ عام 1981 على تطوير قدراتها العلمية والتقنية والعسكرية، ولا شك أنها حققت إنجازات علمية كبيرة، وطورت تقنيتها المدنية والعسكرية إلى درجة أن الدول الكبرى أخذت تتوجس خيفة وتحسب كثيرا قبل أن تقرر شيئا ضد إيران.
أثبتت حرب عام 2006 ضد حزب الله أن قدرات إيران العسكرية متطورة جدا سواء من ناحية التسليح، أو من ناحية الصيالة (التكتيك)، وأعطت درسا مفاده أنه إذا كان حزب الله يمتلك أسلحة مضادة قوية، فإن إيران تمتلك ما هو أكثر قدرة وفتكا. وإذا كان حزب الله قادرا على المحافظة على أسرار أسلحته، فإن إيران تملك ذات القدرة، وأن ما يعرفه الناس عن قدرات إيران العسكرية أقل بكثير مما لا يعرفونه.
خاضت إسرائيل عام 2006 حربا عمياء، وتورطت بمفاجآت عدة، فماذا يمكن أن يحصل لو قررت إسرائيل وأمريكا شن ضربات جوية ضد أهداف إيرانية؟ هذه مشكلة خطيرة مطروحة على طاولة المخططين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة وإسرائيل، وعليهم أن يجيبوا عن أسئلة كثيرة حول قدرات إيران قبل توجيه ضربات جوية أو بحرية صاروخية. عليهم أن يحيبوا مثلا عن مدى فعالية ودقة الصواريخ الإيرانية، وعن إمكاناتها في الدفاع الجوي، وعن كثافة النيران التي يمكن أن تقذفها في ضربتها المضادة، وعن قدراتها الإليكترونية في التجسس وتعطيل الاتصالات، وعن قدراتها البحرية واحتمال إغراق بوارج حربية أمريكية، واحتمال إغلاق مضيق هرمز وضرب القواعد الأمريكية في الخليج والعراق وأفغانستان، الخ. وكون أمريكا وإسرائيل قد وصلتا إلى هذا الحد من العمى حول قدرات الطرف الآخر، فإنهما على وعي تام بأن ميزان القوى لم يعد كما كان، وأن احتمال الهزيمة في أية مواجهة عسكرية قائم. وما يعزز هذا الأمر هو استمرار إيران في الإفراج عن بعض أسرارها العسكرية كجزء من حرب نفسية ومن رسائل للطرف الآخر لردعه.
المغامرة والمغامرة الأكبر
إيران هي مصدر القوة التي أدخلت تغييرا على ميزان القوى، وضربها بالتالي الهدف النهائي للقوى التي تريد استمرار هيمنتها على المنطقة العربية الإسلامية، إلا إذا قررت هذه الدول التخلي عن احتكارها للهيمنة ومشاركة إيران في انخاذ القرار على مستوى المنطقة على الأقل. تقديري أن هذه الدول لن تجنح إلى المهادنة وستحاول تقويض معادلة القوى الجديدة والعودة بالتاريخ إلى الوراء.
من المحتمل ألا تكون إيران هي هدف الضربة الأولى لأن هناك قوى غير إيران تستفيد من قوة إيران وتعزز مكانة إيران العسكرية وهي حزب الله وسوريا وحماس. أمام المخططين الاستراتيجيين الإسرائيليين والأمريكييين عدة أهداف، ولا أرى أنهم سيضربونها جميعا في آن واحد. هناك معايير يتم أخذها بالحسبان. فمثلا تشكل حماس الحلقة الأضعف، بينما تشكل سوريا حلقة الوصل، في حين يشكل حزب الله القاعدة المتقدمة، أما إيران فالمنبع. من المنطقي أن يختار المخطط ضرب الحلقة الأضعف وذلك لاستعادة جزء من هيبته، ولتكون ضربته درسا لمن ينتظرون. لكن إسرائيل ضربت غزة وفشلت في تحقيق أهدافها، وصنعت لنفسها صورة إعلامية عالمية سيئة، فهل ستعيد الكرة ثانيا؟ خسارة إسرائيل أو فشلها أمام حماس عبارة عن ضربة قوية للجيش الإسرائيلي، وستؤدي إلى مزيد من التدهور في صورته وهيبته.
قد تكون حلقة الوصل، وهي سوريا الهدف الآخر لأن ضربها سيؤدي إلى وقف إمدادات إيران لحزب الله، ومن ثم تأليب الداخل اللبناني وتسليحه ضد الحزب مما قد يؤدي إلى انهياره. ضرب سوريا قد يؤدي إلى التخلص من القوة العسكرية السورية، ومن حزب الله في آن واحد. لكن إسرائيل ليست واثقة من نتائج الضربة ذلك لأن على الأراضي السورية أسلحة غير معروفة، وقدرات جوية ما زالت طي الكتمان، وإذا كان لإسرائيل أن تفشل في الحرب فإنها ستضطر للانسحاب من الجولان.
الهدف الثالث هو حزب الله الذي ما زال يتوعد ويتهدد، ويبدو أنه ينتظر هجوما إسرائيليا بفارغ الصبر وذلك لكي يجرب أسلحته الجديدة، ولكي يغير المعادلة اللبنانية الداخلية. إسرائيل مترددة جدا، وهي كبالع المنجل: لا تستطيع الصبر على تزايد قوة الحزب، ولا تستطيع أن تضرب وهي واثقة من نفسها. والسؤال المهم: هل تضمن إسرائيل عدم تدخل مختلف قوى الممانعة إذا قررت ضرب أي جهة منها؟ من الوارد أن تشتبك كل قوى الممانعة ضد إسرائيل فيما إذا تمت مهاجمة أي جهة منها، وهذا يدعو إسرائيل إلى التفكير بالمزيد.
هناك مغامرة كبيرة في ضرب إيران، لكن المغامرة الأكبر هي ترك إيران تتقدم تقنيا وتصنع عسكريا، وترفع من درجة نفوذها على مستوى المنطقة والعالم. إذا كان الأمريكي والإسرائيلي لا يقبلان شريكا في الهيمنة أو المنافسة، ولا يقبلان التحدي الإيراني فإنهما لا مفر يقبلان بخوض معركة المغامرة الصغرى، ولن ينتظرا المغامرة الكبرى. إسرائيل وأمريكا تخسران كل يوم تصبران فيه لأن قوة الطرف الآخر تتعاظم، لكنهما تدركان أن خسارة الحرب قد تعني تهديد وجود إسرائيل وانهيار بعض الأنظمة العربية وانهيار السلطة الفلسطينية في رام الله.
شمولية الحرب
من المتوقع أنه إذا تم اتخاذ قرار بضرب إيران فلن تكون الحرب برية شاملة، وإنما ستقتصر على ضربات صاروخية بحرية وبرية وجوية لأهداف منتقاة يُظن أنها أهداف نووية وتقنية عسكرية متطورة. وهذا أمر ينطبق على سوريا. أمريكا ليست معنية بحرب برية أخرى لا تستطيع أن تكسبها، وإسرائيل لا تريد خوض معارك برية مع جيش نظامي سيكبدها خسائر كثيرة. لكن الأمر مختلف بالنسبة لحماس وحزب الله لأن إسرائيل تتطلع إلى القضاء على المنظمتين وليس إلى مجرد تقليص قدراتهما العسكرية.
في كل الأحوال، هناك محاذير بأن الأهداف التي سيتم ضربها ليست أهدافا حقيقية. مختلف أطراف الممانعة تتخذ احتياطات أمنية مكثفة بحيث أنها تقيم مواقع مموهة وكاذبة بهدف تضليل العدو، ومن المحتمل أن يتم توجيه الصواريخ ضد أهداف كرتونية لا حراك فيها مثلما حصل في جنوب لبنانعام 2006.
الحرب ونتائجها
من قراءتي للعقلية الإسرائيلية وللاستراتيجية العسكرية الأمريكية، ستكون هناك ضربات عسكرية ضد إيران وأنصارها، لكن ليس بالضرورة في آن واحد، إلا إذا تراجعت إيران عن طموحاتها وتطلعاتها. علما أن إيران لا تطمح لتكون قوة إقليمية فحسب، وإنما تتطلع إلى دور عالمي تعترف به الدول الكبرى. وكما أشرت أعلاه قرار الحرب يبقى رهنا بعوامل كثيرة، لكنه في كل الأحوال عبارة عن مغامرة ستشهد الكثير من المفاجآت، والكثير من التدمير والقتل.
مما تتوفر لدي من معلومات قليلة أجمعها من وسائل الإعلام والتصريحات، تقديري أن أطراف الممانعة العربية والإسلامية ستصمد، وفي الغالب ستكسب الجولة. إسرائيل ستفشل، وإن دخلت أمريكا في مساعدة منها لإسرائيل، فإن أنفها سيمرغ من جديد، وستجد نفسها أمام مشاكل جديدة على المستوى العالمي. ليس بالسلاح فقط ستفشل إسرائيل، وإنما أيضا بنوعية المقاتل الذي ستواجهه. زمن الفرار من المعركة قد ولى، وهي تواجه منذ فترة جنودا يأبون الاستشهاد بظهورهم.