بقلم : صالح النعامي ... 11.09.2010
على طول الطريق الذي يربط مخيم " المغازي " للاجئين وسط قطاع غزة بالمقبرة التي تقع على التخوم الشرقية لقرية " المصدر "، جنوب المخيم، سارت عائشة ( 49 عاماً ) الخميس الماضي مسافة ثلاث كلم لتقرأ الفاتحة على روح زوجها حسن؛ هذا ما دأبت عائشة على فعله كل يوم خميس منذ أن قتل حسن في اليوم الأول في الحرب على غزة. رغم مرور الأيام وتوالي الخطوب التي تترى عليها وعلى عائلتها، إلا أن السلوى لا تعرف طريقها إلى قلب هذه السيدة التي لازالت تذكر الحالة التي غادر فيها حسن المنزل متجهاً إلى مركز شرطة المنطقة الوسطى في القطاع لتسوية مشكلة بشأن محله التجاري الذي يتوسط المغازي وذلك صباح يوم السبت الموافق 28-12-2008 ليعود بعد ساعات أشلاء متناثرة بعد أن ألقت طائرة نفاثة قنبلتين تزن الواحدة طناً على مقر ليقتل حسن ومعه سبعون آخرون، من عناصر الشرطة والمراجعين ويصاب مئات آخرين بجراح متفاوتة. مثلها مثل الكثيرات من الغزيات اللاتي فقدن أزواجهن وأبنائهن وإخوانهن وأحبائهن لا تعي عائشة حقيقة الجلبة التي أحدثها اختيار يوآف جالانت قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي والذي قاد الحرب على غزة كرئيس لهيئة أركان الجيش الإسرائيلي من قبل وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود براك، ولا تدري هؤلاء النسوة أن مأساتهن الشخصية كانت بالضبط السبب الرئيس الذي استند إليه في ترشيح جالانت للمنصب الأول في الجيش الإسرائيلي، حيث أن براك ومعه الرأي العام الإسرائيلي رأى في الحرب التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1500 شخص، 80% منهم من المدنيين معياراً لـ "نجاح " الحرب التي قادها جالانت على القطاع، سيما وإنها جاءت بعد الفشل الذريع الذي مني به الجيش الإسرائيلي في حرب لبنان الثانية، وهي الحرب التي أدت إلى تآكل قوة الردع الإسرائيلية بشكل كبير؛ هذا على الرغم من أن التقييم السائد حالياً في هيئة أركان الجيش الإسرائيلي بعد أكثر من أربع سنوات على الحرب على لبنان ومرور حوالي عامين على الحرب على غزة أن الحرب الأولى كانت بالنسبة لإسرائيل فشل تكتيكي ونجاح إستراتيجي، بينما كانت الحرب الثانية نجاح تكتيكي وفشل استراتيجي بسبب التدهور الهائل في مكانة إسرائيل الدولية في أعقاب الحرب، كما يؤكد ذلك أمير أورن المعلق العسكري في صحيفة " هارتس ".
الاستلاب للخيارات العسكرية
صحيح أن الحرب على غزة قد عاظمت من أسهم جالانت لدى صناع القرار في إسرائيل وتحديداً لدى وزير الدفاع وزعيم حزب العمل إيهود براك، إلا أن نظرة متفحصة تدل بسرعة إلى أن اختيار جالانت ينسجم تاريخياً مع النمط المفضل من رؤساء الأركان لدى النخبة السياسية ولدى الرأي العام الإسرائيلي، فجالانت يصنف بأنه من المولعين بما يعرف بـ " military activism"، وميله الكبير نحو تفضيل الخيار العسكري والتصعيد الميداني على أي خيارات آخرى، وهذا الميل الذي تعاظم خلال سيرة جالانات العسكرية. فكضابط وكقائد لوحدة " الكوماندو البحرية "، أو " القوة 13 " التي تتولى بشكل عام تنفيذ عمليات خاصة خارج حدود إسرائيل سواءً عمليات اغتيال أو جمع معلومات استخبارية أو القيام بعمليات التفتيش في عرض البحار والمحيطات بحثاً عن سفن تنقل سلاح لحركات المقاومة أو لأطراف تعتبرها إسرائيل معادية، تعاظم داخل جالانت الإيمان بأفضلية الخيارات العسكرية، وهو ما فطن إليه قادته، فتم استقدامه من سلاح البحرية ليتولى قيادة العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين خلال الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية، وبعد ذلك تولى قيادة سلاح المدرعات، وقد أعجب به رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون واختاره ليكون سكرتيره العسكري خلال الانتفاضة الثانية، حيث تم ترقيته إلى رتبة لواء، مع العلم أن هذا المنصب هو أكثر المناصب حساسية في الجيش الإسرائيلي على اعتبار أن السكرتير العسكري لرئيس الوزراء يطلع على أكثر المعلومات سرية. وتوجه جالانت بعد ذلك لتولي قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي وهو المنصب الذي يكون صاحبه مسؤولاً عن مواجهة حركات المقاومة في قطاع غزة، حيث أن جالانت كان ومايزال صاحب مبدأ " جباية ثمن "، أي أن أي فعل من قبل حركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة يجب أن يواجه بردة فعل أكبر بكثير منه، وهذا ما يفسر عمليات الدمار الهائل التي قام بها الجيش الإسرائيلي تحت قيادة جالانت بعيد اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شليت وكرد على عمليات إطلاق القذائف الصاروخية محلية الصنع التي كانت تطلقها المقاومة الفلسطينية، وقد استنفذ جالانت طاقته في هذا المجال خلال الحرب على غزة والتي لا خلاف على أنها الحرب الأكثر إجرامية التي تعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة، وقد تناول تقرير القاضي جولدستون الكثير من المجازر التي أمر جالانت بارتكابها خلال الحرب، والتي كان أكثرها بشاعة قصف المنزل الذي أوى إليه العشرات من أفراد عائلة السموني في حي " الزيتون " جنوب غزة فقتلوا جميعاً، وإصداره التعليمات بقصف مسجد " إبراهيم المقادمة "، في بلدة " بيت لاهيا "، وهي المجزرة التي قتل وجرح فيها العشرات من المصلين. لكن مع كل ذلك فقد سجل في ملف جالانت عدد من العمليات الفاشلة التي مست بسمعته، لعل أبرزها عملية " الأنصارية "، عام 1994. فخلال قيادته الكوماندو البحري خطط جالانت لعملية تصفية قيادي بارز في حزب الله في قرية " الأنصارية "، جنوب لبنان، وبالفعل توجهة مجموعة من الوحدة إلى القرية لتجد نفسها في كمين مسبق نصبه لها عناصر حزب الله، حيث من أصل 15 مقاتلاً شاركوا في العملية قتل 12 وأصيب ثلاثة آخرين، نجاح عملية " حزب الله " شكلت ضربة نجلاء إلى سمعة جالانت، لكنها لم تقف حائلاً أمام تواصل تقدمه في الترقيات العسكرية.
جالانت والمخططات ضد إيران
لا خلاف بين المراقبين في إسرائيل على إن إحدى " مزايا " جالانت بالنسبة للنخبة السياسية في إسرائيل هو ميله لموائمه مخططاته الميدانية مع مواقف النخبة السياسية، مشيرين إلى أن في هذا يكمن سر العلاقة الخاصة التي ربطت جالانت بشارون، وجالانت ببراك. ويرى الكثير من المراقبين في إسرائيل أن هذه " الميزة " تكتسب أهمية حالياً عن الحديث عن مخططات إسرائيل تجاه البرنامج النووي الإيراني، إذ أن الانطباع السائد في إسرائيل أن رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الحالي جابي اشكنازي بخلاف براك ورئيس الوزراء الوزراء بنيامين نتنياهو يتحفظ كثيراً على أي مخطط لضرب المنشآت النووية الإيرانية، متأثراً بالاتصالات التي يجريها معه قادة أركان الجيش الأمريكي الذين يرون أن أي هجوم إسرائيلي على المنشآت النووية الإيرانية لا يخدم بالمطلق المصلحة الأمريكية في المنطقة، بل قد يعمل على توريط الإدارة الأمريكية بشكل أكثر عمقاً في الوحل الشرق أوسطي، في الوقت الذي يسعى الرئيس باراك أوباما لتقليص حجم الأضرار الناجمة عن التورط في كل من العراق وأفغانستان، وفي الوقت الذي تفتح جبهات أخرى للتوريط في كل من اليمن والصومال وغيرها. الاعتقاد السائد في تل أبيب أن جالانت سيتحمس لأي توجه عسكري اسرائيلي تجاه المنشآت النووية الإيرانية، طالما الأمر تعلق به، مع العلم أن هناك الكثير من المحاذير الموضوعية التي يفترض أن تعيق توجه إسرائيل نحو العمل العسكري تجاه إيران. على كل الأحوال فإن كل المؤشرات تدلل على أنه في حال اتخذت القيادة السياسية في إسرائيل قراراً بضرب المنشآت النووية الإيرانية فإن جالانت سيكون الشخص الذي تقع على عاتقه مهمة تنفيذ هذا القرار بصفته رئيساً لهيئة الأركان.
أساليب " مافيا "
لكن تعيين يواف جالانت على هذا النحو السريع جاء في أعقاب فضيحة كبيرة لم تتضح حتى الآن أبعادها الحقيقية، لكنها في كل الأحوال تشي بحقيقة الأجواء المرضية السارية داخل هيئة اركان الجيش والهيئات القيادية فيه.
فقد عرضت قناة التلفزة الاسرائيلية قبل شهر ونصف وثيقة تظهر أن جالانت قام بوضع خطة تضمن له الوصول الى رئاسة هيئة الاركان وتقلص فرص منافسيه الاخرين وذلك بالاستعانة بمكتب استشارات دعائية واعلانية. وتشير الوثيقة التي تجزم الشرطة الإسرائيلية حالياً أنها مزيفة الى أن جالانت تعاون مع مكتب دعاية وإعلان يعود لمستشار اعلامي عمل مع رؤساء الوزراء السابقين في اسرائيل يدعى إيال عراد لتلفيق تهم للجنرال بيني جانز نائب رئيس هيئة الأركان. ". وجاء في الوثيقة التي زعم انها نسبت الى جلانات مقترحات لخلق "صورة اعلامية ايجابية له تعكس "انسانية، نضج، تجربة، قيادة". وتضمنت الوثيقة خطة تدفع برئيس الأركان الحالي جابي اشكنازي لتقديم استقالته من منصبه، حتى يحل جلانات محله، حيث تدعو الوثيقة الى المواظبة على اتهام اشكنازي بالحرد وأنه يكرر اسلوب وزير الخارجية الأسبق دفيد ليفي الذي كان يرد على أي اساءة له بالحرد والجلوس جانباً. إلا أن جلانات ومقربوه يدعون أن المسؤول عن اصدار الوثيقة هو تحديداً جانز الذي خطط لتقليص فرص جلانات الذي يحظى بدعم وزير الحرب ايهود براك في حين ان جانز يحظى بدعم رئيس هيئة الأركان الحالي جابي اشكنازي. وقد تمكنت الشرطة من تحديد الأشخاص الذين تورطوا في تزييف الوثيقة وعلى رأسهم ضابط احتياط برتبة عقيد وهو أحد أوثق المقربين من رئيس الأركان الحالي جابي اشكنازي، وتعاون معه ضابطان في الاحتياط، كلاً منهما برتبة عقيد. وقد حظيت هذه الفضيحة بأوصاف عدة في الصحافة الإسرائيلية.
" أفاعيل من انتاج سدوم "، " عودة للأيام السوداء "، " أساليب مافيا "، هذه بعض التوصيفات التي أطلقت على الفضيحة التي شغلت الرأي العام الإسرائيلي. وقد برز التساؤل التالي: هل يدور الحديث عن مؤامرة للتأثير على السباق نحو رئاسة الاركان – أم أتزييف يرمي الى تشويه سمعة الجنرال جلانات ". ونقلت صحيفة " يديعوت أحرنوت " عن ضابط كبير قوله "اذا كانت الوثيقة حقيقية فهذا فظيع أن يستعين جنرال بخدمات مكتب دعاية واعلام كي يحظى برئاسة الاركان، أما اذا كانوا حاكوا له ملفا فهذا خطير وفظيع أكثر، لكن ما هو مؤكد هو أنه تم هنا اجتياز كل الخطوط الحمراء، لقد تسللت المناكفات السياسية والشخصية عميقاً الى داخل الجيش ". ونقلت الصحيفة عن ضابط كبير اخر "انا مليء بالخجل، وزير الدفاع ملزم بان يلتقي مع رئيس الاركان ثنائيا وان يضع حداً لهذه الحروب، في حين أعرب ضابط آخر عن قلقه من الشكل الذي تتخذه حروب الجنرالات في نظر الاخرين من الخارج. وأضاف: "ماذا يفكرون عنا في حماس، في حزب الله او في ايران عندما يرون ما يحصل هناك؟ في فترة مثل هذا التوتر الأمني، في الشمال وفي الجنوب، وعندنا وتحديداً في القيادة الأمنية ينشغلون بحروب قذرة، واضح أن أحدا ما من كبار المسؤولين يكذب، وهذا يحرجني ويهينني كلابس للبزة".
الكشف عن الوثيقة أثار حرجا وعاصفة في الساحة السياسية والامنية في اسرائيل، لدرجة أن النائب نحمان شاي من حزب كديما، عضو لجنة الخارجية والامن في الكنيست، توجه الى المستشار القانوني للحكومة يهودا فنشتاين مطالبا بان يأمر الشرطة بالتحقيق في صحة الوثيقة والكشف عن مصدرها، وهذا ما حدث بالفعل.
وقال وزير التجارة والصناعة فؤاد بن اليعيزر "تحدثت مع وزير الدفاع وأخذت الانطباع بانه في صدمة مثلي، طلبت منه ان يجري تحقيقاً جذرياً يوضح اذا كانت هذه الوثيقة بالفعل تمت أم انها مزيفة، كل ضابط يتدخل في السياسة يتوجب ابعاده عن الجيش، يجب ابعاد الجيش عن السياسة والسياسة عن الجيش، لدينا جيش ممتاز ورئيس اركان ممتاز،مثل هذه الاحداث تعكر صفو الأجواء ويجب تنظيفها". المعلق العسكري يوآف ليمور وصف الفضيحة بالهزة الارضية. واضاف " اذا كان لواءا لا يزال يخدم في الجيش شريكا لمثل هذه المؤامرة فانه ملزم بان يدفع الثمن الاكبر، ان يذهب الى البيت فورا، مكللا بالعار، ولكن اذا ما كانت هنا مؤامرة دنيئة، في الظلام، للتشهير بلواء يعمل في الجيش والمس بفرصه للترفيع، فان المجرم يجب أن ينكشف ويعاقب ".
قيادة أمنية جديدة
ومما لا شك فيه أن تعيين جالانت في رئاسة أركان الجيش ستؤدي إلى حملة استقالات من هيئة أركان، إذ بات في حكم المؤكد أن يعجل رئيس الأركان الحالي اشكنازي موعد تسرحه من الجيش وكذلك نائبه بني غانز وقائد المنطقة الشمالية إيزنكوف، وقائد المنطقة الوسطى آفي مزراحي، أي أن معظم كبار قادة الجيش سيغادرون الخدمة في غضون وقت قصير وبمجرد أن يتولى جالانت مهام منصبه الجديد، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنه في هذا الوقت سيتم أيضاًَ استبدال قادة الأجهزة الاستخبارية الرئيسة في إسرائيل، حيث من المتوقع أن يتقاعد رئيس جهاز الموساد مئير دجان، ورئيس جهاز " الشاباك " يوفال ديسكين، ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية عاموس يادلين، وهذا يعني أن قيادة أمنية جديدة ستتولى مقاليد الأمور في إسرائيل؛ وحسب الكثير من التقييمات الأمنية في إسرائيل فإن هذا التطور لن يشكل إضافة جيدة لإسرائيل عشية اتخاذ دائرة صنع القرار في تل أبيب قرارات هامة على كثير من الصعد، فهناك الملف النووي الإيراني وهناك التوتر مع حزب الله، بالإضافة إلى الجبهة الجنوبية في قطاع غزة، حيث تبرز الحاجة إلى قيادة أمنية ذات خبرة وتجربة.
خلاصة
لقد لعبت الصدفة دوراً هاماً في وصول جالانت إلى هذا المنصب، فقد تسرح من الجيش بعد خمس سنوات على تجنده وانتقل للعمل كحطاب في ولاية " ألاسكا " الأمريكية، وكان ينوي العمل في مجال تجارة الأخشاب، لكن مخططاته باءت بالفشل، فعاد للجيش بعد أن سدت سبل الحياة المدنية في طريقه حتى نجح في الوصول إلى ما وصل إليه؛ لكن نجاح البدايات لا يضمن نجاح النهايات. فعقد الكثير من الرهانات على أداء جالانت كرئيس لهيئة أركان استناداً فقط للعدد الكبير من العمليات التي سجلت في ملفه العسكري، ليس في مكانه. فقدرة جالانت على القيادة وإدارة العمليات العسكرية الكبرى، واتخاذ القرارات الصعبة في زمن حقيقي وفي ظروف مركبة لم تختبر بعد. قيادة الجيش الأقوى في المنطقة في حرب إبادة ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة لا تصلح أساساً للحكم على صلاحية هذا القائد العسكري أو ذاك، ومصير جالانت قد لا يكون مختلفاً عن مصير دان حالوتس الذي سجل في ملفه أكبر عدد من عمليات القصف الجوي التي استهدفت الكثير من العواصم العربية والتي لطالما امتدحها صناع القرار في إسرائيل، لكن حالوتس هذا فشل فشلاً ذريعاً في اختبار حرب لبنان الثانية.