أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
مدارات الروح

بقلم : زياد جيوسي ... 13.08.2010

التعبير بعين القلب والذاكرة
منذ زيارتي الأولى لعمّان بعد غياب قسري امتد ما يقارب أحد عشر عاماً، كنت أبحث في ربى عمّان عن وجه الحبيبة الذي افتقدته زمناًً، وفي زياتي الأولى ولقائي الأول مع مركز وصالة (رؤى) للفن التشكيلي، بدأت أستعيد ملامح عمّان، ووطنًا غبت عنه، لأبحث في عمّان عن الوطن، فكانت جولات لي من التحليق مع الفن التشكيلي، وفي زيارتي الأخيرة لعمّاننا، ورغم التعب الصحي والألم الجسدي، لم أستطع الغياب عن (رؤى)، فكان لي لقاء جديد مع فنان كبير، مع (مدارات الروح) والفنان محمود صادق.

(لوحة مدارات الروح 1)
في (مدارات الروح) بتواليات 3 أرقام، وفي (رقصة الروح)، لا نرى مجرد لوحات مرسومة، ولكننا نرى إنساناً يحلق في فضاء (التعبير بعين القلب والذاكرة)، يحلق بروحه فيستحضر المكان/ الزمان، فلا يمتلك المشاهد إلا أن يحلق في الذاكرة، يستعيد المكان ويستعيد الزمان ويجول في فضائهما من جديد، فاللوحات قائمة على انثيال الذاكرة وتدافعها كشلالات من نور، ففي لوحات حملت اسم (مدارات الروح) أبدع الفنان باستعادة ذاكرة حفلات الدراويش والطرق الصوفية بطريقة متميزة، وفي الوقت نفسه اختلف الأسلوب بين لوحة وأخرى، ففي اللوحة التي حملت رقم 1 اعتمد الفنان الألوان الزاهية والجميلة، ولم يتخلّ عن الرمزية التي ميزت أعماله، فالديك ظهر بوضوح يقف على يد بشرية مرفوعة في أعلى اللوحة، والديك في مفهومنا وتراثنا دوماً يرمز لفجر جديد، وإن كان المفهوم يختلف بين الحضارات المختلفة، إلا أنه ارتبط دوماً لدينا في الفجر الجديد وإشراقة النهار وأذان الفجر، بينما في اللوحة التي حملت الاسم نفسه والرقم 2 نرى الفنان قد نه أنه اعتمد القاعدة البيضاء في اللون المتمازجة مع الألوان الحارة وتداخل تدريجات اللون الأزرق، واعتمد فيها الأسلوب اللولبي من نقطة المركز ثم الاستدارة حولها، وكأنها تشير إلى أن الحفلة التي بدأت باللوحة الأولى، بدأت تشتد في اللوحة الثانية، لنجد أن الدراويش وصلوا إلى حالة من الغياب الروحي والانفصال عن الجسد في اللوحة رقم 3، فتتداخل الألوان الحارة بقوة وتكاد تختفي معالم الأجساد للدراويش في حالة اندغام صوفية تصل إلى درجة الجنون، ونجد أن الفنان استخدم في اللوحتين رقم 1 ورقم 2 الألوان الزيتية، بينما لجأ إلى الألوان الشمعية (ENCAUSTIC) في اللوحة الثالثة وفي (رقصة الروح)، والشمع هنا طريقة توصّل إليها الفنان برحلة بحث طويلة، وتمكن بعد رحلة بحث من الوصول إلى معادلة تحضير هذه المادة بشكل علمي، لكنه لم يخفها وخرج من إطار الأنا ليكشفها للفنانين بدون مقابل، فاستخدام الشمع في الرسم هي طريقة مستخدمة في عصور الفراعنة وقدامى الرومان، لكن تركيبة المادة حتى تبقى محفوظة وتقاوم تأثيرات الزمان والمناخ لم تكن معروفة.

(لوحة ليلة الحناء)
المكان والتراث الشعبي بالزي والمكان وهو أحد ركائز الفنان لم يغب عن المعرض، فنرى ذلك بوضوح في لوحات حملت اسم (ليلة الحناء) و(أغاني الفرح) و(رائحة المكان) و(حي شعبي) و(إيقاع القصيدة) و(ترحيب) و(تجريد معماري)، وفي هذه اللوحات استعاد الفنان ذاكرة الزمان والمكان لحياة القرية، واعتمد فيها الثوب الفلسطيني المطرز وتقاليد الفرح ومعيشة القرية، فتنقل بنا بين تقاليد الفرح والزواج، إلى سهرات البهجة والمزمار والنقر على الدفوف، فتمكن من خلال الفكرة والأسلوب من إعادة المشاهد إلى جو القرية والتراث الحقيقي في الأفراح وشكل المكان البسيط، قبل أن تغزو مجتمعاتنا حفلات الصخب والموسيقى المعتمدة على أجهزة ذات أصوات مرتفعة تثير الرغبة في الهرب بدلاً من المتعة والمشاركة كما في التراث، ويثير الرغبة في نفس المشاهد للهرب إلى راحة النفس في البيئة الريفية بعيداً عن غابات الإسمنت التي تحجب الروح والهواء.

(لوحة الشيء وضده)
الفلسفة والبحث في الوجود لم تغب عن اللوحات، ففي لوحة (أين نذهب) بالألوان الزيتية والقماش، نجد أربعة نساء وطفلة؛ اثنتين تنظران جانباً، وطفلة تنظر إلى الأمام وهي ممسكة بيد امرأة، وامرأة تغيب في قلب اللوحة، والأزياء في اللوحة مستمدة من الزي الشعبي الفلسطيني، ما يوحي إلى أن السؤال خرج من إطار الفلسفة المجردة للتفكير بمستقبل شعب منـزرع في تراب أرضه، وفي لوحة (الشيء وضده) المعتمدة على الرسم بالشمع، نرى لوحتين متناقضتين في إطار اللوحة التي اعتمدت على الألوان القوية كالأصفر والأحمر والأزرق، وطيور وحمائم وبيوت ريفية، وحبات التفاح الأحمر، وفي يسار اللوحة يظهر الفرح بمشهد لرجل وامرأة يحيطهما الهلال المنير، ينظر إليهما طيور الحمام، وعيون تحمل الأمل والفرح في أعلى يسار اللوحة، وفي امتداد المكان نفسه على يمين اللوحة بالنسبة للمشاهد، مشهد لفتاة تهاجم فتاة أخرى بوحشية وتغرس أصابعها في عينيها، فتسقط التفاحة المقضومة من يدها، وبدلاً من القمر نجد أفعى بلون أزرق داكن تلتف حول المرأة العنيفة، وفي أعلى وسط يمين اللوحة تظهر قاعدة قدم عارية للفتاة بوضوح، وفي أعلاها ومن خلف أوراق الشجر تظهر أطراف نجمة سداسية وكأنها ترمز إلى أن العدوان على هذه الجنة ومحاولة سلب خيراتها هو صهيوني القاعدة والخلفية، وفي وسط اللوحة تظهر رمزية أخرى من خلال مثلثات متداخلة، وكذلك نجد في لوحة (اللامكان) فلسفة تتحدث عن الحاضر من خلال مشهد يمثل شجرة متعبة وشخصان باللون الأزرق الداكن، فكان واقعنا حالة من الضياع.

(لوحة سبيل الحوريات)
الذاكرة والحاضر والحب والغد ظهروا بوضوح في العديد من اللوحات، ففي لوحة (الفتاة والنافذة) تظهر فتاة لأول مرة في اللوحات ترتدي الزي المدني الحديث يخرج عن إطار الزي التراثي وإن لم يختلف المكان، فالنوافذ تحمل طابع الشكل التراثي في المعمار، في رمزية واضحة تشير إلى التغير الحاصل في المجتمع، وإن حافظت اللوحة على ألوان البهجة والفرح، فحملت اللوحة الحاضر، بينما لوحة (الحنين إلى الأمس) حملت الذاكرة، بينما في لوحة (ذاكرة القمح)، نجد أن الفنان أشار إلى الماضي والمستقبل من خلال القمح، فبلادنا التي كانت تلقب (أهراء روما) أصبحت تعتمد على القمح المستورد، وغابت بيادر القمح التي شهدناها وتركزت في الذاكرة، واختفت أغاني الحصاد الموسمية، فنجد سنبلة القمح في مركز اللوحة وإوزة بيضاء ونوافذ الأمل وسلماً يرتفع على يمين اللوحة، وفي أعلاه امرأة تمثل جيلاً سيأتي من أرحام أمهاتنا يحمل الأمل، وسنبلة قمح أخرى تحمل حباتها رمزية للوجوه في أعلى الزاوية اليمنى فوق السلم، وكأن الفنان يقول لنا: إن الأمل بالعودة إلى الأرض والاكتفاء الغذائي لنضع لبنات لمستقبل أجمل، وتتكرر فكرة الغد بلوحة (قصفة الحبق)، وأما الحب فيرمز له بوضوح في لوحة (قصة حب) الرومانسية المعنى والفكرة، وكذلك في لوحة (الزهرة الحمراء)، ولوحة (وردة من أريحا)، والذاكرة تتكرر في العديد من اللوحات مثل (أرض الحكاية) و(تجريد معماري)، ونجد الغد والحلم به يتمثلان بوضوح في لوحات (فجر أزرق) و(نجمة الصبح) ولوحة (قبل أن يصل المطر) ولوحة (حلم)، وفي لوحة (فاكهة الضوء)، وكذلك في لوحة (سبيل الحوريات) التي تميزت برمزيتها من خلال جوادين باللونين الزاهيين الأصفر والبرتقالي، والجياد دوماً رمز للحلم والخير والقوة، ونهر أسماك وامرأة بالثوب الفلسطيني المطرز تحمل غصناً أخضر، وامرأة تضطجع في أعلى اللوحة وكأنها هلال قمري مضيء، وفي وسط اللوحة مربع يضم تجريداً لستة نساء، فكان مجموع النساء ثمانية، وكأنهن رمز للنجمة الكنعانية، إضافة إلى رمزية لمبة الكاز التي كانت مصدر الإضاءة في الماضي، والطير في اللوحة رمز للعطاء.

(لوحة ذاكرة القمح)
الأسطورة كما التراث بعض من ركائز لوحات الفنان محمود صادق، وظهرت الأسطورة بوضوح في لوحة (عودة تموز) بينما ظهرت بشكل مختلف من خلال لوحة (أغنية فارسية)، وفي لوحة (قارئة الفنجان).
الرمزية وهي قاعدة أساسية في لوحات الفنان تمثلت في كل اللوحات بلا استثناء، فالديك بالكاد غاب عن اللوحات وكذلك الطيور والحمائم بشكل خاص، وأغصان الأشجار والقطط والخيول، وفي معظم الرموز كان الارتباط بالأرض والتراث والأجواء الشعبية للقرية، بحيث أن المشاهد يشعر أنه يجول في الريف ويحيا به.
ثلاثٌ وثلاثون لوحة رسمت الحكاية التي توجت بلوحة (باب الحكاية)، فروت حكاية شعب وأرض وماض وحلم ومستقبل، كان منها أربع عشر لوحة اعتمدت الزيت على القماش، وثماني عشر لوحة اعتمدت الشمع، ولوحة واحدة اعتمدت المادتين الشمع والزيت، واللوحات الزيتية كانت عملية مزج اللون فيها متميزة وكمية اللون كريمة، فلم أشاهد بثور أو سيلان ما يدل على احتراف متميز في عملية الرسم ونشر اللون بهدوء وأناة، رغم أن الفكرة في كل لوحة كانت كالشلال المتدفق، وفي اللوحات الشمعية كانت قدرة الفنان على معالجة المادة بواسطة (فرد النار) كبيرة جداً كون المادة الشمعية سريعة الجفاف، وكان المعرض حكاية لا يمكن المرور أمامها لمرة واحدة، ورغم زيارتي المعرض ثلاث مرات، إلا أني ما زلت أشعر أن كل لوحة كانت تمثل حكاية تستحق مقالاً خاصاً بها.

(عمّان 14/7/2010)