بقلم : هبة الإفرنجي* ... 09.05.2010
بخطوات واثقة دفعت نفسي لسوق مكتظ بمحلات العطارة والأدوات المنزلية، غصت في عالم آخر فأصوات الباعة التي يرتد صداهم داخل السوق والذي رسم بشكل زاوية، لا يكاد يغادر أذني، أطفال يتراكضون مسرعين كي يشتروا مما خصص لهم من بضاعة ليومهم هذا، أصحاب المحلات التجارية، تخترق أصواتهم أذنيك مرددين بأسماء العطارة الموجودة لديهم علك تتذكر بأنك تحتاجه في يوم ما، فتذهب لتشتريه، ناهيك عن رائحة الزعتر البري والشامي والذي عبق رائحته يخترق أنوفك مذ دخولك للسوق حتى خروجك منه ولا تغادر إلا محملا بكيس منه.
كل ذلك تشاهده في سوق الزاوية في مدينة غزة والذي يجمع عشرات الباعة من رجال ونساء وأطفال، ليكسبوا قوتهم اليومي من عرق جبينهم كما تعودوا منذ أعوام مضت.
ولأمتع نظري بما يحويه جوف هذا السوق والذي يعد من الآثار القديمة لغزة، وأمرن قلمي على تذوق ما في جعبة هذا السوق الأثري.. أخذت أقدامي ترافقها كاميرتي تتجول وتختلس النظر لأجد من الباعة رسمت على تقاسيم وجهه خطوط القدم في هذا المكان ، فما كان منها إلا أن تقف وتأخذ له صورة وهو يخلط بهدوء وبرودة أعصاب لا مثيل لها السمسم المحمص بالزعتر، اقتربت منه وسألته عن السوق ومكانته قديما وحديثا آملة أن يرويني بإجابة فقال: "سوق الزاوية يقلب في ذاكرتي ذكريات عديدة، والتي يطغى عليها الذكرى الأليمة فقد مرَّ عليّ وأنا في السوق الانتفاضتين، خلال هذه الفترة كلها آتي صباحا وأفتتح محلي، ثم ما ألبث أن أغلقه في تمام الساعة الواحدة".
غافلني لبضع ثوان وأخذ يرتب وينقل أكياس جوز الهند ويضعها في واجهة محله كأن همه وشغله اليومي تغيير وضعية أكياسه، الأمر الذي يخطر ببال الرائي قلة الإقبال.
التفت الأربعيني محمود حجازي ووجه نظره للمارين في السوق وقال: "كان السوق أجمل والناس والبيع فيه بركة، لكن في هذه الفترة الوضع شبه عقيم، إضافة للغلاء الذي تشهده المنطقة، الوضع في أسواق غزة لا يسر صديق".
أخذ يحدثني ويقلب في خلجاته تاريخ السوق القديم قائلا: "أغلب مَن في السوق هم العطارين، ولكن هذا لا يمنع وجود فئة لا بأس بها من باعة الفواكه والخضار والأدوات المنزلية".
وعن ترميم هذا المكان أشار حجازي أنه لم يرمم بشكل خاص وإنما كل من يرغب في تجديد محله يقوم بتجديده، لافتا إلى أن السوق أصبح في ثوب جديد يختلف عن الثوب الذي رسم فيه قبل ثمانية قرون.
بنفس عميق استنبطت من خلاله الجرح العميق الذي يتغلغل حجازي حينما سألته عن وضع السوق خلال فترة الحصار قال: "الحصار، مَن منا لم يتأثر بهذا الغول المزلزل، لم يعد الناس تشترى إلا ما تحتاجه، وإن كان هناك شيء تحتاجه فتقوم بشرائه حينما يتم صرف الرواتب، وبعدها بيومين أو ثلاثة تنقطع الفرصة الذهبية التي سنحت لنا فيها بأن- نترزق-".
أما الخمسيني سليمان الحلو صاحب إحدى محلات الأدوات المنزلية في السوق فاقترب مني حينما رآني أحدث جاره، أخذ يحدثني كي يفرغ ما في جعبته من ذخائر شحنت على مدار أعوام من المعاناة التي لازمته فأخذ يقول بانفعالية: "أنا في هذا السوق منذ ما يقارب 15 عام ولم يمر فترة عصيبة كالتي نمر بها حاليا، الوضع غير طبيعي، والحالة الاقتصادية مدمرة ومنهارة، لا نعمل إلا يوم صرف الرواتب، وهذا الشهر لم يدخل جيوبنا أي قطعة نقدية، هذه الحالة، من ترضي؟".
ويضيف: "السوق لا تكاد تنقصه نوع من أنواع البضائع فهو "عمران" والحمد لله، ولكن الحصار والغلاء جعل المشتريين لا يقتربون حتى للسؤال عن ثمن أي شيء".
أخذ يحدثني كمن لها عمر في السوق تبيع فيه ويسألني ولا ينتظر مني الإجابة: "السوق كان عامر سواء كان بأهل البلد أين بالسياح، أين ذهب السياح، أين ذهب الزوار، لماذا البضائع تنتهي أحيانا مدة صلاحيتها وهي مكدسة فوق بعضها البعض تنتظر من يرأف بها ويشتريها".
وعبر الحلو عن امتعاضه الشديد حينما سألته عن ملكيته للمحل والذي يبيع فيه الأدوات المنزلية من معدات للخبز، فقال بمرارة: "يا ابنتي أنا على ظهري جبل من الديون ايجار هذه الدكان الصغيرة الحجم لوزارة الأوقاف ومؤخرا تم رفع دعاوى في المحاكم". ثم ما لبث أن عقب بسؤال وهو موقن بأن الإجابة واضحة: "وبدك تعرفي حالنا لسا؟".
ويضيف أبو هاني: "سوق الزاوية معالمه تغيرت وقد غطت على المعالم الأثرية فيه المباني الحديثة، لكن لم يتغير رواده كثيرا، فما زالت طبقة الموظفين هي الزبون الدائم لهذا السوق".
وعن الأسماء التي سمي بها السوق لفت إلى أن هناك الكثير من الأسماء والتي ألصقت بذات السوق، فمنها ما كان يسميه سوق الأفندية وذلك بحسب العديد من الباعة والذين أجمع أن الأفنديين سكان المدينة كانوا ينزلون لهذا السوق يتبضعون منه، بخلاف سكان المناطق البعيدة والتي لا يستطع أهلها القدوم للسوق دائما للتبضع، وأطلق عليه أيضا اسم سوق الموظفين وذلك لأن رواده غالبا ما يكونوا من الموظفين يتجهون للتسوق فيه بعد عودتهم من أعمالهم، ومنهم من أطلق عليه سوق الكبار، أما اسم سوق الزاوية والذي أشتهر به في الآونة الأخيرة، عن ذلك أخذ يحدثنا العطار أبو هاني والذي غزى الشيب شعره، ومن ملامح وجهه قد تعدى الخمسين من عمره فقال: "سوق الزاوية سمي بذلك على اسم زاوية جامع الهنود".
وعن ترميم السوق أخذ نظرة حول المباني المجاورة لدكانه كأنه يتفحصها وقال: "المكان قديم وأصحاب المحال هم من يرممون ويجددون محالهم إذا ما رأوا أنها تحتاج لذلك"، حينها التحف تفكيري ونظري فتنبه لي أبو هاني وأوضح بأنه قبل عشر سنوات تم ترميمه وتزفيته، ولكن لم يعد يبالي أحد بحاله التي يرثي لها وقد أغرقه الخراب.
أراد أن يكمل حديثه ولكن اقتراب أحد السيدات لشراء حاجياتها منه، جعله يتجاهلني كي "يسترزق" وبابتسامة شعرت حينها، وكأنه افتك من نحس عدم الإقبال شكر الله وحمده حينما قبض ثمن ما باعه للسيدة.
اختلست هذه الفرصة كي أحادث إحدى زبائن هذا السوق فتقول أم العبد: "أنا لا أمر للسوق إلا إذا ما نقص شيء ما في البيت وأثر عليه بشكل لا يمكن أن أجلس بدونه، نحن الآن بحاجة لأن لا نبذر قرش واحد في مشتريات لا يمكن أن تنقص الحياة بدونها".
لملمت حاجياتها من مواد تموينية والتي كانت بالفعل أساسية وعادت من حيث أتت.
بيوت عتيقة وزوايا ومعالم أثرية هامة تعود إلى ما يزيد عن الخمسمائة عام، تتوزع بين أزقة سوق الزاوية، والتي طمس بعضها نتيجة العمران والتجديدات. والذي يمتد بشهادة الباعة الذين أفنوا حياتهم داخل هذا السوق من ميدان فلسطين حتى المسجد العمري الكبير، أسدلت ستار هذا السوق الضخم بصورة غمست بأجمل الأماكن تاريخيا، ولم أنسى أن أرافق دربي بضع من ذاك الزعتر الشامي، شاهدا على زيارتي لهذا المكان.