أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الرّوائيّ ربعي المدهون عريسُ حيفا في شهرِ الثّقافة والكتاب العربيّ!!

بقلم : آمال عوّاد رضوان ... 18.05.2010

في شهرِ الثّقافةِ والكتاب العربيّ أقيمتْ أمسيةٌ أدبيّةٌ راقية في قاعة مسرح الكرمة/ حيفا، ووجهًا لوجهٍ مع الرّوائيّ الفلسطينيّ (ربعي المدهون)، وكتابهِ (السّيّدةُ مِن تلّ أبيب - تلّ الرّبيع)، وذلك يوم الأحد الموافق 16-5-2010،وهي الفائزة على اللاّئحةِ الطّويلة لجائزةِ بوكر للرّواية العربيّة لعام 2010، بالتّعاون بين المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر في بيروت، ومكتبة كلّ شيء العربيّة في حيفا. وكانتِ الرّوايةُ قد استُقبِلتْ بحفاوةٍ بعدَ صدورها أيّار الماضي، وأثارتْ جدلاً كبيرًا بينَ النّقّاد العرب، لطبيعةِ موضوعِها وأسلوبِ تناولِهِ، واختلافِ مقاربتها للصّراع العربيَ الإسرائيليّ!
بطَلّةٍ شبابيّةٍ بهيّةٍ تهادى يتأبّطُ عودَهُ، لتتماوج بشجى عذبٍ أناملُهُ الرّقيقة تداعبُ أوتارَ عودِهِ، فتغارُ أوتارُ حنجرتهِ وتفوحُ عطرًا يعبق بأغنية سيّد درويش "أهو دا اللّي صار واللّي كان"، وأغنية تراثيّة "يُمّا مويلي الهوا"، مستقبِلاً حضورَ الأمسية.
على إيقاع هادئٍ هدَلَ صوتُ الشاعر رشدي الماضي عريف الأمسية، يشكرُ الفنّانَ إلياس عطالله في فقرته الغنائية، ليتابع:
صَبا حيفا مفعَمًا بلهفةِ ولَهِ المشتاقِ، ظلَّ ينتظرُك، كيفَ لا وحيفا هي العروسُ العروسُ، وقد نشرَتِ الصّباحَ على زيق شاطئِها قنديلاً وضّاحَ المُحيّا، وهمستْ لكرمِلِها أن يتشاهقَ فنارًا يسهرُ في حلكةِ اللّيلِ البهيم، ويظلُّ الهدهدُ الدّليلُ لعريسِها الغائبِ، عريسِها الّذي أبرقَ مِن بياضِ ضبابِ غربةِ الغياب، أنّهُ في سفينةِ عوليس عائدٌ إلى نافذةٍ لم يبْقَ مِن "صوف" اتظارِها إلاّ البقيّة.
حيفا يا قصيدةَ العائدِ في زمن الشّتات، مُدّي لقادمٍ أتاكِ اليومَ عاشقًا، مُدّي عاجَ كاسرِكِ، واتركي ثوبَ الفرح ينضو عن جسدِ الخليج، وشُقّي لهُ طرحةً تخبّئُ وجهًا نديّا، عريسُكِ اللّيلةَ يا حيفا ذراعانِ حولَ خاصرةِ بنفسجِكِ، وسيظلُّ وِصالاً لا يُدانيهِ النّضوبُ، ولا يعرفُ مِنَ الكِبرِ الكِبرَ العتيّا. هيّا أنا وإيّاك يا حيفا نقول لعائدِنا: أهلاً وسهلاً بعريس حيفانا القادمِ مِنَ البرْدِ والضّباب، أهلاً بالرّوائيّ الفلسطينيّ البارز، وابن هذا الوطن الّذي لمّا يزلْ هاربًا، أهلاً بربعي المدهون وزوجتِهِ، فحيفا يا ضيفَنا الكبير تزغردُ فرحًا بقدومِكَ.
شكرًا قلبيًّا لصاحبِ أكبر وأضخم دار للكتاب العربيّ، لأب الكتاب صالح عبّاسي، الّذي قامَ باستضافةِ عزيزنا ربعي وعقيلتِهِ، كي يتيحَ لأسرةِ حيفا بقضِّها وقضيضِها فرصةَ الالتقاءِ بهما وجهًا لوجه. شكرًا لبيتِ الكرمةِ ممثّلاً برئيسِ إدارتِهِ الأستاذ حمودي عيسى، الّذي فتحَ بابَ مسرح بيت الكرمة لعقد هذا اللّقاءِ المميّز، شكرًا لكلّ زميلٍ وزميلة من الحضور الكريم الّذي لبّى دعوتَنا، والمشاركةَ في هذا الحدَثِ الثّقافيِّ الهامّ.
جاءَ على غلافِ الرّواية بقلم موسى حوامدة: هذهِ الرّوايةُ خيطٌ مِنَ حكاياتٍ شيّقةٍ وجميلةٍ، سردٌ ممتعٌ ولغةٌ ساحرةٌ وشفّافةٌ قريبةٌ مِن القلب، مُغوِيةٌ ومُغريةٌ في آنٍ واحد، وقد تكونُ هذهِ الرّوايةُ هي الأولى الّتي تتخلّى عن النّظرةِ التّقليلديّةِ، للوطن ولمسقطِ الرّأس وللأهل وحتّى للعدوّ.. روايةٌ عصريّةٌ تخطّتِ النّظرةَ التّقليديّةَ للرّوايةِ الفلسطينيّة.
مداخلة النّاقد أنطوان شلحت:/
"السّيدةُ مِن تل أبيب" روايةٌ جديدةٌ، تؤسّسُ حالةً مِنَ الانسجامِ في تدوين رؤيةٍ عميقةٍ للواقع!
(*) "السّيّدةُ من تل أبيب" هي أوّلُ روايةٍ للكاتب الفلسطينيّ ربعي المدهون، الّذي سبقَ لنا أن طالعناهُ كاتبًا للقصّةِ القصيرة، وباحثًا في الشّؤون السّياسيّة. ويبدو لي أنّ ظاهرةَ كتابةِ الرّوايةِ في سنٍّ متقدِّمةٍ قليلاً، ليستْ ظاهرةً طارئةً في الثّقافةِ الفلسطينيّة، فالكاتبُ إميل حبيبي مثلاً، الّذي قدّم للأدب الفلسطينيِّ إحدى أهمِّ الرّوايات، كتب "المتشائل"، وهي أولى رواياتِهِ، في أوائل السّبعينيات مِن القرن العشرين، وكان قد تجاوز الخمسين عامًا.
لعلّ أوّلَ سؤال يتبادرُ إلى الذّهن، في إثر قراءةِ روايةِ المدهون، يتعلّقُ بموضوع التّقاطع أو الاشتباكِ بينَ أحداثِ الرّوايةِ وشخوصِها، وبينَ وقائع السّيرةِ الذّاتيّةِ للكاتب وشخوصِهِ الحقيقيّةِ أو الواقعيّة. واختزالاً للمواصفاتِ أبادرُ فأقول: إنّ هذهِ الرّوايةَ ليستْ متنائيةً عن صنفِ أو جنس السّيرةِ الذّاتيّة المموّهة، (وثمّةَ مَن يعتقدُ أنّ الرّوايةَ أصلاً هي عبارةٌ عن سيرةٍ ذاتيّةٍ مموّهة)، ولعلّها في الوقتِ نفسِهِ سيرةٌ ذاتيّةٌ مفنّنة. ويبدو أنّ هذا الجنسَ ألحَّ على الكاتب في ضوءِ العلاقةِ شديدةِ الخصوصيّة، بينَ الكاتب الفلسطينيِّ وبينَ الزّمانِ والمكانِ على حدٍّ سواء. وإنّ فحوى هذهِ العلاقةِ ينطلق مِنَ السّيروراتِ التّالية:
•المكان- في أيّ بقعةٍ مِن العالم، في معظمِهِ، يعيش الإنسانُ في المكان، أمّا الإنسان الفلسطينيُّ فإنّ المكانَ يعيشُ فيه؛
•الزّمان- علاقةُ الفلسطينيِّ بالزّمان الماضي تتميّزُ برؤية ذلك الماضي مقطوعًا عن الحاضر، وبرؤيةِ الحاضر "زمانًا بالوكالة" أو حتى إشعارٍ آخر، فضلاً عن انطواءِ الماضي على سماتٍ لا يجوزُ التّغاضي عنها لدى صوْغ المستقبل.
في موازاةِ ذلك، فإنّ روايةَ المدهون تندرجُ في إطارِ ظاهرةٍ أدبيّةٍ وروائيّةٍ لم تكتملْ ملامحُها الكاملةُ بعْدُ، وأعني؛ ظاهرةَ الكتابةِ عن العودةِ إلى فلسطين مِنَ المنافي أو الشّتات، والّتي أنتجتْ حتّى الآنَ أعمالاً أدبيّةً رائعة، أذكرُ منها مثالاً لا حصرًا: "رأيت رام الله" لمريد البرغوثي، و"منازل القلب" لفاروق وادي، و"الحنين- حكاية عودة" لفيصل حوراني.
تدورُ فكرةُ "السّيّدةُ مِن تل أبيب" حوْلَ فلسطينيٍّ يعودُ بجنسيّةٍ أجنبيّةٍ إلى قطاع غزّة عن طريق إسرائيل، بعدَ غيابٍ طويل (نحو أربعة عقود)، وحوْلَ مفارقاتِ عودتِهِ. في البدايةِ اختارَ الكاتبُ فلسطينيًّا آخرَ لهذهِ العودةِ كي يكتبَ عنها، لكنّهُ في مرحلةٍ لاحقةٍ قرّرَ الكاتبُ نفسُهُ، وتجاوبًا مع اقتراح زوجتِهِ، أن يقومَ بنفسِهِ بزيارة غزّة، متطلِّعًا إلى تحقيق هدفيْن: أوّلاً، زيارةَ أمِّهِ وأهلِهِ؛ ثانيًا، تتبُّع مسار روايتِهِ الأصليّة، والوقوفُ عن كثبٍ على التّفصيلاتِ الّتي يمرُّ بها البطل الأوّل في رحلتِهِ واختبارِها. وهكذا فإنّهُ تحوّلَ إلى مؤلِّفٍ وبطلٍ وراوية، يبحثُ عن التّفصيلاتِ في الواقع والرّوايةِ، في الحقيقةِ والظّلّ.
بطبيعةِ الحال، فإنَّ رحلةَ الكاتبِ تُرافقُها أحداثٌ وشخصيّاتٌ ومصائرُ، يَسردُها بأناةٍ وعينٍ فاحصة. وثمّةَ في الكتاب أكثر مِن روايةٍ تحكي ذلكَ كلّهُ: هناكَ أوّلاً حكايةُ الرّواية، وثانيًا حكاية "السّيّدة من تل أبيب"، الّتي تقدّمُ قصّةَ اللّقاءِ مع شخصيّةٍ إسرائيليّةٍ في الطّائرةِ المُتّجهةِ إلى مطار تل أبيب، وثالثًا حكايةُ "ظلاّنِ لبيتٍ واحد"، عن قصّةِ العودةِ إلى غزّة وما انتهتْ إليه.
في الحواراتِ الّتي أدلى بها الكاتبُ إلى بضْع صحفٍ عربيّة، أكّد أنّ "السّيّدة من تل أبيب" تنتمي إلى "الرّواية الجديدة". ومِنَ المعروفِ أنّهُ في فترةٍ ما بعد الحرب العالميّة الثّانية، في الخمسينيات مِنَ القرن العشرين الفائت، ظهرَ شكلٌ تجريبيٌّ في فرنسا للرّوايةِ، عُرِفَ باسْمِ الرّواية الجديدة، وقد رفضَ أصحابُ هذا الاتّجاهِ السّماتِ التّقليديّةَ للرّواية، مثل الحبكة المنظّمة والشّخصياتِ واضحةِ المعالم، وركّزوا على وصْفٍ دقيق للأشياء والأحداث كما هي. ومثّلت هذا الاتّجاه، أكثر شيءٍ، روايةُ آلان روب جرييه "الغيرة" (1957). وقد تبنّتْ بيانات كتّاب الرّواية الجديدة مجموعةُ رؤى، تدعو إلى نبْذِ النّموذج الرّوائيِّ السّائد، والّذي كانَ يوغلُ كثيرًا في تدوين الحدَثِ، مِن خلالِ السّردِ التّقليديِّ أو الواقعيِّ المباشر، الّذي يميلُ إلى الفلسفيّة على حساب الجسدِ الفنّيِّ للنّصّ الرّوائيّ، وكذلك التّخلّي عن أفكارٍ ورؤًى أنتجَتْها ثقافةُ مجموعاتٍ أو طبقاتٍ لها سطوتُها في المجتمع، لكن مِن بينِ هؤلاءِ الكتّاب، يبدو المدهون أقرب إلى كلود سيمون، الّذي تبنّى طرحًا كان نتاجًا لرؤيةٍ ذاتيّة، فيها الكثير مِنَ الجرأةِ والتّجاوز للتّقليديّ والسّائد، مِن خلال محاولةٍ جادّةٍ لابتكارِ شكلٍ فنّيٍّ، فيه مِنَ الثّراءِ والتّدفّق ما يجعلُهُ مميّزًا في طرْح رؤياه.
مِن خلالِ قراءةٍ تحليليّةٍ لمساراتِ الحدثِ في نصّ كلود سيمون، نجدُ أنّ الخطوطَ المرتبطةَ بالثّيمةِ الرّئيسةِ تمتدُّ، لتتّصلَ بثيماتٍ ثانويّةٍ متتالية، والمُلفتُ للنّظر، أنّ التّدفّقَ اللّغويَّ والتّجسيدَ الوصفيَّ لتلكَ الثّيماتِ، يتمُّ معالجتهما بنفس القدْر مِنَ الاهتمام بالثّيمةِ الرّئيسة، هذهِ المعالجةُ تنتجُ مجموعةَ انفعالاتٍ، تكشفُ بوضوحٍ العلاقةَ الجدليّةَ ما بينَ البؤرةِ الرّئيسةِ للحدث والمحيط الزّماني والمكاني، إذ لا يمكنُ لحدثٍ أن ينموَ ويتفاعلَ بمعزلٍ عن المحيط، وكلّما كانتِ الجدليّةُ بينَ الحدَثِ وامتدادِهِ مُجسّدةً ومؤثّثةً فنّيًّا، كانتِ الرّؤيةُ المطروحة محتكمةً إلى ثراءٍ فكريٍّ ومصداقيّة، أكثرَ تأثيرًا في ذاكرةِ القراءة، الّتي تُمثّلُ الهاجسَ المباشرَ لرؤيةِ النّصّ. وبطريقةٍ أخرى، يمكنُ فهْم العلاقةِ ما بينَ الكاتب والنّصّ في لحظةِ الكتابة، مِن خلال تصَوُّرِ القصديّةِ أو الغائيّةِ في تدوين الحدَث، أي هل الكاتبُ يُفكّرُ بتدوين مشهدٍ معيّنٍ بنفس التّركيز الّذي يُدوِّنُ بهِ المشاهدَ المرتبطة؟ وهل الكاتبُ في معالجتِهِ مجموعةَ حوادث تتّصلُ فيما بينها، يقصدُ أن يعكسَ تصُوّرًا أكثرَ وضوحًا عن حالةِ التّداعي الّتي يمُرُّ بها في لحظةِ الكتابة؟
إنّ مثلَ هذه التّساؤلاتِ تجعلُنا نتأمّلُ هذا النّصَّ بحذرٍ وخوفٍ أحيانًا: الخوفُ مِن لحظةِ التّشظّي والانفلاتاتِ الجامحةِ، للّغةِ الّتي يقتحمُ بها الكاتبُ لحظاتِهِ البكْرَ، ليزرعَ الهاجسَ في مجموعةِ بيئاتٍ وأزمنةٍ تنشغلُ باستحالاتٍ وتداعياتٍ مرصودةٍ مِن قِبَلِ الكاتب، الّذي يُحاولُ مِن خلالِ خلخلةِ المشاهدِ، والحذرِ مِن لحظةِ التّماهي، أن يُؤسّسَ بعيدًا في حقولٍ لا تنتمي إلى النّصّ. مهما يكن، فإنّ المحصّلةَ هي تقديمُ رؤيةٍ جديدةٍ في التّعامل مع النّصّ الأدبيّ، الّذي يتطلّعُ إلى تدعيم حالةِ الوعي، مِن خلال تطويرِ آليّاتِ التّعاملِ مع النّصّ.
إنّ العلاقةَ بينَ المدهون والرّواية الجديدة، تكمنُ في طرْحِ مجموعةِ مفاهيم أنتجَها النّصُّ وليسَ العكس، أي أنّ رؤيتَهُ التّحديثيّةَ تجلّتْ في انشغالِهِ في إنتاج ما يفكّرُ فيه في لحظةٍ معيّنة، بشكلٍ متوازن مِن حيث المؤثّرات البيئيّةِ والدّوافع النّفسيّة، الّتي تساهمُ في تدوين الحدَث، وما ترتّبَ على ذلك، هو تأسيسُ حالةٍ مِنَ الانسجام في تدوين رؤيةٍ عميقةٍ للواقع، مِن خلال نسْجِ صورةٍ متخيّلةٍ مغايرةٍ تمامًا لِما يطرحُهُ الأدبُ التّقليديّ، الّذي استهلكَ مساحةً كبيرةً مِنَ الذّاكرة الأدبيّة.
داخلَ هذا المعمارِ الفنّيِّ، يَهمُّني أن أشيرَ إلى ما يلي مِن علاماتٍ لافتةٍ في الرّواية:
(*) تُطلُّ علينا غزّة بما تحملُهُ مِن دلالةِ المشهدِ الفلسطينيّ الرّاهن وتراجيديّتِهِ كلِّها، فالحياةُ في غزّةَ أشبه بعيشٍ طارئٍ في حياةٍ طارئة، عيش مِن أجل الموتِ الّذي مضى والموتِ الّذي سيأتي، غزّةُ الّتي كبرتْ خمسين عامًا إلى الوراء.. غيرَ أنّ الكاتبَ يُقدّمُ هذه العناوينَ ضمنَ لعبةِ سردٍ لحالاتٍ إنسانيّة، تبدو لأوّلِ وهلةٍ محدّدة، إلاّ إنّها تنطوي على معاني التّجريد كلّها. أعتقد أنّ ذلك راجعٌ أكثر مِن أيّ شيءٍ آخر، إلى أنّ الكاتبَ يجعلُ مِنَ العودةِ ومِن العلاقةِ بينَ المنفى والوطن تجربةً وليس موضوعًا.
(*) تكتسبُ هذهِ الرّوايةُ جدّتها أيضًا مِن تعامُلِها مع الشّخصيّة الإسرائيليّة، وهو تعاملٌ يقومُ على العناصر التّالية، الّتي تُعتبرُ فتحًا في القصِّ العربيِّ والفلسطينيّ:
- أنسنة هذه الشّخصيّة، باعتبار ذلك الخطوة الأولى للمواجهة المطلوبة معها؛
- محاولة الاستئناس بـ "المنظور الإسرائيليّ" لقراءة أو على الأصح لعرض ما يحدث في داخل الكيان الإسرائيليّ، فالسّيّدةُ من تل أبيب تُقدّمُ النّماذجَ البشريّةَ الإسرائيليّةَ، في إطارِ طيفٍ واسعٍ مِنَ الشّخوص والرّؤى، ينمُّ عن إلمامِ الكاتب بتفصيلاتِ وخفايا ونواظم المشهد الإسرائيليّ؛
- تفنين صراع الذات/ الأنا والآخر، مِن خلال ازدواجيّةِ الرّؤى والمشاعر والأحاسيس؛
- جعَلَ المؤلّفُ أبطالَهُ اليهودَ يتكلّمون فيما بينهم بلغتِهم الأمّ، ذلك بأنّ اللّغةَ تعتبر عنصرًا مركزيًّا مِن عناصر الهويّة. ويمكن القول، إنّ الكاتبَ في تعاملِهِ هذا قد تفوّق أخلاقيًّا على الكُتّاب الإسرائيليّين، الّذين يستنكفون عن الاستئناس بالمنظورِ الفلسطينيّ، والّذين يتجاهلون عنصرَ اللّغةِ، كما شهدْنا مؤخّرًا في مسرحيّة "عائد إلى حيفا"، الّتي مسْرَحَها كاتبٌ إسرائيليٌّ عن رواية بالاسم نفسِهِ لغسّان كنفاني، وجعلَ الزّوجيْن الفلسطينيّيْن فيها- سعيد س. وصفية- يتكلّمان بالعبريّة، لا معَ الشّخصيّاتِ اليهوديّةِ وحسب، بل أيضًا فيما بينهما، وهكذا صادرَ منهما حقَّ التّكلّم بلغتهما الأمّ، وبدا ذلك أقرب إلى استمرار الاحتلال لكن بطرق ناعمة.
(*) إنّ الظِلَّ هو شخصيّةٌ مركزيّةٌ في الرّواية، وربعي المدهون يُعمّقُ مِن خلال ذلك تقليدًا إبداعيًّا في الأدب الفلسطينيّ، جرى في نطاقِهِ توظيفُ الظّلِّ لبناءِ خريطةٍ بديلةٍ لفلسطين بعدَ النّكبة، وباعتبارِهِ شاهدًا على ماضٍ بُتر تحتَ وطأةِ الاستعمار الصّهيونيّ، فضلاً عن إحالاتٍ أخرى في سياق توصيفِ تعقيداتِ الحياة لدى الفلسطينيّين، وكذلك لدى الإسرائيليّين.
(*) الخلطُ بينَ اللّغةِ الفصحى واللّغة المحكيّة والأصوات، ساهمَ كثيرًا في جعْلِ النّصّ حميميًّا ومتدفّقًا.
(*) تضمّنتِ الرّوايةُ إشاراتٍ لم تكن مقحمـة إلى ما يمكنُ اعتباره "بيان الكاتب الرّوائيّ"، مِن قبيل ما يلي: "مِن عادتي مناقشةُ أبطالي في الوقائع الأساسيّة في حياتِهم"؛ "الرّاوي مهما ذهبَ في التّخييل لا يبلغُ حافّةَ الحقيقة... أن تسمع عن معبرٍ إسرائيليّ أو تكتبَ عنه، لن ترسمَ سوى ظلاًّ له، يكبرُ أو يصغرُ ويقصرُ أو يطولُ، بقدْر ما تُلقي عليه مِن ضوء. أمّا الحقيقةُ نفسُها فعَصيّةٌ على الخيال نفسِهِ وعلى الرّواة".
(*) لا شكّ في أنّ هذهِ العلامات اللاّفتة، وهي الأبرزُ في الرّواية، تغفر بعضَ الهنّاتِ الهيّناتِ، ولا سيّما في مَجالَي التّعابير العبريّة، وتحديدِ الأماكن الجغرافيّة.
(*) أخيرًا إذا أردتُ إجمالَ العناصر المتميّزةِ، الّتي يمكنُ استقطارها مِن هذا الصّنف مِن الرّوايةِ الفلسطينيّة الجديدة، فإنّي أستقطرُ العناصرَ الآتية:
* أوّلاً- هذا الصّنفُ له تعبيرُهُ الاجتماعيُّ والثّقافيّ، ولَهُ شهادتُهُ المخصوصة على المجتمع.
* ثانيًا- فيه انخفاضٌ في نبرةِ الصّراخ والأدلجة، بل وحتّى التّرميز كما في شخصيّةِ الأمّ.
* ثالثًا- ينطوي على اقتحامِ مناطقَ لم تكن الطُّرُقُ إليها مشقوقةً في مجال التّجريب والتّجديد.
* رابعًا- تحدّي تابوهاتٍ اجتماعيّة وثقافيّة، (كما يمثل على ذلك الموقفُ من مثليّي الجنس، مقارنةً بموقف علاء الأسواني في "عمارة يعقوبيان").
ولعلّ هذه العناصرَ الأربعةَ كلّها ناجمةٌ، عن أنّ علاقةَ هذا الأدب الجديدِ مع المجتمع، تبدو من وجهةِ نظري، علاقةً خاليةً مِن الخجل أو التّنكّر.
ومثلُ هذه العلاقة تندّ عن دلالةٍ مزدوجة: هناك مِن جهةٍ تصالحٌ مع هذا المجتمع. وهناك من جهةٍ أخرى، قدرةٌ فائقةٌ على نقدِ هذا المجتمع.
مِن هنا نصلُ إلى عنصرٍ خامس، هو الصّدقُ في عرْض الواقع.
تتميّزُ لغةُ الرّوايةِ بأن فيها إيحاءات، لكنّها في الجوهر لغةٌ مباشرة، وهي المؤهّلةُ وحدها للتّعبير عن العالم الّذي تصفُهُ باعتبارِهِ عالمًا حادًّا، عنيفًا، حارًّا، تكْذبُ أيّ لغةٍ أخرى لو حاولتِ التّعبير عنه. لغة تبتعدُ عن الكتابةِ الطّهرانيّة، سجينة البلاغة العربيّة.
إنّ أكثرّ ما يُكرث ربعي المدهون في هذه الرّواية، يتمثّلُ في تصوير الحاضر كما نعيشه من دون تحوير. ومِن هنا كان صِدقُهُ المتناهي في عرض هذا الحاضر كما هو، مِن غير تفلسف أو ادّعاء، ومن غير رغبة في أن يستخلص منهُ الدّروس ،أو أن يستقي منه العِبَر، (وهذا ما تؤكّدُهُ النّهاية المفتوحة). لكن نفْيَ التّفلسفِ مِن ظاهر الكتابة، لا يعني غيابَ أيِّ تصوّرٍ أو رؤيةٍ فلسفيّةٍ عن أفقِها..
إنّ مثلَ هذا التّصوير يتوافرُ على ما يمكنُ اعتباره "دعوة مزدوجة" مِن لَدُنِ صاحبِها.
إنّها دعوةٌ من جهةٍ، إلى أن نتخلّى عن جهْلِنا أو تجاهلِنا لواقع يملؤُهُ الصّدأ والبثور، ومِن جهةٍ أخرى دعوةٌ لأن نلعبَ ورقة الكينونة، ضدَّ انتهازيّةِ "ما يجب أن يكون."... فالكينونة برغائبِها وعلائقِها المادّيّةِ والنّفسانيّة واشتهاءاتِها، هي أيضًا مِن العناصر الأساسيّةِ، الّتي ستُسعفُنا في إزالةِ الغشاوةِ ومدِّ الجسور، لمصالحةِ الذّات ولمواجهةِ الآخر.
ويعود الفنان إلياس عطالله بفقرة غنائيّة قصيرة أخرى، تتضمن موّالين واغنيتين تراثيّتين؛ هَدّي يا بحر هدّي، وعَ الأوف مشعلاني، ليوجزَ لنا الشّاعر رشدي الماضي نبذةً وامضةً عن حياةِ المدهون:
وُلد ربعي المدهون في مدينةِ المجدل عسقلان عام 1945. هُجّرَ بعدَ النكبة الى خان يونس في قطاع غزّة. أنهى تعليمَهُ الثّانويَّ في مدارس خان يونس. أُبعِدَ الى مصر بسبب نشاطِهِ السّياسيّ، فأنهى دراستَهُ الجامعيّة في القاهرة والاسكندريّة، وقد حملَهُ بساطُ الغربةِ والشّتات إلى كلٍّ مِن؛ عمّان ودمشق وبغداد وموسكو وبيروت ونيقوسيا، إلى أن استقرَّ في مدينةِ الضّبابِ لندن، وقد عملَ مُحرّرًا في صحفِ ومجلاّتِ الحرّيّة، الأفق، صوت البلاد، القدس العربيّ، الحياة، وأخيرًا الشّرق الأوسط الّتي لم يزل محرّرًا فيها.
جاء في كلمةِ ربعي المدهون:
في مكالمةٍ لي مع صديق كانَ عزيزًا، سألني عن آخر أخباري، قرّرتُ أن أفاجئَهُ، وأجعلَ مِن سؤالٍ عاديٍّ غيرَ عاديّ: رايح عَ حيفا بعد أسبوع
اِرتعش هاتفُهُ في يدِهِ، لأنّ سؤالَهُ الثاني جاءني مُقطّعَ الحروف، لا يكادُ يُلملمُ نفسَهُ في جملةٍ سليمةٍ: يا يا زززززلمممممة ايش في في حيفا.. ايش في.. انت مجنون؟
قلت: في حيفا يا صديقي وادي النّسناس، هناك حيث حيفا لا تكفُّ عن ولادة حيفا سيّدة سيدة المدن وتوأمُها الشّقيق، الّتي ربّتْكَ وربّتْني، علّمتْني وعلّمتْكَ.. كيف نمسكُ بالحروفِ ونصنعُ سرْدَنا. في حيفا يا صديقي حيفانا الّتي لا تكفُّ عن الحبَلِ وولادة الأسماء؛ إميل حبيبي، توفيق طوبي، راشد حسين، حنّا أبو حنّا، والأنطوانيْن أنطوان شُلحُت وأنطون شمّاس، ورشدي الماضي وسهام داوود، والنّفّاعيْن محمّد نفّاع وهشام نفّاع، ومحمّد علي طه. في حيفا أمل مرقص وريم بنا وريم كيلاني، وعشرات الأسماء الّتي تلد الأسماء. مَن فضحَ لك أسرارَ القصيدة يا صديقي، ومَن علّمَني التّمشّي على خارطةِ الرّواية، كلانا وُلد على سفح كرملِها. في حيفا ياصديقي حيفا الّتي تلدُ الولادةَ نفسَها، لكي تستعيدَ الولادةَ، أليستْ حيفا هي مَن أعادتْ محمودَنا إلى رحمِها لتلدَهُ مرّةً أخرى، وتزغردُ في يوم ولادتِهِ الثّانية، مثلما زغردتْ يومَ ولادتِهِ الأولى؟ أليستْ حيفا مَن أيقظتْهُ في الصّباح على فنجانِ قهوةِ أمِّهِ؟
حينَ عودتي سأهاتفُ الصّديقَ الّذي كان عزيزًا، لكنّي لم أحملْ لهُ سلامًا دافئًا، كعادة المسافرين مِنَ المكان إلى المكان، سأقول له:
شفت باقْية في حيفا، وشفت سعيد كان متشائمًا وصار متفائمًا، وولاء الصّغير كبُرَ بحجم محبّتي له، لكنّه لم يُحمّلْني السّلام، لأنّ مَن ينسى حيفا، تنساه سيّدةُ البلاد الّتي كانَ اسمُها فلسطين وصارَ اسمُها فلسطين، وتعرفُ أنت قائلَ هذا الكلام أكثرَ ممّا تعرفُني. أمس؛ حملتُ نكبتي إلى نكبتي، باحثًا عن طفولةٍ أضعتُها في مكان ما، مِن مدينةِ المجدل عسقلان مسقطِ رأسي ومدينتي الأولى، لقد تأخّرتْ زيارتي لها اثنيْن وستّين عامًا، وجميعُنا يعرفُ السّبب. وقفتُ على حوافِّ بقايا المدينة، كمّن يقفُ على حافّةِ ذاكرةٍ لا تقوى على حمْلِهِ، للحظاتٍ قَسَتْ عليَّ المدينة، كأنّما تُعاتبُني على طولِ غياب، كأنّني مسؤولٌ عن نكبتي، حقّا، ألستُ مسؤولاً عن نكبتي؟
للحظاتٍ بقيتُ مشدوهًا أحاولُ لملمةَ مشاعري، ولا أجدُ سوى صمْتِ مشاعري، لكي أُعطي لمدينتي الأولى فرصةً كافية، لكي تتذكّرَني بعدَ اثنيْن وستّين عامًا على هجرتي. اثنان وستّون عامًا على نكبتِنا الّتي جعلتْ تاريخَنا مسبحةَ نكباتِ، منذُ وعَدَ الرّبُّ بوضْعِ الفلسطينيّينَ في خيمة، وقد أنزَلَهم مِن سِفر التّكوين. مذبوحٌ أنا بوعْدِ الرّبّ، بوعْدِ صاحبةِ الجلالة، بلسان بلفور إله المستعمِرين. أنا مذبوحٌ لأنّ حكومةَ جلالتِهِ نظرتْ بعيْنِ الرّضا والعطفِ، لإنشاءِ وطنٍ قوميٍّ لليهود في فلسطين، لكي تكون على أرضي إسرائيلُ، مولودةً مِن رحم الأساطير والكذبةِ الأولى وخيطانِ الحكاياتِ وعبَثِ الخرافة.
فجأة ًشعرتُ بأنفاس المدينةِ تحمِلُني إلى ذاكرتي، حينَ اندفعتْ إلى عيني يافطةٌ زرقاءُ معلّقةٌ على جدار، هو قطعةٌ مِن جسدِ المدينة. والصّديقةُ لبنى الّتي تُرافقُنا وزوجُها الصّديق صالح عباسي، الّذي قدّمَ لي مفاتيحَ منعطَفٍ تاريخيٍّ أُغلقَتْ أبوابُهُ ستّةَ عقود، هرعتْ وزوجتي سناء لقراءةِ اليافطة الّتي أخذتْ تعترفُ لي في صرخة لبنى: هادي حارة المدهون! في تلكَ اللّحظةِ عرفتْني المدينة، وأخذتْ تُقلّبُ صفحاتِها، بينما أبحثُ أنا عن بقعة ما في مكان ما سمِعضتْ صرختي الأولى.
وجدتُني أصرخُ صرختي الأولى: لتصحي يا عسقلان مِن بين أطلالِكِ، يا مجدَلَنا يا مجدًا لنا، نِمْتِ ستّينَ عامًا، في انتظارِكِ أحفادُ كنعان، مباركةٌ أنتِ يومَ وُلدتِ قبلَ خمسةَ آلاف عام، مباركةٌ أنتِ يومَ تعودين، يومَ تخلعين عنكِ أثوابَ الخرافةِ وأسفارَ الأكاذيب. تستريحين على شواطئِ الخريطةِ يومَ القيامة، وعسقلان سمعَتْني حين ناديْتُها بكلِّ الأسماء، سمعَتْني حين ناديت، لأنّها عرفَتْني منذ كانتْ عاصمةَ الفلسطينيّين.
بعدَ ستّة أيّام أعود إلى لندن، لأعيدَ تأثيثَ منفى يلدُ مِنَ المنفى، لكنّي سأُطمْئِنُ الصّديق الّذي كان عزيزًا، أنّني شفت باقية في حيفا. سأقول له لكي أوقظَهُ مِن نزقِهِ الطّفوليّ.. حيفا باقية في حيفا.. لأنّ باقية باقية في حيفا.. لكي تطمئنَّ على ولاء، وولاء يدير باله على أمّه.. باقية باقية في حيفا، لأنّ حيفا باقية في حيفا، لأنّ أهل حيفا ما زالوا ينطقونها حِيفا.
حاور الحضورُ الروائيّ المدهون، واختتم اللقاء الشاعر رشدي الماضي بكلمة شكر لكلّ مَن حاورَ وساهمَ في إنجاحِ هذه الأمسيةِ الرّائعة.