بقلم : د. فايز أبو شمالة ... 23.09.2010
أنخلع وجداني وأنا أدقق في باب الطباق السبعة، واسترجع تاريخاً لزجاً من الكرامة والمهانة، من هذا الباب المُغلق منذ يناير سنه 1492م، وحتى يومنا هذا، خرج كسيراً تئن في روحه الرياح، وتصغر الدنيا في عينيه، ويذوب شكاً وخجلاً ورعباً، فمن هذا الباب الماثل أمامي خرج! فكيف اقتلع روحه بيديه، وسلم مفاتيح غرناطة؟ كم يوماً إضافياً سيعيش؟.
لم أر روعة الزخارف، ولا ضخامة الباب، ولا فخامة الذاكرة التي تجلل المكان، فقط رأيته وقد ارتجفت الدنيا تحت قدميه، وكدت أن أسقط على أرض قصر الحمراء سنه 2006، وأنا أتخيل "أبا عبد الله الصغير" يلقى نظرته الأخيرة على القصر من خلال هذا الباب، وفي أذنيه تطن كلمات أمه اللائمة الغاضبة الشامتة الحزينة الجريئة لولدها الخائب:
ابك مثل النساء ملكاً ضاع لم تحافظ عليه مثل الرجال.
ما أمر طعم الهزيمة! كان أبو عبد الله الصغير قبل لحظات، كان ملكاً، ليصير منذ اللحظة لاجئاً، كان صاحب الأمر والنهي على هذه البلاد، ليصير لاجئاً لا يمتلك أمر نفسه، ولا قيمه لأيامه التي ستعصف في عينيه رمل الدقائق والساعات. فلماذا سلمت الوطن يا أبا عبد الله؟ ألم تكن تعرف يوم أن وافقت على الخروج من سجن الفرنجة بشروط السجان، أن النتيجة ستكون الانصياع لمطالبهم، وتسليم البلاد، هل تخيلت أن التحالف مع الفرنجة سيفضي إلى التخلي عن قصر الحمراء الذي من أجل السيطرة عليه وافقت على التحالف مع الفرنجة؟
لقد سجلت كتب التاريخ أن أبا عبد الله الصغير قد اتفق مع الفرنجة أثناء وجوده في السجن أن يشن عليهم حرباً ينتصر فيها، وأن يدخلوا معه في معركة يخسرون فيها أمامه عن عمد، ويقتل بعض جنودهم أمام أعين الناس كي يصير أبو عبد الله في عين الأندلسيين بطلاً، ومحرراً للبلاد؟ هذا حصل قبل أكثر من خمسمائة سنه. لقد اهتدى الفرنجة إلى أهمية صناعة القائد، وبدلاً من محاربة جند العرب المعبأين عقيدة، يصير إلى استسلامهم بلا قتال، ذكاء قيادة أسبانية حقنت دم جنودها، فرفعت رموزاً عربية درجات، ولمعت بعض الأسماء، بالانتصار الوهمي، والصمود الكاذب، وادعت عداءهم، وحاربتهم في الظاهر كي يصيروا أبطالاً، ثم يحكمون، ويسيطرون، وتنصاع لهم الرجال.
ما لم يكن يعلمه أبو عبد الله الصغير، أن الذي يسلم ذقنه لعدوه يقصرها له على هواه، ومثلما نصروه على خصومه السياسيين، ورفعوه حتى صار ملكاً، ومثلما أعطوه المال، والسلاح، فإنهم سيأخذون منه غرناطة بلا قتال، وإنما بالحصار الخارجي، ليقوم هو بإحباط المقاومة من الداخل. وكان للأسبان ذلك، ولكن مقابل تعهدهم بأن يبقى باب الطباق السبعة الذي خرج منه مغلقاً، ولا يدخل أو يخرج منه أحد بعده، وكان له ذلك حتى يومنا هذا.
الأيام الإضافية التي عاشها "أبو عبد الله الصغير" لاجئاً مشرداً حزيناً نادماً في صباحه، تائهاً في مسائه، هي التي جعلت الرئيس العراقي صدام حسين يرتقي إلى حبل المشنقة واثقاً مبتسماً، فالرجل لم يرغب في أي حياة، وقد كان من السهل عليه أن يشتري أياماً إضافية، ولكنها ستكون أياماً ذليلة، لذا اختار معانقة الموت مبتسماً بشكل حيّر أحد الأمريكيين الذين شهدوا لحظة الإعدام، فكتب لزوجته يقول: ما السر في ابتسامة صدام حسين وهو على منصة الموت؟ لقد نطق شعار المسلمين "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله" ثم ابتسم! أؤكد لك يا زوجتي، أنه ابتسم! وكأنه كان ينظر إلى شيء قد ظهر فجأة أمام عينيه، ليكرر شعار المسلمين بقوة وصلابة، وكأنه أخذ شحنة معنوية!.
تلك الشحنات المعنوية التي عاود بثها صدام حسين بالشهادة هي التي يخاف منها الأعداء، وقد تشبعت فيها روح "موسى بن أبي غسان" الذي شعر بخيانة "أبي عبد الله الصغير"، ورفض أن يشارك في تسليم الأندلس بلا قتال، فاخترق بفرسه جيوش الفرنجة التي تحاصر "غرناطة" واندفع بسيفه مع مجموعه من الرجال يقاتل حتى الشهادة.