بقلم : نقولا ناصر* ... 02.10.2010
إن الاقتطاع من رواتب موظفي سلطة الحكم الذاتي في رام الله للمساهمة في تسديد فاتورة الكهرباء في قطاع غزة، وتخيير حوالي ستة آلاف من موظفي هذه الحكومة بين العودة إلى القطاع وبين قطع رواتبهم، وتفعيل هذه الحكومة للمادة (20) من قانون ضريبة الأبنية والأراضي داخل مناطق البلديات لإعادة التخمين الشامل كل خمس سنوات، وتنشيط عمل "الضابطة الجمركية" على محاور الحركة التجارية بالضفة الغربية هي أحدث أربعة عناوين لتحسين الجباية التي جعلت رئيس حكومة تسيير الأعمال د. سلام فياض جديرا بإشادة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بغض النظر عن السياق السياسي لهذه السياسات المالية التي تجري في إطار إعفاء دولة الاحتلال الإسرائيلي من التزاماتها بموجب القانون الدولي كقوة قائمة بالاحتلال وعن إرهاق المواطن الفلسطيني تحت الاحتلال بالمزيد من الأعباء الاقتصادية، دون أن يجد هذا المواطن "يسارا" أو "يمينا" وطنيا يعبر في الأقل عن احتجاجه على هذه السياسات التي يوصي بها البنك وصندوق النقد الدوليين والتي جأرت شعوب الأرض بالشكوى المرة من جورها الذي يضاعف الاحتلال من آثاره على الطبقات المستضعفة في الحالة الفلسطينية.
وقد التقط فياض إشادة البنك الدولي بحكومته أواسط الشهر الماضي بسبب "أدائها الحالي" لأنها إذا استمرت فيه "ستكون في موقف يمكنها من إقامة دولة في أي مرحلة في المستقبل القريب" كما جاء في تقرير للبنك، فاعتبرها وحكومته وقيادتهما شهادة تقدير لهم و"شهادة حسن سلوك وطنية" تسوغ لهم مواصلة تحدي الاجماع الوطني على رفض استمرارهم في الإذعان للشروط الإسرائيلية – الأميركية لمواصلة المفاوضات مع دولة الاحتلال، بالرغم من أن تقرير البنك الدولي نفسه المشار إليه قد أكد بأن أدائهم المالي ومعدل النمو الاقتصادي المقدر ب (8%) للسنة المالية الجارية يعود إلى المعونات المالية الخارجية وأموال المانحين المشروطة سياسيا باستمرار المفاوضات واستمرار الاذعان لشروط دولة الاحتلال التي تبناها المانحون باعتبارها شروطا للجنة الرباعية الدولية، الممولة والراعية للمفاوضات بقيادة أميركية.
لكن فياض وحكومته وقيادتهما قد تجاهلوا حقائق هامة أخرى وردت في التقرير نفسه عدا تلك الإشارة العابرة التي التقطوها بصورة انتقائية، مثل قول التقرير إن أي نمو اقتصادي مستديم في الضفة الغربية وقطاع غزة "ما يزال غائبا" وأن استمرار الاحتلال واستمرار اعتماد سلطة الحكم الذاتي على أموال المانحين لن يجعل مؤسساتها ركيزة لأي دولة يأملون في إقامتها. واقتبس التقرير من أرقام الجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني برام الله ليقدر معدلا للنمو الاقتصادي في القطاع يفوق مثيله بالضفة مما يثير الدهشة والاستهجان، إذ كيف يمكن أن يكون معدل النمو في القطاع المحاصر أعلى منه في الضفة التي تتدفق عليها أموال المانحين، وإذا صحت هذه التقديرات فهي إما أن تكون شهادة دولية بكفاءة الإدارة الحكومية في غزة التي لا يرأسها خبير في البنك الدولي كفياض في رام الله وهي إذا لم تكن صحيحة فإنها تشكك في صدقية التقرير ومن أصدره وتشكك بالتالي في "شهادة التقدير" التي تحاول حكومة فياض انتزاعها منه بحيث لا تعود قيمتها تساوي قيمة الورق التي كتبت عليه.
غير أن الحقيقة الأهم التي تغيبها أمثال هذه التقارير والحكومة التي تتخذ منها شهادات تقدير ومسوغات لها لمواصلة سياسات مرفوضة وطنيا هي أن دولة الاحتلال الإسرائيلي خلال ما يزيد على عقدين من الزمن مما يسمى "عملية السلام" قد نجحت في التنصل من التزاماتها كقوة محتلة بموجب القانون الدولي ونجحت في نقل الأعباء الإدارية والمالية المترتبة عليها نتيجة لذلك إلى سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني لتمول هذه السلطة تلك الأعباء إما من جيوب دافع الضرائب في الدول المانحة أو بالجباية المرهقة من جيوب المواطنين الفلسطينين الرازحين تحت الاحتلال.
فبعد أيام من تثبيت وقف إطلاق النار بعد العدوان الإسرائيلي الذي قاد إلى احتلال الضفة والقطاع عام 1967 أصدر مجلس الأمن الدولي في 14 حزيران من تلك السنة قراره رقم (237) داعيا دولة الاحتلال إلى ضمان سلامة ورفاهية وأمن "سكان المنطقة التي جرت فيها عمليات عسكرية" – طبعا على نفقتها، وفي آخر شهر شباط / فبراير من العام التالي أصدر وزير داخلية دولة الاحتلال قرارا أعلن فيه أن المنطقتين لم تعودا "تحت سيطرة العدو" بل أصبحتا "من الناحية العملية مناطق إسرائيلية". وحتى اليوم لم يتغير الوضع جوهريا، إلا في نجاح دولة الاحتلال في نقل التزاماتها بموجب القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن الدولي إلى سلطة حكم ذاتي فلسطيني أنيطت بها بموجب الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين دولة الاحتلال المهمات التي كانت تقوم بها "الإدارة المدنية" التي انشأها الحاكم العسكري للاحتلال.
واليوم، يكرر فياض القول إنه يسعى إلى الاستغناء عن أموال المانحين، بحجة تعزيز الاستقلال الفلسطيني تمهيدا لإقامة دولة، لتمويل "الإدارة المدنية بالوكالة" لأن "نجاح أي حكومة فلسطينية يجب الا يستند الى كمية المساعدات الخارجية التي حصلت عليها، بل وفق كم هذه الحكومة قادرة على التخفيف من الاعتماد على هذه المساعدات"، ويسعى هو وحكومته وقيادته سعيا حثيثا ودؤوبا إلى إعفاء الدول المانحة المسؤولة منذ البداية عن وجود دولة الاحتلال في فلسطين وأمنها ورفاهها من تمويل الإدارة المدنية للشعب الخاضع للاحتلال بعد أن أعفت هذه الدول دولة الاحتلال من هذا الالتزام، ويسعى، كما نقلت رويترز مؤخرا، إلى استغناء ميزانية حكومة سلطة الحكم الذاتي عن المعونات الخارجية بحلول عام 2013، والاكتفاء بتمويل هذه المعونات للتنمية الفلسطينية لتظل هذه التنمية مرتهنة للمانحين وشروطهم، والاستعاضة عنها بتحسين جمع الضرائب والجباية الداخلية وخفض الانفاق، ليدخل فياض التاريخ ربما باعتباره أول من نجح في سابقة تمويل الاحتلال من جيوب الشعب الخاضع للاحتلال.
وهذه سياسة محكوم عليها بالفشل، ومن المؤكد أن الرد الشعبي عليها لن يطول انتظاره لأسباب وطنية واقتصادية على حد سواء، ليس لأن وزير خارجية النرويج يوناس غار شتور، الذي رأست بلاده اجتماع الدول المانحة الأخير في نيويورك، قال إن لحظة استغناء سلطة الحكم الذاتي عن المانحين "لم تحن بعد"، بل لأن مسعى فياض يتناقض مع الاتجاه العام لمساهمة دور المانحين في تعويم سلطة الحكم الذاتي وحكوماتها المتعاقبة، إذ حسب الأرقام المتوفرة، ارتفعت مساهمة هذه المعونات خلال خمسة عشر عاما من (14%) من إجمالي الدخل الوطني عام 1994 إلى (49%) عام 2008، وبخاصة بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات، وعلى الأخص بعد الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية للحكم الذاتي عام 2006، ومع ذلك فإن حصة الفرد من إجمالي الدخل الوطني قد انخفضت خلال الفترة نفسها من ($ 1590) دولار عام 1994 إلى ($ 1459) دولار عام 2008، بالرغم من معدل النمو الاقتصادي المقدر البالغ (8%) في المائة للعام الجاري، وهو تقدير يضع سلطة الحكم الذاتي في وضع التنافس مع الصين التي تسجل أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم منذ سنوات عديدة، بكل ما تعنيه أي مقارنة كهذه من تضليل إعلامي.
إن استمرار حكومة فياض في إرهاق كاهل المواطن الفلسطيني تحت الاحتلال بالضرائب المباشرة وغير المباشرة على الأملاك المنقولة وغير المنقولة وضرائب المعارف والشقق والتحسين والترميم ورسوم سلطة الأراضي والمعاملات وطوابع الايرادات وزيادة رسوم ترخيص المركبات، إلخ.، التي بلغت حصتها من صافي الإيرادات (الايرادات ناقص تكاليف الجباية) حوالي (50%)، والتي لا تشمل مرافق مثل الكهرباء والماء والاتصالات السلكية واللاسلكية كما هو الحال في بريطانيا وهونغ كونغ وسنغافورة، ناهيك عن استثمارات السلطة الخارجية والداخلية، عدا عن الشكوك المحيطة بالتحصيل من الاحتكارت التي يملكها كثير من أركان السلطة بسبب النفوذ الذي يتمتعون به، وفي إطار الغياب الكامل لرقابة المؤسسات أو أي رقابة أخرى باستثناء رقابة المانحين المشبوهة سياسيا، هي جباية تثير أسئلة جادة حول أهدافها السياسية، غير الأهداف التي تعلنها حكومة فياض لها، وهي جباية ظالمة وطنيا واقتصاديا لا بد أن يكون لها ثمن سياسي، طال الزمن أم قصر!!