بقلم : نقولا ناصر* ... 27.12.2010
*(الدافع الرئيسي لعقد القمة العربية المقبلة في بغداد هو أمل كالوهم في ضم العراق إلى جبهة إقليمية تقودها واشنطن ضد إيران بينما يقود الحكومة التي سوف تستضيف القمة في العاصمة العراقية حزب الدعوة الذي يدين بالولاء المطلق لإيران)
هلل سفير الولايات المتحدة الأميركية السابق في بغداد، كريستوفر هيل، لتأليف حكومة نوري المالكي الجديدة بقوله للنيويورك تايمز إن "هذا يوم سعيد للسياسة الأميركية في العراق. فالعراقيون ليسوا مغرمين بتقديم هدايا الكريسماس (عيد الميلاد المسيحي)، لكني أعتقد بأنهم منحونا هدية كريسماس اليوم". وكل الدلائل تشير إلى أن الولايات المتحدة سوف تكون أكثر سعادة عندما يكون انعقاد القمة العربية في العاصمة العراقية في آذار / مارس المقبل هو هديتها عشية "الايستر" (عيد الفصح المسيحي) ، لكنها ستكون هذه المرة هدية عربية لا عراقية.
في منتصف الشهر الجاري قال نائب الرئيس الأميركي جو بايدن مخاطبا مجلس الأمن الدولي إن الحكومة التي هلل لها السفير كريستوفر " صنعت في العراق بأيدي العراقيين"، ثم نفى المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، فيليب كراولي، أن تكون واشنطن قد "أملت شروط الحكومة" على الكتل السياسية في العملية السياسية التي هندست دستورها وقوانينها ومؤسساتها بعد احتلالها للعراق عام 2003، لكنه نفي "المريب الذي يكاد يقول خذوني".
فحكومة "الشراكة" بين كل هذه الكتل مجتمعة التي لم تترك مجالا حتى للتظاهر بوجود معارضة لها من داخلها هي حكومة شراكة الوكيل المحلي مع السيد الأجنبي وهي حكومة أميركية في كل شيء إلا أسمائها ولغتها، فالاتصالات الهاتفية الأميركية الشخصية مع قادتها وزيارات الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون ونائبه بايدن - - الذي تبجح مازحا بأنه يستحق الجنسية العراقية بعد أكثر من اثنتي عشرة زيارة لبغداد خلال سنتين منها ست زيارات منذ كانون الثاني / يناير عام 2009 - - خلال الشهور التسعة التي انقضت منذ انتخابات آذار / مارس الماضي التي أفرزت هذه الكتل لم تترك مجالا للشك في السبب الرئيسي الذي جعل الكتل الفائزة في تلك الانتخابات "تتنازل" عن "استحقاقاتها الدستورية" في رئاسة الحكومة وتعلق على مضض عصبياتها الطائفية وفتنتها التي فجرها التدمير الأميركي لمدينة الفلوجة والنزوح الطائفي والتطهير الطائفي اللذين اعقباها لتؤلف أكبر حكومة ناقصة في العالم يأتلف فيها رجالات أميركا ويستأثرون بالوزارات الرئيسية التي تضمن أمن قوات الاحتلال من ناحية والمصالح النفطية الأميركية من ناحية أخرى.
إن تخصيص بند واحد (التاسع) في البرنامج السياسي الذي أعلنه رئيس هذه الحكومة نوري المالكي لها ل"تعزيز النجاحات ... في توقيع اتفاق سحب القوات الأجنبية وفق الجدول الزمني المعلن واستعادة السيادة الوطنية" دون أي ذكر للاحتلال هو سبب كافي لوحده لكي تعتبر الإدارة الأميركية تأليف هذه الحكومة هدية عيد ميلاد عراقية لها، وهي بهذه الصفة لا يمكن أن تكون حكومة غير أميركية.
في الحادي والعشرين من هذا الشهر، نشر بايدن، المكلف بالملف العراقي من إدارة أوباما، مقالا في النيويورك تايمز كتب يقول فيه إن "المصلحة الأساسية لأميركا الآن هي المساعدة في الحفاظ على المكاسب التي تحققت في العراق .. وتشجيع العراق على التحول إلى حليف محوري لأميركا في منطقة حاسمة استراتيجيا"، وهذا هو الاطار الاستراتيجي الذي ستعمل فيه أي حكومة في المنطقة الخضراء ببغداد إذا أرادت أن يكتب لها البقاء.
وبما ان الاتفاقية الأمنية (صوفا) التي أشار المالكي إليها في البرنامج السياسي لحكومته هي الأساس "القانوني" الوحيد لتنظيم بقاء قوات الاحتلال الأميركي في العراق حتى نهاية العام المقبل، فإن الهدف الرئيسي لإدارة أوباما من هدية عيد الميلاد العراقية الذي لا يمكن النص عليه صراحة في أي برنامج سياسي لحكومة المالكي هو ضمان أن "تطلب" هذه الحكومة بنفسها إبرام اتفاقية بديلة تنظم "شراكة" استراتيجية عسكرية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة تكون أساسا "قانونيا" بديلا ل"صوفا" يضفي شرعية شكلية على بقاء بضعة قواعد عسكرية أميركية كبرى وخمسين الف عسكري اميركي تزعم واشنطن أن مهمتهم قد تحولت من "قتالية" إلى مهمة "استشارية"، اتفاقية بديلة تضمن بدورها تحول العراق إلى "حليف محوري لأميركا" في المنطقة.
وقد تكررت تصريحات مسؤولي الادارة الأميركية التي تصرح أو تلمح إلى نية عدم الالتزام بموعد نهاية العام المقبل لانسحاب قوات الاحتلال، لكن "من الواضح أن المبادرة لا بد أن تأتي من العراقيين، ونحن منفتحون على بحثها" كما قال وزير الدفاع روبرت غيتس في كولالامبور بماليزيا في التاسع من الشهر الماضي، مثلا، أو كما قال بايدن، كمثال آخر، في الحادي والعشرين من شهر تشرين الثاني / نوفمبر نفسه بصراحة أوضح بأن "القوات الأميركية يجب أن تظل في العراق بعد موعد 2011" لأن "قوات الأمن العراقية ليست جاهزة بعد للاعتماد على نفسها اعتمادا كاملا"، بالرغم من أن عديدها يزيد الآن على 650 ألفا، و"لهذا السبب، وحتى في هذه الأوقات الاقتصادية الصعبة، فإننا نطلب من الكونغرس أن يستجيب لطلباتنا الخاصة بالميزانية من أجل دعم استمرار وجودنا في العراق"، ليضيف بأن "هجمات المتطرفين تظل مظهرا غير مقبول من مظاهر الحياة اليومية في العراق".
ورأي بايدن هذا في "قوات الأمن العراقية" وفي الوضع الأمني السائد يتناقض تماما مع تأكيد المالكي على قدرة هذه القوات في "تحمل المسؤولية والحفاظ على الأمن" أثناء استقباله لرئيس الأركان الأميركي الجنرال جورج كيسي نهاية الأسبوع الماضي، والتأكيد المتناقض لكل منهما كرره مسؤولون من كلا الجانبين، وإذا كان التأكيد الأميركي يستهدف تسويغ بقاء قوات الاحتلال في العراق فإن تأكيد المالكي يستهدف إسقاط حجة عربية رئيسية لعدم حضور القمة العربية في بغداد، ومن المؤكد أن حلفاء أميركا وأصدقاءها يجدون في التأكيد الأميركي سببا يطمئنهم للحضور أقوى من تأكيد المالكي، الذي يحرص موظفوه على تأكيد تأكيده بنفي أمرين، الأول نفي عقد القمة في إقليم كردستان العراق، كما اقترح مرارا رئيس حكومة الاقليم برهم صالح، بدل بغداد، والثاني نفي أي استعانة بقوات أميركية أو أجنبية لضمان أمن القمة.
وإذا كان عقد القمة في بغداد أمرا "حتميا" كما قال المستشار الاعلامي للمالكي، علي الموسوي، فإن عدم الاستعانة بالقوات الأميركية الذي يجري ترويجه أساسا من أجل تجنيب القادة العرب أي حرج أمام شعوبهم هو أمر مشكوك فيه ويتناقض مع الواقع على الأرض، ففي الثامن والعشرين من الشهر الماضي قتلت قوات الاحتلال الأميركي سائقا عراقيا كان يقود مسرعا على طريق مطار بغداد الدولي (صدام سابقا) بينما كانت قافلة عسكرية أميركية متجهة نحو القاعدة الأميركية في "معسكر النصر" قرب المطار الذي سيهبط فيه القادة العرب الذين سيشاركون في القمة.
وإذا لم يكن الاحتلال "غير الشرعي" للعراق، كما وصفه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، عائقا أمام تطبيع علاقات بعض الدول العربية مع العراق وهو تحت الاحتلال، فإن الاحتلال كان حجة بعضها الآخر لعدم التطبيع، وكانت هذه الحجة إضافة إلى الحجة الأمنية سببين رئيسيين لاختيار سرت الليبية بدل بغداد لاستضافة القمة العربية الأخيرة.
لكن بالرغم من استمرار الاحتلال واستمرار انعدام الأمن في العراق "تجمع" الدول العربية اليوم على عقد مؤتمر قمتها المقبل في العاصمة العراقية في آذار / مارس المقبل، ولا يوجد أي تفسير لهذا الاجماع سوى كونه استجابة "للحث" الأميركي.
وكل الدلائل تشير إلى ان الطمع الأميركي في الكرم العربي سوف ينجح في انتزاع "هدية عيد الفصح" المسيحي العربية بعد أن حصلت واشنطن على "هدية الكريسماس" العراقية.
ففي كل البيانات والتصريحات الأميركية الرسمية الأخيرة تكرر "حث جيران العراق وبقية المجتمع الدولي" على تطبيع العلاقات مع "هدية عيد الميلاد العراقية" للولايات المتحدة وتعزيزها للمساعدة في تحويل العراق إلى "حليف محوري لأميركا" في المنطقة والعالم، و"تقوية الشراكة (الأميركية) طويلة الأمد مع شعب العراق وقادته" حسب بيان للبيت الأبيض يوم الثلاثاء الماضي، من أجل "بناء علاقة قوية تدوم طويلا بين البلدين" كما قال تصريج للناطق باسم الخارجية الأميركية في اليوم نفسه. وقد نجحت الإدارة الأميركية في إقحام نص مماثل في قرارات مجلس الأمن الدولي الثلاث الصادرة في منتصف الشهر الجاري وفي البيان الرئاسي للمجلس بشأن العراق الذي رحب "بإعادة دمج العراق في المنطقة" وشجع "العراق وكل الدول الاقليمية على تعميق وتوسيع علاقاتها".
ويبدو أن استجابة "جيران العراق" العرب للحث الأميركي على انعقاد القمة في بغداد أقوى من استجابتهم لحث المقاومة العراقية وشخصيات وطنية عراقية مثل رئيس هيئة علماء المسلمين في العراق الشيخ حارث الضاري، أو حتى سياسي عراقي كردي مخضرم مشارك في "العملية السياسية" الأميركية مثل محمود عثمان الذي نصح في مقابلة مع الحياة اللندنية يوم الاثنين الماضي بأن "من الأجدى التريث في عقد القمة العربية .. لأسباب كثيرة" منها "عدم استكمال انسحاب القوات الأميركية" و"عدم استكمال إجراءات الخروج من طائلة الفصل السابع" لميثاق الأمم المتحدة موضحا: "بمعنى أن العراق في حاجة إلى استعادة سيادته الكاملة قبل أن يبادر إلى استضافة القمة". ومما لا شك فيه أن المؤتمر القومي العربي الذي أبرق أمينه العام عبد القادر غوقة إلى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مشيدا بما نقلته تقارير إعلامية عن رفضه انعقاد القمة العربية في بغداد قد اصيب بخيبة أمل بعد أن نفى وزير الدولة الجزائري للشؤون الخارجية مراد مدلسي هذه التقارير.
إن الاستجابة العربية للحث الأميركي تعتبر انعقاد القمة في بغداد "رسالة مهمة إلى العالم بإعادة حيوية العراق واستقراره" كما قال السفير المصري شريف كمال الدين شاهين بعد تسليمه دعوة من الرئيس حسني مبارك لنظيره العراقي جلال طالباني للمشاركة في القمة العربية الاقتصادية الثانية، بعد قمة الكويت، كمناسبة أخرى ل"إعادة دمج العراق" في المنطقة، وفي هذا التفسير المصري للاستجابة العربية مفارقة لغوية تتمثل في كلمة "مهمة"، وهي خطأ شائع يعني "محزنة" ويقصد بها مستخدموها مثل السفير شاهين "هامة".
لكنها مفارقة لغوية تصف وصفا صادقا المفارقة السياسية الأهم المتمثلة في كون الدافع الرئيسي لعقد القمة العربية في بغداد هو أمل كالوهم في ضم العراق إلى جبهة إقليمية تقودها واشنطن ضد إيران بينما يقود الحكومة التي سوف تستضيفهم في العاصمة العراقية حزب الدعوة الذي يدين بالولاء الطائفي والسياسي المطلق لإيران كما أثبت حكمه للعراق بحماية الحراب الأميركية طوال السنوات الست الماضية (2004 – 2010) أولا برئاسة إبراهيم الجعفري ثم برئاسة المالكي الذي ضمن الاحتلال الأميركي استمرار حكمه لمدة خمس سنوات أخرى حتى عام 2015.