بقلم : رشاد أبوشاور ... 22.09.2010
ليست للفلسطينيين دولة ذات حدود، معترف بها في الأمم المتحدة، ويبدو أن هذا الأمر لن يتحقق في المدى المنظور، كدولة حقيقيّة..قابلة للحياة، وليس دولة في غرفة الإنعاش، أشبه ما تكون بالأطفال الخدّج، الذين يولدون في الشهر الثامن، فلا هم سبيعيّة أبناء سبعة أشهر، ولا هم أبناء تسعة أشهر كاملي الأعضاء والتكوين.
هناك من يرهق الأم الفلسطينيّة، يضربها على ظهرها وبطنها، بحجّة مساعدتها، ودعمها، بينما يخفي الرغبة في تطريحها، بحيث يموت حلمها بجنين كامل الخلقة، قابل للنمو والحياة، يكبر طبيعـــــيّا، من الرضــاعة إلى الفطام، إلى الحبو، إلى أوّل المشي على ساقين مرتعشين..إلى الثبات في المشي من الطفولة إلى الفتوّة والشباب..والحياة الغنيّة الآمنة الطبيعيّة.
لسنا دولة، وما أحوجنا لدعم ومساندة كل صاحب ضمير نزيه لنبني دولة من تراب وسيادة وعلم ونشيد.
ولكن هذا لن يتحقق، كما أثبت ذلك مسار التسوية منذ بدأ في مدريد علنا، في احتفالات خطابية، وسرّا في أوسلو، ومن بعد في حديقة البيت الأبيض.
عندما تبادل الكيان الصهيوني ومن يمثّلون منظمة التحرير الفلسطينيّة الاعتراف الذي وقعه اسحق رابين وعرفات، كان اعتراف المنظمة بدولة الكيان الصهيوني.. مقابل الاعتراف بالمنظمة!
ومع مسيرة التسوية، وتفاقم فشلها فلسطينيّا، حيث لم تحقق للفلسطينيين سوى الخسائر، وضياع الأرض، والقدس، وألوف الأسرى، والمياه، وجفاف الحياة اقتصاديا...تراجع وهم انتزاع دولة بالمفاوضات، وتكشّف كذب الراعي الأمريكي.
من الجانب الآخر، ازدادت شهيّة الكيان الصهيوني شراهةً، فحثّ الخطى في تهويد القدس، وتشريد أهلها، وتغيير ملامحها، حتى بلغ به الأمر أن يكتسح بجرّافاته المقابر، وأضرحة الصحابة، ومن حرروا القدس منذ أيام الغزوات الصليبيّة الأولى، حتى شهداء فلسطين زمن الانتداب، وفي الحرب مع العصابات الصهيونيّة.
هنا نتوقف لنسأل: من لا يحمون كرامة الأحياء، هل يمكن أن يحموا كرامة موتاهم؟!
لعلّ السؤال الذي يلّح على عقول العرب والفلسطينيين: لماذا يلّح نتنياهو على الفلسطينيين للاعتراف بالكيان الصهيوني (دولة) يهوديّة؟!
هل الكيان الصهيوني قلق على شرعيته ما دام الفلسطينيون لا يعترفون بيهودية دولته؟!
هذا الكيان اعترف به الاتحاد السوفييتي، وأمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وتقيم معه دول عربيّة معاهدات سلام معلنة، وعلاقات غير معلنة مفضوحة، ومع ذلك يضع بند الاعتراف به دولة لليهود في أولويات مطالبه، وفي مواجهة مطالبة المفاوض الفلسطيني بإيقاف، أو حتى تمديد، فترة توقف الاستيطان مؤقتا، لثلاثة أشهر أُخرى، كما تقترح السيدة كلينتون وزيرة الخارجية لأمريكيّة التي يبدو أنها منهمكة في إحاطة المفاوضات بسطوتها على الطرف الفلسطيني ليعتدل أكثر ـ أي لينحني أكثر ـ بحيث يكّف عن المطالبة بوقف الاستيطان، رغم أن الاستيطان لم يبق أرضا لدولة فلسطينيّة قابلة للحياة، حتى ولو في غرفة الإنعاش، اللهم سوى دوام عيش السلطة التي باتت بديلاً لدولة باتت سرابا يتضح يوميا أنه ليس ماءً، وأن الموت الزؤام هو نهاية الركض وراءه!
مطلب نتنياهو من المفاوض الفلسطيني، رغم معرفته بأنه لا يمثّل الشعب الفلسطيني، يدلل على أنه يرى الفـــرصة سانحة تمـــــاما، ولم تتح من قبل، لتثبيت استسلام (فلسطيني) نهائي مع قيادة ضعيفة معزولة!
الاعتراف الفلسطيني بدولة يهودية يعني ما يلي:
أولاً: أن قيام دولة الصهاينة شرعي، وأنه حق تاريخي وديني في فلسطين. وأن الحركة الصهيونيّة حركة تحرر وطني، وحربها عام 48 عادلة ضد العرب الفلسطينيين، وأن طرد العرب الفلسطينيين شرعي ومبرر، وأنه دفاع عن النفس، وليس تطهيرا عرقيّا!
ثانيا: أن حق العودة لم يعد واردا، فالدولة هي دولة اليهود، وهكذا سيتم شطب القرار الدولي 194بمباركة فلسطينيّة.
ثالثا: وجود الفلسطينيين في فلسطين، تقرره دولة اليهود التي ستتضاعف الهجرة لها بعد هذا الاعتراف المُطمئن، و..لذا فالتضييق على الفلسطينيين والشروع في التخلّص منهم على دفعات لن يكون محرجا، كونهم سينتقلون إلى (دولة) فلسطينيّة وهمية ستكون بمثابة أمكنة استيعاب، ومحطة ترانسفير، كونها لا حياة لها، و..كونها تقوم على أرض هي (يهوديّة)، متنازل عنها مؤقتا، فدولة اليهود تقوم على أرض اليهود، بينما دولة الفلسطينيين تقام على أرض تمنح لهم كرما، وتنازلاً عن حقوق تاريخيّة ودينيّة يهودية.
رابعا: هذا الاعتراف الفلسطيني سيريح كثيرا من الحكّام العرب، ويسهّل عليهم إقامة علاقات طبيعيّة مع دولة اليهود، فالعداء انتهى، وحالة الحرب انتهت، ودولة اليهود دولة جارة وصديقة، والعداء سينتقل إلى حيث تلتقي المصالح مع مصلحة أمريكا واليهود!
خامسا: هذا الاعتراف سيبرئ بلفور صاحب الوعد، وبريطانيا المجرمة التي يجب أن تلاحقها التهمة الثابتة بتضييع فلسطين، وتشريد شعبها، وتهيئة الفرصة لنشوء هذا الكيان الإجرامي العنصري الاستعماري مع وظيفته التخريبيّة في الوطن العربي.
سادسا: هذا الاعتراف، في حال حصوله، يعني أن المقاومة ستدان وتلاحق كعمل إرهابي يستهدف دولة معترف بها، ذات شرعية، وهنا ستلتقي مصلحة دول عربيّة مع دولة اليهود الصديقة المسالمة..في مطاردة (الإرهاب)!.
بهذا الاعتراف يريد نتنياهو أن ينهي القضيّة الفلسطينيّة تماما، ويحجز الفلسطينيين في معازل ـ دولة وهمية ـ ستضيق عليهم، وتضطرّهم للهجرة، ويدمر فلسطينيي الـ48، الذين رغم العزل والعزلة تحولوا إلى شوكة في حلق كيان الاغتصاب، ويعيشونه في قلق دائم بثباتهم، وتطوّر فعلهم السياسي، ونموهم السكاني على أرض آبائهم وأجدادهم.
قد يسأل سائل: ولكن المفاوض الفلسطيني يرفض حتى الآن الاعتراف بيهودية الدولة!
يرفض حتى الآن..ولكن: من يضمن؟!
يقول المثل: المقروص يخاف من جرّة الحبل!..ومن جماعة خيار التفاوض انقرصنا كثيرا!
أمريكا تضغط وتغري، والموقف الأمريكي في افتتاح شرم الشيخ بلسان ميتشل أشار بوضوح إلى يهودية الدولة، وهو ما تكرر على لسان الوزيرة كلينتون.
المعارضة الفلسطينيّة حتى الآن (بعبعة) وشجب وإدانة وتحذير وانتظار، ورهانات على الفشل، وبعض الرهانات تتمنّى أن يأتي اليوم الذي لا يبقى فيه بديل سواها للتفاوض معه، وليس بديلاً مقاوما، والمقاومة لا تؤجّل، ولا تتوقّف مهما كانت المعوقات، ولأنه لا يمكن لربع مقاومة أن تحقق انتصارا!
نحن الفلسطينيين لا يجب أن نركن إلى حتمية فشل هذه المفاوضات، و..عدم اعتراف المفاوض الفلسطيني بيهودية الدولة، فنتنياهو، والطرف الأمريكي المنحاز دائما، وفي كل إدارة منذ ترومان حتى أوباما، لن تخذل الحليف الصهيوني لمصلحة المفاوض الفلسطيني المهزوز الموقف، والخائف من تركه في العراء بعد أن اعتاد على إسعافه ليبقى على قيد التفاوض!
رّد الفعل الفلسطيني حتى الآن ضعيف، ليس لأن الشعب الفلسطيني مستكين، ولكن لأنه بلا قيادة صادقة، تضع أمامه برنامج عمل، على الأرض، يجمع الداخل والشتات، لينتقل من بعد إلى فضاء الأمة العربيّة بملايينها التي ما عادت تحترم قيادات تتصارع على الوهم، بينما فلسطين تضيع!
في هذا الصراع لا خيار سوى عروبة فلسطين، قلب الوطن العربي، وجسره الواصل بين جناحيه، وامتحان روح الأمّة، وقدرتها على نفض الخنوع، والمقاومة والنهوض لتجاوز كل أسباب الهزيمة والتخاذل.
فلسطين لا تحتمل ولا تقبل أن تكون ربع عربيّة، بحسب المساحة المقترحة. فلسطين واحدة، ومن يُقدم على الاعتراف بدولة يهودية سيضع نفسه مع العدو في موقع واحد.