بقلم : د.فيصل القاسم ... 26.09.2010
غالباً ما أشعر بكثير من القرف والاشمئزاز عندما أقرأ الوصايا الماركسية القديمة التي تحض القيادات الفكرية والثقافية والإعلامية والاجتماعية للدفاع عن مصالح الشعوب وقضاياها. ومما يزيد في قرفي تلك الرومانسية التي أغدقها كارل ماركس على دور الشعوب في حركة التاريخ. ولعلنا نتذكر كم تغنى الماركسيون بالبروليتاريا المزعومة ورفعوها إلى مصاف عليا. آه كم كان اليساريون وكل من رفع لواء الدفاع عن الشعوب مخبولاً ومخطئاً كي لا نقول كلاماً أقوى! وكم كان الذين تعاملوا مع الشعوب بالحديد والنار على حق. آه كم كان توماس كارلايل محقاً عندما هلل للأبطال والفذين وركل الرعاع إلى القاع!
لا أدري لماذا ما زال البعض يندفع بطريقة صبيانية سخيفة للذود عن حمى الشعوب والدعوة إلى تحصيل حقوقها وتحريرها، فالشعوب، خاصة العربية منها، لا تستحق إلا المعاملة التي تتلقاها، لا بل أسوأ منها بكثير، ليس لأنها شعوب استهوت التخلف فحسب، بل لأنها غير جديرة بأي حال من الأحوال بمن يدافع عنها ويمضي جل حياته في قض مضاجع المسيئين إليها من طغاة ومستبدين لأنها باختصار شعوب تسيء لمن أحسن إليها. وكما يقول المثل: اتق شر من أحسنت إليه!
جلست قبل فترة مع مجموعة من الكتاب والإعلاميين والمثقفين والفنانين، فراح كل واحد منهم يبدي ندمه الشديد على تلك السنين التي أمضاها وهو يناضل من أجل رفعة الشعوب وتحريرها وتحسين مستواها، فإذا بتلك الشعوب تركل كل من دافع يوماً عنها وناصر قضاياها المزعومة. لقد لمست شعوراً عارماً بالمرارة لدى الكثيرين الذين سخرّوا أقلامهم وأصواتهم وبرامجهم لمناصرة الشعوب. وكم شعرت بالصدمة عندما سمعت أحدهم وهو يلعن الساعة التي فكر فيها بحمل مشعل تحرير الشعوب ويتندم على الأعوام التي سلخها من عمره وهو يدافع من أجل أناس لا يستحقون إلا اللعن والدعس، على حد قوله.
لقد روى كل واحد من الحاضرين في النقاش قصة بسيطة ليبرر فيها موقفه الذي غدا سلبياً جداً من الشعوب. صحيح أن بعض القصص قد تبدو غير مقنعة لاتخاذ مواقف عدائية من الشعوب، إلا أنها جديرة بالإصغاء إليها والاستفادة منها كي لا يقع بعض الطوباويين والمغفلين مستقبلاً في المطبات نفسها التي وقع بها اليساريون والاشتراكيون القدامى عندما بالغوا في تقديسهم للشعوب والدفاع عنها.
تحدث كاتب صحافي أمضى عشرات السنين من حياته وهو يكتب مقالات ينافح من خلالها عن الشعوب، لا بل تعرض أكثر من مرة لدخول السجون بسبب مواقفه المناهضة للحكومة في بلده. تحدث صاحبنا بحرقة كبيرة عندما تعرض ذات يوم لحملة صحافية نالت منه ومن عائلته بسبب مقال كتبه، فوجد نفسه وحيداً في مواجهة السلطة وأدواتها الرهيبة دون أدنى دعم أو مساندة من أولئك الذين أمضى جل حياته ذوداً عنهم وعن همومهم وقضاياهم. والأنكى من ذلك أن الكثيرين ممن دافع عنهم من تلك الشعوب الغادرة راح يزيد الطين بلة، فبدلاً من أن يخرس على الأقل، راح يشمت بالكاتب ويتهمه بأن لسانه كان طويلاً أكثر من اللازم ومن حق السلطة أن تقطعه. تصوروا موقف الشعوب من كاتب آمن بها ودافع عنها على الدوام. لقد خذلته، لا بل انقلبت عليه شر انقلاب ليصدق فيها قول الشاعر:”أنت إذا أكرمت الكريم ملكته وإذا أكرمت اللئيم تمرد”. ولا شك أن الشعوب في هذه الحالة أقرب إلى اللئام منها إلى الكرام. ومن حق صاحبنا أن يكفر بها ويلعن الساعة التي تبنى فيها قضاياها. فهذا النوع من الشعوب جدير بالدوس والدعس. ولتحيا أحذية الدولة الثقيلة التي تدوس على رؤوس هذا النوع من الشعوب كما يقول صاحبنا.
ثم تحدث فنان معروف بأعماله الدرامية الناقدة التي كان جلها مسخراً للقضايا التي تهم الناس وتدافع عن مصالحهم وتعبر عن همومهم، تحدث عن تجربة يمكن وصفها بالتراجيكوميدية، فقد ذكر أنه دخل ذات يوم إلى محل لشراء قطعة أثاث، فاستقبله صاحب المحل بالكثير من الترحاب، وراح يثني على أعماله التلفزيونية “العظيمة” التي أحبها الناس وتعلقوا بها لأنها خير معبّر عن قضاياهم. لكن الطامة الكبرى أن صاحب المحل باع الفنان “المناضل” قطعة الأثاث بأغلى من سعرها الأصلي بكثير حسبما تبين للفنان لاحقاً، فبدلاً من أن يكرمه بوصفه مدافعاً شرساً عن مصالح الناس غشه واحتال عليه.
وتحدث إعلامي عن عامل جاء ذات يوم إلى بيته ليقص له عشب الحديقة، وراح يمتدح الإعلامي بما لذ وطاب من الألفاظ الجميلة على برامجه الجريئة التي تـعتبر لسان حال الشعوب المغلوبة على أمرها على حد وصف العامل. واعترف العامل للإعلامي بأنه معجب بشجاعته وشهامته ودفاعه الدائم عن حقوق الناس، وكان يحلم دائماً بأن يصافحه في يوم من الأيام. لا بل إن العامل قال إنه شرف كبير له أن يقدم خدمة لإعلامي أسدى مئات الخدمات للأمة بأكملها. وبعد أن أنهى العامل مهمته في قص العشب، أعطاه ابن الإعلامي أجره المتفق عليه مسبقاً، فإذا بالعامل يبدي الكثير من الامتعاض بحجة أن المبلغ قليل، وكان يجب على الإعلامي أن يدفع له ضعفيه على الأقل. ثم خرج العامل ممتعضاً، وكأنه يقول للإعلامي سحقاً لك.
وتحدث آخر عن تجربته مع سكان القرية التي استأجر فيها بيتاً ذات يوم، فوجد الناس هناك يكيلون له المديح على خدماته الإعلامية للقضايا الوطنية والاجتماعية. لكن ما أن راح الإعلامي يعمل على إقناع البلدية بوضع مطبات على طرقات القرية لضبط السير ومنع السائقين المتهورين من قيادة سياراتهم بسرعة جنونية حتى راح أهل القرية المنافقون يطالونه بأقذع العبارات والانتقادات لاحسن إطرائهم السابق له. لا بل أصبح اسم الإعلامي في تلك القرية العربية النموذجية في نفاقها وحقارتها مثاراً للسخط والشتائم. ناهيك أن البعض راح يطالب بالسر بإبعاد ذلك الإعلامي عن القرية كما لو كان وجوده بينهم رجساً من عمل الشيطان فاطردوه.
وبعد هذه الأمثلة المؤلمة، أليس من الخطأ الفادح أن يضيع أحد دقيقة من وقته في الدفاع عن هذه الشعوب البائسة والغارقة في النفاق؟ أليس من الأفضل للكتاب والفنانين والإعلاميين أن يبحثوا عن مصالحهم الخاصة بدل تضييع وقتهم في الذود عن شعوب لا تتقن إلا الغدر والخيانة والخسة ونكران الجميل وتوجيه طعنات نجلاء لكل من ساندها وعبر عن همومها؟
آه كم كان ماكيافيللي مصيباً في تصويره للشعوب في كتابه الرائع “الأمير”!