بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 27.09.2010
فوجئ مذيع إحدى المحطات التلفازية عندما قلت له في إحدى المقابلات إن السلطة الفلسطينية تؤيد الاستيطان، وإن ما أسمعه في الإعلام لا يعنيني بقدر ما أراه على الأرض، وكان واضحا أن ترتيب أسئلته قد أصيب بإرباك، واضطر أن يبحث معي في هذا الرأي. لم يكن من المتوقع أن يستسلم المذيع لرأيي لأن وسائل الإعلام تضج بالأخبار عن المفاوضات، وعن الاستيطان كنشاط صهيوني يعرقل الاستمرار في التفاوض، وربما رأى في هذا الرأي اتهاما غير موزون، أو دربا من دروب تشويه صورة السلطة الفلسطينية.
ما زلت عند هذا الرأي، وفيما يلي حججي:
أولا: تشويه الحقائق في الساحة العربية
ليس من الذكاء أن يأخذ المرء الأخبار عن الساحة الفلسطينية بجد ويعتبرها صحيحة لأن الكثير منها ليس دقيقا ويهتم فقط بإيراد الخبر دون الرجوع إلى الخلفيات أو الجدل المنطقي الذي يحكمه. وأغلب الناس يتأثرون بالخبر حتى لو لم يكن ناجما عن حدث ويقعون في مطبات الخبر اليومي الذي لا يستند إلى تحليل أو جدل علمي. وهنا أقدم أمثلة:
ألقى زعيم عربي ذات مرة خطابا في مؤتمر القمة العربي دعا فيه إلى تجاوز الخلافات العربية والمصالحة لكي يدخل العرب في عهد جديد. تحدثت وسائل الإعلام عن الخطاب لأكثر من شهر، وأوسعت وسائل إعلام أخرى في تحليل الخطاب والإشادة به وبحكمة القائد العظيم، لكنها جميعها لم تتحدث عن أن هذا القائد لا يملك إرادة سياسية حرة، وليس بمقدوره أن يقوم بالمصالحات الفعلية بدون موافقة أمريكا. ولا غرابة بعد ذلك أن المصالحات لم تتم، واستمرت المشادات والتنافر بين الأنظمة العربية. ومثال آخر يتعلق بمفاوضات كامب ديفيد عام 2000، والتي تحدث عنها الإعلام بإسهاب، وتحدث عنها الفلسطينيون المؤيدون للسلطة بإستفاضة على اعتبار أنها مثل لصمود القيادة الفلسطينية وتمسكها بالثوابت الفلسطينية. لم تقدم أي وسيلة إعلام وثيقة واحدة حول تلك المفاوضات، ولا حول ما تم طرحه على عرفات، أو ما تم رفضه من قبله. كلها كانت أحاديث إعلامية غير مستندة إلى معلومات موثقة، وتبين فيما بعد أنه لم تجر مفاوضات على مدى حوالي أسبوعين، وأن الأطراف لم تجلس معا لأكثر من ساعة من الزمن في جلسة غير تفاوضية. ومثال ثالث يتعلق بذلك القائد الفلسطيني الذي كان خارجا من خمارة في بيروت وصرح أن منظمة التحرير الفلسطينية ستقوم بتدمير المصالح الأمريكية في الخليج. اشتعل الإعلام في حينه بردود الفعل في حين أن القائد كان مخمورا، ولم تكن أصلا لديه القدرة على التدمير.
المعنى أن الساحة العربية ليست ساحة ديمقراطية، والبحث العلمي لا يتمتع بحرية في الوصول إلى المعلومات، والعربي يتعرض لكثير من التضليل والكذب من قادته ومن وسائل الإعلام، وعلى المرء أن يطور قدرات كبيرة من أجل تحصين نفسه من غسيل الدماغ والتشويهات التي يتعرض لها. لا الإعلام الفلسطيني ولا القيادات الفلسطينية مستثناة من هذه الظاهرة وأكبر دليل على ذلك أن مختلف الشعارات التي تم رفعها من قبل القيادات عبر حقب متعددة من تاريخ القضية الفلسطينية قد تهاوت، وأن كل الزمجرة والتظاهر بالرجولة التي رافقتها لم تكن سوى فقاعات تلاشت.
ثانيا: التفاوض في ظل الاستيطان
السلطة الفلسطينية تفاوض منذ عام 1994 في حين أن الاستيطان لم يتوقف. لقد ارتفعت أصوات فلسطينية وعربية وإسلامية، ومن الغرب أيضا تقول إن الاستيطان يأكل الأرض ولا يترك مجالا لإقامة دولة فلسطينية، وإن التفاوض يفقد معناه ومضمونه، لكن السلطة الفلسطينية لم تتوقف عن التفاوض، واكتفت بتصريحات مفادها أن الاستيطان يؤثر سلبا على المفاوضات. والذي يستمر بالتفاوض تحت حراب الاستيطان لا يستطيع تبرئة نفسه من تهمة تأييد الاستيطان.
لم تختلف السلطة الفلسطينية في موقفها عبر سنوات طويلة عن الموقف الأمريكي الذي طالما ردد بأن الاستيطان يشكل عقبة في طريق السلام، ولم يتطور إلى إجراء عملي يرغم إسرائيل على وقف الاستيطان. الاستيطان استمر في ظل مختلف الحكومات الصهيونية، واستمرت المفاوضات.
ثالثا: أوباما ورط الجانب الفلسطيني
لم تعلن السلطة الفلسطينية أنها لن تفاوض إلا إذا تم تجميد الاستيطان تماما إلا بعدما أعلن الرئيس الأمريكي أوباما معارضته للاستيطان في خطابه الشهير بجامعة القاهرة. وكأن السلطة أرادت أن تلحق بركب أوباما الذي ظنت أنه سيكون قادرا على وقف الاستيطان. أي أن المسألة كانت عبارة عن انتهاز فرصة حتى لا تبدو السلطة في موقف دون الموقف الأمريكي من الاستيطان. وقد كان رأيي منذ البدء أن أوباما لن يصمد عند أقواله، وأن السلطة الفلسطينية ستعود إلى المفاوضات دون أن يتوقف الاستيطان.
رابعا: استمرار الاستيطان المجمد
الاستيطان الصهيوني في القدس ومجمل الضفة الغربية لم يتوقف إطلاقا بعد إعلان رئيس وزراء إسرائيل عن تجميد الاستيطان. استمر بناء الوحدات السكنية الجديدة في مختلف مناطق الضفة الغربية، وكان النشاط الاستيطاني ظاهرا للناس عموما بخاصة أمام الذين يمرون بالقرب من المستوطنات الصهيونية. وبالرغم من ذلك، عادت السلطة إلى المفاوضات غير المباشرة، ومن ثم إلى المفاوضات المباشرة.
خامسا: التنسيق الأمني
يبدو أن مسألة ربط المفاوضات بتجميد الاستيطان عبارة عن دجل سياسي وتضليل لأن التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل لم يتوقف. أهم نقطة في كل الاتفاقيات مع إسرائيل، وفي التطبيقات العلمية على الأرض هي التنسيق الأمني، والتي يلتزم بموجبها الجانب الفلسطيني بملاحقة الإرهاب والإرهابيين، ويلتزم بمتطلبات الأمن الإسرائيلي. التنسيق الأمني هو المقياس الحقيقي لمدى التزام السلطة بالمطالب الإسرائيلي، وهو الذي يرتبط بها وجودها، وتدفق الأموال إليها. وهذا هو مربط الفرس بالنسبة لإسرائيل عند توقيعها لأي اتفاق مع أي جهة عربية، وهي ليست مستعدة للتوقيع ما لم يلتزم الجانب العربي بالوقوف حارسا على بواباتها.
إسرائيل لا تهتم بالمفاوضات التي تتعلق بحقوق عربية، وهي تصل غايتها فقط عندما يلتزم الجانب العربي بأمنها وبملاحقة المواطنين العرب الذي يريدون المقاومة أو تسول لهم أنفسهم بها. ولهذا لا ترى إسرائيل في المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة مع الجانب الفلسطيني إلا وسيلة لاستهلاك الوقت وإيهام الفلسطينيين بأنه يمكن أن تقدم لهم شيئا في يوم ما.
وعليه فإن جدية الجانب الفلسطيني تجاه الاستيطان لا تتجلى إلا إذا أوقف التنسيق الأمني، ولا جدية هناك أو فائدة من وقف المفاوضات مع استمرار التنسيق الأمني. وقف المفاوضات مع استمرار التنسيق الأمني عبارة عن تضليل للشعب الفلسطيني، وإيهام لكل العرب والمسلمين بأن السلطة الفلسطينية ضد الاستيطان. لا قيمة لوقف المفاوضات ما دامت الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعتقل الفلسطينيين بسبب علاقتهم بالمقاومة، أو بسبب نواياهم، وكل الحديث ضد الاستيطان في مثل هذا الوضع لا يمكن أن يكون مقنعا، بخاصة عندما يشاهد المرء بأن الأجهزة الأمنية الفلسطينية تعمل ضد ما من شأنه أن يقض نوم المستوطنين.
سادسا: الأمن مقابل الخبز
منذ عام 1994 والسلطة الفلسطينية تدور في حلقة واحدة وهي مفاوضات جوهرية حول أمن إسرائيل مقابل مفاوضات حول حقوق معيشية للشعب الفلسطيني. صحيح أنه تم التطرق أحيانا للحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني لكن ذلك كان هامشيا، وبقي جوهر المفاوضات يدور حول رواتب الموظفين، أو رفع حواجز أو إفراج عن معتقلين، أو فتح المجال أمام العمال الفلسطينيين للعمل في إسرائيل.
حتى الحقوق الوطنية الثابتة والمتمثلة فقط بثابتين وهما حق العودة وحق تقرير المصير لم تحظ بجدية من قبل السلطة الفلسطينية التي ركزت في الأساس على إقامة دولة. ومن المعروف أن إقامة دولة ليست من الحقوق الثابتة على اعتبار أنها خيار فلسطيني خاص يتمخض عن حق تقرير المصير.
لم تسع السلطة الفلسطينية منذ عام 1994 إلى تحرير الشعب الفلسطيني من استعباد الدول المانحة المالي للشعب الفلسطيني، وأبقت الشعب بخاصة الموظفين الحكوميين معلقين بذيل الدول المانحة التي تأتمر في النهاية بأوامر أمريكا وإسرائيل. ومن يتعلق بذيل أموال عدوه لا يمكن أن يكون مناهضا لسياسات هذا العدو وعلى رأسها الاستيطان.
خيارات السلطة
تقول السلطة الفلسطينية إنها ضد الاستيطان وهي تملك خيارات للتفاوض، وتشرح بأن خيارها هو الذهاب إلى مجلس الأمن لفك الأزمة. خيار لا شك أنه ساذج إذا كان حسن النية لأن أمريكا تشكل محورا أساسيا في المجلس، وهي تملك حق النقض. أي أن الهروب من أمريكا إلى مجلس الأمن عبارة عن ارتماء في الحضن الأمريكي.
الخيارات الحقيقية لا تدور ضمن الخيار الوحيد الذي عبر عنه رئيس السلطة الفلسطينية وكبير مفاوضيه، وإنما يكون من خارجه. الخيار الذي يدور ضمن الدائرة ليس خيارا، وإنما هو عبارة عن التفاف للعودة إلى ذات الدائرة. وعلى أية حال، قال السيد عباس إنه سيفاوض إن فشلت المفاوضات، وسيفاوض إن فشل الفشل، وسيفاوض إن فشِل فشَل الفشَل. وكبير مفاوضيه كتب أن الحياة مفاوضات. لم يحصل في التاريخ الإنساني أن أصبحت المفاوضات منهج حياة بدل أن تكون أداة أو آلية إلا لدى فلاسفة السياسة الفلسطينيين.
المعنى أن فلسفة التفاوض الفلسطينية لا تحيد عن استمرار التفاوض، وإذا كان للاستيطان أن يستمر، فإن الفشل لا يعني وقف التفاوض.
البعد العربي
ظهرت بعض الأنظمة العربية على الشاشة كثيرا في مسألة العودة إلى المفاوضات غير المباشرة والمباشرة، والسبب أن الأمريكيين والفلسطينيين والإسرائيليين كانوا بحاجة إلى عملية إخراج للفلسطينيين من توريط أنفسهم بإعلان وقف التفاوض. لم يكن من المناسب أن يبلع المسؤولون الفلسطينيون كلامهم بدون زفة من نوع ما تجعلهم يظهرون على أنهم متعاونون مع الآخرين وليسوا متصلبين، وكانت الأنظمة العربي هي أداة توفير غطاء العودة.
البعد العربي ليس بعدا للرهان من أجل مستقبل الأمة العربية، وهو في العادة يتم استخدامه لتمرير روزنامات أو برامج خارجية ذلك لأن أغلب الأنظمة العربية منصبة من قبل الغير ولا تملك إرادة سياسية حرة، ولا تستطسع أن تقرر لنفسها بنفسها.
الاستيطان ليس عقبة
تهدد السلطة الفلسطينية بوقف المفاوضات إذا عاد نتنياهو إلى الاستيطان. ستقف المفاوضات، ولكن إلى حين، وستعود ما دام الوضع الفلسطيني على ما هو عليه من ضعف وخنوع وتسليم. وإذا لم تتم العودة إلى المفاوضات بسرعة فإن التنسيق الأمني سيستمر وسيستمر معه الاستيطان. إسرائيل لا تريد أكثر مما هي عليه الأمور الآن، وإذا كان هناك ما يشغلها، فبالتأكيد ليس السلطة الفلسطينية.
من لا يريد أن يفاوض عليه أن يقوم بخطوات عملية لإثبات مواقفه مثل وقف التنسيق الأمني، وتغيير التحالفات، واستبدال جهات التمويل، وتغيير الأوضاع الداخلية بما فيها الوزارة وإدارات المؤسسات، وإطلاق يد المقاومة، والعودة بالأمور إلى وحدة وطنية فلسطينية على قاعدة التحرير. أما الحديث ضد الاستيطان ضمن معطيات الهزيمة والخنوع فلا طائل منه ولا جدوى، ولا يعني إلا شيئا واحد وهو أن السلطة الفلسطينية تؤيد الاستيطان عمليا وترفضه إعلاميا.