بقلم : رشاد أبوشاور ... 29.09.2010
يوم 28 أيلول/سبتمبر 1970 رحل جمال عبد الناصر، وهو في الثانية والخمسين، بعد أن حمل أعباء أمة وتقدم بها مواجها الأعاصير، والمؤامرات، ورياح السموم التي كانت تهّب في مواجهة المشروع القومي النهضوي، في زمن الاندفاع الأمريكي لأخذ مكان الإمبراطوريتين الآفلتين: بريطانيا وفرنسا!
في الحلقة الأخيرة من أحاديث الأستاذ هيكل، التي أورد فيها حكاية فنجان القهوة الذي أعدّه السادات بيده للرئيس جمال عبد الناصر، أورد هيكل حكمة سمعها من القائد الفلسطيني(أبو إياد): بعض المصائب تصغر بمضي الوقت، وبعضها تكبر وتكبر مع الوقت.
أنا لن أخوض في موضوع فنجان القهوة، فحتى الأستاذ هيكل، وبعد أن ثبّت الحادثة التي كان شاهدا عليها، جزم بأن السادات لا يمكن أن يدّس السم لجمال عبد الناصر.
أنا أتوقف عند الحكمة التي نطق بها أبو إياد، وهي أن بعض المصائب تكبر رغم مضي الزمن عليها.
أليس هذا ما يحدث للعرب بعد أربعين سنةً على رحيل القائد جمال عبد الناصر؟!
تعالوا نتأمل الخسائر الفادحة للأمة: مصر لم تعد قائدة للعرب، ولذا فالعرب هائمون على وجوههم، في صحارى النفط، أو في مدن العشوائيات، تتحكم بهم نظم حكم عشوائية، لا تخطط للغد القريب، فما بالك بالبعيد؟! وأي غد يعنيها أكثر من ضمان بقائها بأي ثمن!
مصر تكاد تعود للملكية الوراثية، وهو ما سيذهل الملك فاروق لوعاد حيّا، وسيدفعه للتساؤل: لماذا قامت الثورة على ملكيتي الوراثيّة؟!
العرب شراذم، دول بلا قيمة ولا أهمية، ولا دور، ولا صلة لها لا بحاضر الأمّة، ولا بمستقبلها.
فلسطين تصفّى تماما، بقيادات تسرق كل تراث مقاومة شعب فلسطين باستهتار، مانحة الكيان الصهيوني الفرصة تلو الفرصة للتوسّع في نهب ما تبقّى من أرض فلسطين. قيادات تكذب على الشعب، وتتصارع وهي على تحت مظلّة أوسلو، من يفاوض منها، ومن يدّعي المقاومة ولا يقاوم، ويعلن بالفم الملآن أنه مع دولة فلسطينيّة على أرض ال67!
الانقلاب على الناصرية هو الاغتيال الحقيقي: وضع كل الأوراق في يّد أمريكا. الانفتاح تصفية القطاع العام، تدمير الطبقة العاملة التي ازدهرت مع النهضة الصناعية.
الاغتيال لمصر تجسّد في إطلاق كلاب وقطط الانفتاح الذين نهبوا البلد، وهم مجموعة طفيليين ولدوا وترعرعوا مع تصفية مكتسبات الطبقات الشعبيّة.
الاغتيال الحقيقي هو في تخلّي مصر عن دورها القيادي العربي، والأفريقي، وتحولها إلى ما يشبه دولة بنغلادش، فقرا وتهميشا!
تعالوا نستذكر بداية الانقلاب على ناصر والناصرية.
بعد هزيمة حزيران، ورغم هول الكارثة، خرجت الجماهير وفرضت على جمال عبد الناصر أن يعود لسدّة القيادة، ليس لأنها تعبد الفرد، ولكن لأنها كانت تدرك أن من يأتي في ظروف الهزيمة بعد ناصر، فلن يكون له خيار سوى الاستسلام، والخضوع لأمريكا.
ناصر انخرط في عملية التطهير، وإعادة البناء، ووضع الرجل المناسب في الموقع المناسب، وخّاصة في الجيش، فلمعت أسماء قادة يليقون بمصر، وجيشها العظيم، وطموحاتها. قادة يعيشون مع رجالهم في الخنادق المتقدمة، ويعبرون إلى سيناء على رأس وحدات الصاعقة تمهيدا ليوم العبور من الهزيمة إلى الانتصار.
أعيد بناء القوّات المسلحة، فسلّحت ودرّبت مع إنجاز عملية محو الأميّة في صفوف الجنود القادمين من الصعيد، والأرياف، ودعمت بضّم عشرات ألوف الجامعيين لاستيعاب السلاح المتطوّر، وبناء جيش نوعي لا كمّي.
وضع مع أركان جيشه خطّة العبور، تحت حائط الصواريخ الذي كان بناؤه ملحمة تبرهن على عظمة الإنسان العربي المصري، الذي مزج الدم بالإسمنت وهو يبني ذلك الحائط، ليكون مظلّة حماية لجيش العبور. يجب أن لا ننسى دور الاتحاد السوفييتي الصديق، وقيادته المنحازة لناصر والعرب.
في حلقات (مع هيكل) الأخيرة توقف الأستاذ هيكل عند حكاية ذات دلالة ، وهي زيارة ضابط مصري كبير له في مكتبه بالأهرام، وتحذيره من أن جيش العدو يمكن أن يلتف على جيش مصر من ثغرة سيعبرها (ليقشّر) الصواريخ، ويترك جيش مصر بعد العبورعاريا تماما لتبيده طائرات العدو على رمال سيناء!
اصطحب الأستاذ هيكل الضابط، وقدمه للرئيس ناصر الذي طلب اللقاء به بعد أن سمع عنه من هيكل.
بعد أن سمع ناصر وجهة نظر الضابط أعدّ مع قادة الجيش خطّة لمواجهة احتمال الثغرة، وإحباط إمكانية الالتفاف على قوّات العبور!
يقول الأستاذ هيكل، وهو صادق بالتأكيد، فالرجل يوثّق كلّ كلمة يقولها: عندما رحل جمال عبد الناصر كان قد وقّع على خطتين: خطّة العبور، وخطّة مواجهة احتمال الثغرة.
السؤال هو: كيف إذا حدثت الثغرة رغم وجود خطّة لاحتوائها وتدميرها، وإحباط خطّة العدة التي كانت ستباغت جيش العبور، وقياداته العسكريّة؟!
في الحلقة السابعة من برنامج الإعلامي أحمد منصور مع السيدة جيهان السادات، شاهد على العصر، استفزها بالحديث عن الثغرة، فلم تجد جوابا سوى الرّد بعصبيّة: حدثت الثغرة أو لم تحدث الثغرة، المهم السادات رجّع أرضه والا لأ؟!
لأ ..حدثت الثغرة، وحوصر الجيش المصري بعد العبور، ولم تنفّذ الخطة التي وقّع عليها جمال عبد الناصر، والتفّ السادات على قادة الجيش المصري وفي مقدمته القائد الفريق الشاذلي!
هنا بدأت عملية اغتيال (الناصريّة) وانتصارها الموعود، وارتهنت مصر في يّد أمريكا، ومن بعد جاءت زيارة (القدس)..و..كامب ديفد، وتصفية دور مصر، ومنجزاتها داخليّا وخارجيّا، وإخراجها من دورها العربي!
هنا نستذكر المقولة التي أوردها الأستاذ هيكل على لسان الشهيد(أبو إياد)، في الذكرى الأربعين لرحيل جمال عبد الناصر: بعض المصائب تصغر مع الأيّام، وبعضها تكبر وتكبر...
انظروا إلى مصيبة الأمة التي تكبر وتكبر مع الأيّام!
كل فرد سيموت، كائنا من كان، وعبد الناصر لم يكن ليخلد في الحياة، ولكن المصيبة انه كفرد رحل، فانقلب على منجزاته من جاء بعده، جاء من دمّر المشروع التحرري النهضوي المقاوم...
ناصر كان صاحب مشروع لأمّة، ولم يكن حاكما شغله التوريث والثراء!
نحن نفتقدك يا سيادة الرئيس، ونفتقد مصر، ودورها، وعظمتها التي كانت تفيض بها على الأمة، وتغذيها بالانتماء للأمّة، وحمل قضاياها، وهمومها، ورفع راية حريتها.
نحن نفتقدك، ونعرف من سرقوا ثورة يوليو، وانحرفوا بها، وباعوا المنجزات، وتركوا وحوش الفساد تغّب في لحم مصر، وتشرب دم أبنائها، وتمتّص عافيتهم.
نحن نفتقدك ونحن نعيش في زمن قبضايات يُسمسرون، لا يحمون حاراتهم، بل يؤجرونها لكل من يدفع لهم، فهم (حاميها حراميها)!
نحن نفتقدك، ووفاءُ لن نتخلّى عن عروبة فلسطين، فلسنا مع دولة في حدود ال67، ففلسطين ستبقى عربية.
أنت يا سيادة الرئيس رأيت في العبور بداية لهزيمة المشروع الصهيوني، وتحطيما لغطرسته، فهزيمة واحدة كبيرة ستفقده دوره، وستنهي أحلامه بالتوسّع والبقاء.
نفتقدك يا سيادة الرئيس في زمن الخنوع، والجهل، وتنطّع الصغار للقيادة بلا مقومات، ولا كبرياء، ولا رؤية.
أربعون عاما مضت على رحيلك، وها أنت تطّل علينا لتلهمنا أن لا تنال الهزيمة من أرواحنا، وأن لا نيأس في زمن السقوط، ففي مثل هذا الزمن تظهر معادن الرجال، كما كنت تردد.
ليرحمك الله، وليرحم الله أمتنا ممّن يكيدون بها من داخلها، فهؤلاء أضعفوا الأمّة وجعلوها فريسة لكّل أعدائها، وهم من نفّذوا جريمة الاغتيال الكبرى!