بقلم : نقولا ناصر* ... 18.10.2010
في الثلاثين من الشهر الماضي قال رئيس حراسة الأراضي المقدسة الأب بيير باتيستا بيتسابالا إن أحد موضوعين رئيسيين على جدول أعمال المجمع الكنسي "السينودس) الذي يستضيفه الفاتيكان من 10 – 24 الشهر الجاري هو كيف يمكن للكنائس المسيحية ككل أن تكون "شاهدا موثوقا في المنطقة". وعلى الأرجح أنها كانت مجرد مصادفة أن يطالب بطريارك الموارنة في لبنان نصر الله صفير قبل يوم واحد من انعقاد المجمع بمحاكمة "شهود الزور" في المحكمة الدولية التي تحقق في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، غير أن تصريحه عن "الشهود" كان مناسبة لكي يضع المسيحيون بخاصة من أهل المنطقة أيديهم على قلوبهم خشية أن تخرج توصيات "مجمع الأساقفة من أجل الشرق الأوسط" ب"شهادة" عنها يمكنها إن كانت غير موثوقة أن تقود إلى الشك في صدقية "الكنيسة الشاهد" وتقود بالتالي إلى استفحال أزمة "الوجود المسيحي" فيها المهدد بالتلاشي بعد أن تناقص عدد المسيحيين في المنطقة من حوالي (20%) قبل قرن من الزمان إلى حوالي (5%) فقط في الوقت الحاضر، وهذا "من الأسباب الملحة" لانعقاد المجمع كما قال الأسقف المساعد لبطريكية بابل للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية العراقية شليمون واردوني.
ومصدر هذه الخشية أن وثيقة العمل التي أعدها الفاتيكان المكونة من ستة واربعين صفحة ووزعت باللغات العربية والانكليزية والفرنسية والايطالية على (172) بطرياركا وكاردينالا واسقفا كاثوليكيا و(14) من نظرائهم غير الكاثوليك و(30) أكاديميا يزيدون في مجموعهم على (180) مشاركا في المجمع - - ووزعت كذلك على مفتي بيروت الشيخ محمد السماك وآية الله سيد مصطفى أحمدعبادي أستاذ الشريعة الاسلامية بجامعة طهران والحاخام ديفيد روزين (مزدوج الجنسية الاسرائيلي – الأميركي ومستشار كبير حاخامت دولة الاحتلال الاسرائيلي ومدير دائرة شؤون بين الأديان في اللجنة الأميركية – اليهودية) الذي وصف نفسه في كلمته أمام المجمع الكنسي بأنه "مقدسي إسرائيلي" الذين وجهت لهم الدعوة لمخاطبة الاجتماع الكنسي - - ومثل وثيقة العمل كانت كلمة البابا بينيدكت السادس عشر غير المكتوبة التي افتتح بها الاجتماع وتصريحات آخرين من المشاركين فيه قد ركزت على خطر "الأصولية الاسلامية" و"الاسلام السياسي" على الوجود المسيحي في المنطقة "منذ عام 1970" أكثر مما ركزت على حقيقة أن هذه الأصولية إنما كانت في جوهرها رد فعل دفاعي طبيعي يستقوي بإيمان الأمة وتراثها من أجل البقاء على الاحتلالين الاسرائيلي والأميركي وتحالفهما الاستراتيجي الذي يهدد الهوية العربية – الاسلامية للمنطقة وثرواتها وتنميتها.
ولا يخفف من خطورة هذا القلب لأولويات المخاطر على المنطقة بمسلميها ومسيحييها الاشارة القصيرة في وثيقة العمل إلى أن "بعض النظريات اللاهوتية الأصولية المسيحية تستخدم الكتاب المقدس لتسويغ احتلال إسرائيل لفلسطين، مما يجعل موقف العرب المسيحيين قضية اكثر حساسية مما هي عليه"، لأن "بعض الأصوليين المسيحيين يفسرون بأن سفر الرؤيا يقول إن يسوع لن يأتي ثانية ما لم يكن اليهود يحكمون الأرض المقدسة"، وكانت مثل هذه الاشارة العابرة ستكون لها قيمة أكبر وجدوى أكثر لو اعتبرتها الوثيقة مقدمة تستحق بناء موقف للفاتيكان والكنائس منها يفندها ويحدد تفسيره الخاص لسفر الرؤيا بحيث ينقضها أو في الأقل يشكك في صحتها، لكن الوثيقة تترك موقف الفاتيكان والكنائس منها معلقا دون أي توضيح مما يترجم سياسيا إلى ضوء اخضر لكي تواصل "الصهيونية المسيحية" تعبئة الغرب المسيحي لدعم الاحتلال ودولته في فلسطين.
إن المسيح عليه السلام لم يكن محايدا بين الضعفاء وبين الأقوياء، ولم يكن "مسالما" عندما تدنس حرمة بيوت الله كما حدث ويحدث للمساجد والكنائس في فلسطين والعراق اليوم، فقد حمل "سوطه" واقتحم الهيكل اليهودي لكي يقلب موائد من حولوه إلى دار للتجارة على رؤوسهم، كما يروي الكتاب المسيحي المقدس، لكن وثيقة عمل الفاتيكان تضع الصراع الدائر في المنطقة بين الطامعين فيها من الأجانب وبين أهلها المدافعين عن وجودهم المسيحي والاسلامي على حد سواء في إطار القول إن "القدرة العسكرية للأقوياء والعنف الغاضب للضعفاء لم يجلبا السلام إلى الشرق الأوسط"، لأن "طريق العنف الذي سار فيه الأقوياء والضعفاء معا لم يقد الشرق الأوسط" إلا إلى طريق مسدود. إن مثل هذه المساواة الظالمة بين الجاني وبين الضحية، وبين الغازي وبين المدافع، وبين الاحتلال وبين المقاومة له، هي مساواة محايدة جائرة لا يخفف من انحيازها وجورها رفع شعار الحرص على السلام عنوانا لها، ولا تتفق مع سيرة السيد المسيح ولا مع تعاليمه، ولا مع قداسة كرسي الفاتيكان المفترض فيه أن يحمي تعاليمه ورسالته، ولا مع القانون الطبيعي والوضعي، ولا مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، إنه حياد غريب على شريعة الأرض والسماء، حياد يسوغ فقط تهربا من تحمل المسؤوليات المفترضة بالكرسي البابوبي.
فعلى سبيل المثل، عندما تكون "الشراكة" بندا رئيسيا على جدول أعمال "مجمع الأساقفة من أجل الشرق الأوسط"، باعتبارها وسيلة لا غنى عنها للتعايش من أجل الحفاظ على "الوجود المسيحي" في المنطقة، فإن اي موقف محايد للفاتيكان والكنائس يكون مستهجنا تماما عندما تعمل دولة الاحتلال الاسرائيلي حثيثا من أجل انتزاع اعتراف من المنطقة وأهلها واصحابها والعالم ب"يهودية" مهد المسيح والمسيحية، أو عندما تعلن القدس "عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي"، أو عندما يتبنى الحليف الأميركي لدولة الاحتلال مثل هذه الادعاءات رسميا بلسان رئيسه وأركان إدارته، فأي رسالة مسيحية للشراكة والتعايش يجب أن تكون موجهة أساسا لدولة الاحتلال، التي لا يوجد أي تفسير لإصرارها على يهوديتها إلا نية مبيتة عامدة متعمدة لإقصاء المسيحية والمسيحيين عن مهدهما وإقصاء الاسلام والمسلمين عن مسرى النبي محمد ومعراجه في ثالث الحرمين الشريفين، لا أن تكون موجهة إلى الاسلام والمسلمين الذين حافظوا على الوجود المسيحي، واليهودي كذلك، طوال ما يزيد على أربعة عشر قرنا من الزمان، فهذا قلب آخر للأولويات في وثيقة عمل الفاتيكان.
أما تذرع الوثيقة بأن "معارضة وجود دولة يهودية، والعداء للصهيونية، هو موقف سياسي أكثر، وبالتالي، لا بد من اعتباره غريبا عن كل خطاب كنسي"، فإنه حجة متهافتة للتنصل من المسؤولية الكنسية الواضحة للتصدي لتهويد مهد المسيح والمسيحية، بينما لا يجد منظمو مجمع الأساقفة من أجل الشرق الأوسط أي حرج في "الموقف السياسي" للبابا بنيديكت وهو يعلن أمام المجمع في الحادي عشر من الشهر بأن "آلهة الارهاب يجب أن تسقط" ولا في الموقف السياسي الذي دعاهم إلى عقد مجمعهم في المقام الأول لأسباب سياسية واضحة تستهدف حماية الوجود المسيحي في المنطقة.
كما تبعث الوثيقة رسالتين إلى المسيحيين في المنطقة، الأولى تطلب منهم "المساهمة في صنع السلام"، وهذه في ظاهرها رسالة مسيحية واسلامية لا جدال حولها عندما تنتزع من واقع الاحتلال والهيمنة الأجنبية ونهب ثروات المنطقة ومحاولة مصادرة هويتها بالقوة المسلحة الغاشمة، لكنها عندما توضع في إطار هذا الواقع فإنها تتحول إلى دعوة صريحة إلى مسيحيي المنطقة للانسلاخ عن التيار الرئيسي لأمتهم وشعوبهم وأوطانهم المقاوم لهذا الواقع، مما يزيد في عزلتهم وبالتالي احساسهم بالغربة والنتيجة المحتومة في هذه الحالة هي الهجرة التي يسعى قادة الكنائس المجتمعين في الفاتيكان إلى وقفها، مما يتناقض مع تحذير الوثيقة لهم من العيش في "غيتوهات"، وهي رسالة تتناقض كذلك مع دعوة الوثيقة للمسيحيين لأن يكونوا مواطنين مندمجين مع مواطنيهم من الأغلبية المسلمة في المنطقة، لأنهم من اهل البلاد الأصليين، وجزء من النسيج الوطني في البلاد التي يعيشون فيها، وعليهم تعميق انتمائهم لمجتمعاتهم.
أما الرسالة الثانية فأخطر، فالوثيقة تقول إن المسيحيين في الشرق بحاجة إلى "الدعم الخارجي" من أجل البقاء في المنطقة و"المساهمة في صنع السلام"، متناسية أن هذه الحجة نفسها قد استخدمت قبل ألف عام لتسوغ الغزوات والحروب الغربية على المنطقة التي سماها المؤرخ العربي والاسلامي "حروب الفرنجة"، وسماها المؤرخ الغربي "الحروب الصليبية"، ومتناسية أن النتيجة الوحيدة الوخيمة لهذه الحروب العدوانية على "الوجود المسيحي" كانت غياب الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان الذي بارك تلك الحروب عن المنطقة طوال قرون من الزمن قبل أن يعود إليها مع جحافل الاستعمار الأوروبي البريطاني – الفرنسي – الايطالي. إن دعوة كهذه تذكر بصرخة الشاعر العربي الفلسطيني المسيحي، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي استشهد في غارة إسرائيلية على بيروت عام 1973، في قصيدة له: "لست منك يا غرب فاحمل صليبك وارحل" !
ويقف العراق اليوم شاهدا حيا على نسخة اميركية معاصرة من حروب الفرنجة على المنطقة، حيث كان الادعاء بحاجة الشعب العراقي إلى "الدعم الخارجي" للخلاص من نظام وطني شيطنته الحرب النفسية الأميركية كنظام دكتاتوري مقدمة لغزو العراق فاحتلاله، حيث "زل لسان" الرئيس الأميركي السابق جورج بوش - - كما قيل لاحقا - - ليصف الغزو والاحتلال بحملة "صليبية" قلبت حال أهل الصليب العراقيين رأسا على عقب، فكنائسهم تحرق اليوم والعلم الأميركي يرفرف فوقها، ليتحولوا إلى أصغر الأقليات وأضعفها، بعد أن هجر العنف الطائفي تحت المظلة الأميركية ثلثيهم تقريبا لينخفض عددهم من مليون وربع المليون من أعرق المسيحيين في المنطقة عام 1987 إلى حوالي (400) ألف اليوم، وليتحول العراق إلى أحدث مسرح يتهدد فيه "الوجود المسيحي" بالتلاشي، وليكون الكاثوليك أول ضحايا "الدعم الخارجي" فيه حيث لم يعودوا يمثلون سوى (89. - %) من سكانه بعد أن كانت نسبتهم (2.89%) عام 1980.
في كلمته أمام المجمع يوم الجمعة الماضي، قال ممثل الكنيسة الانجيلية في المملكة المتحدة المطران مايكل لانجريش إن كنيسته ملتزمة بمساعدة الحكومة والمجتمع ووسائل الاعلام البريطانية في "مواجهة نتائج قرارات السياسة الخارجية خلال المائة عام الماضية"، منوها بأن الكاثوليك والانجيليين في بريطانيا عارضوا "ليس فقط لاأخلاقية حرب العراق الثانية بل أيضا آثارها المستمرة"، وربما تفعل حسنا التوصيات المرتقبة لمجمع الأساقفة من أجل الشرق الأوسط لو اقتدت بهذا المطران وكنيسته لكي "تساعد" الحكومات الغربية في مواجهة قرارات سياساتها الخارجية خلال المائة سنة المنصرمة المسؤولة اساسا عن تقلص "الوجود المسيحي" في المنطقة، لكن المجمع حتى يتمكن من تقديم اي مساعدة كهذه عليه أولا أن يعيد تنظيم اولوياته وترتيب المخاطر على هذا الوجود حسب أهميتها على أرض الواقع، والتخلي عن حياده بين الضعفاء وبين الأقوياء، ومساواته بين "عنف الضعفاء" للدفاع عن النفس والوجود وبين القدرة العسكرية المعتدية الجائرة للأقوياء التي تمارس إرهاب الدولة فتدفع أفرادا من ضحاياها إلى ممارسة مماثلة.
إن التعددية الدينية والتعايش بين الأديان اللذان تبشر بهما وثيقة عمل المجمع وكأنهما اختراع جديد هما في صلب العقيدة الدينية للاسلام، وجزء لا يتجزأ من تاريخ المنطقة وتراثها، وقد حان الوقت لكي تتحمل الكنائس المسيحية مسؤولياتها من أجل "العمل لدى حكومات وإدارات العالم الغربي لوقف محاولة أبلسة الدين الإسلامي الذي يؤمن به أكثر من مليار إنسان، في تقاليده وعاداته. وأن تتم الدعوة إلى النظر بجوهره ونصّه الديني الأصلي فقط، لا من خلال أفعال مجموعات تكفيرية إرهابية، يرى المسلمون أنفسهم أنهم ضحاياها مثل بقية العالم" كما جاء في رسالة العماد ميشيل عون زعيم التيار الوطني الحر اللبناني إلى المجمع المنعقد في الفاتيكان في الثاني عشر من الشهر الحالي، التي نوه فيها بأن "المسيحيين المشرقيين عبر التاريخ .. كانوا إلى جانب المسلمين .. ووقفوا قرب الخلفاء .. حتى غروب العصر العربي الإسلامي".
وقال عون في رسالته ما ترفض وثيقة عمل المجمع قوله ب"اعتباره غريبا عن كل خطاب كنسي": "لا يوجد سبب واحد وحيد لنزوع المسيحيين إلى الهجرة، وأن مسؤولية النزيف البشري في المشرق لا تقع على الخوف من التطرف الديني فقط، بل إن الوضع الاقتصادي المتردي والسياسي المتقلب والحروب المتتالية منذ الحرب العالمية الأولى والفقر والجوع اللذين لحقا بالمشرق جراءهما، والحرب العالمية الثانية واستعمار المنطقة وتأسيس إسرائيل وتقسيم فلسطين والتطهير العرقي ضد سكانها العرب من مسلمين ومسيحيين، واستكمال الضغوط عليهم لتهجير ما تبقى منهم، ورفض حق عودتهم إلى بلادهم، شكّلت أسباباً أكثر من وجيهة للهجرة، وهنا يندرج مخطط توطين الفلسطينيين في البلدان التي هجّروا إليها، وهو ما نرفضه ونسعى لعدم وقوعه، لأنه يصبُّ في خانة تفريغ الأرض من سكانها الأصليين وجعل مهد السيد المسيح من دون مسيحيين"، ليستنتج بأن: "الكلام والعمل على يهودية دولة إسرائيل سيجرّّ تهجيراً جديداً وحروباً ومآسٍ وويلات على أرض قال سيغموند فرويد إنها "مثقلة تاريخياً" بأقدس معالم المسيحية وأهم المعالم الإسلامية ومحجة الديانتين الكونيتين، هو إلغاء صريح لرسالتين سماويتين يؤمن بهما أكثر من 3 مليارات إنسان دفعة واحدة".