بقلم : رشاد أبو شاور ... 20.10.2010
لن أخوض في تعريف المثقف، والثقافة، لأننا إلى حّد ما، نتّفق على شروط بدهية تحددهما، تبدأ من أن المثقّف متعلّم، قادر على التعبير عن فكره، والمنافحة عن هذا الفكر، والتضحية في سبيله.
عندما يتعرّض الوطن، وهو أقدس ما في حياة الأفراد، للاحتلال، فإن دور المثقّف لا يحتاج أبدا لتوجيه دعوة، أو التنبيه إلى الخطر، لأن المثقف هو من ينبّه للخطر، بل ويسهم مع آخرين غيره في تبصير الناس بفداحة الخطر، وبعظمة وجمال الحريّة، تبريرا للتضحية برضى وقناعة، وعن طيب خاطر.
وكوني أكتب عن المثقف الفلسطيني، فإنني بداية، لا أنسى من تقدموا الصفوف، وقرنوا الكلمة بالفعل، فمنهم من استشهد: عبد الرحيم محمود، نوح إبراهيم، ومنهم من طورد أيّام الانتداب البريطاني: نجاتي صدقي، ومنهم من أسهم في تأجيج الكفاح المسلّح، وقيادته: عبد القادر الحسيني، ومنهم من أسهم في تطوير الكفاح، وحّض عليه: خليل السكاكيني...
شعراء فلسطين، برز دورهم منذ بدء الاحتلال البريطاني، والغزو الصهيوني، وهؤلاء منهم من لم يكتف بالشعر، بل حمل السلاح.
ومن هؤلاء الشعراء من نشر الوعي، ونبه للمخاطر، وحدد الأعداء: إبراهيم طوقان، وعبد الكريم الكرمي(أبوسلمى)، ومطلق عبد الخالق، والعدناني...
وبعد النكبة كان لشعراء فلسطين حضور، فهم شدّوا من عزيمة شعبنا أمام هول النكبة، حين لم تكن هناك قوى سياسيّة تنظّم صفوف شعبنا وتبيّن له أسبابها، وحضّوا الناس على الصبر، وعدم التنازل عن فلسطين: هارون هاشم رشيد، معين بسيسو، يوسف الخطيب...
قبل أن يسمع ملايين الفلسطينيين والعرب بالعمل الفدائي، والمقاومة، والثورة الفلسطينيّة، انتدب مثقفون فلسطينيّون، أنفسهم، انطلاقا من وعي دورهم، فعملوا على تشكيل فصائل حضّت الفلسطينيين على تنظيم صفوفهم، والاعتماد على أنفسهم، والانتقال إلى حمل السلاح: سميرة عزّام، شفيق الحوت، غسّان كنفاني...
وبعد انطلاقة الثورة الفلسطينيّة المعاصرة مع مطلع العام 65، ونكبة حزيران، وانطلاقة المقاومة، تدفق عشرات، بل مئات الكتاب، والشعراء، والصحافيين، والفنانين، والأكاديميين ووضعوا خبراتهم في خدمة تطوير المقاومة، والتنظير لها، والانخراط في صفوفها ميدانيّا، برهنة على (عضوية) المثقف، وسعيا لاكتساب التجربة الميدانيّة، وعدم الاكتفاء بالتنظير.
وعندما بدأت مسيرة الانحراف تكشف عن نفسها في (ثقافة) تضليلية، مضادة، تصدّى مثقفون ثوريون لها، وبدأوا الاشتباك معها، فاضحين مروجيها، وخلفياتهم، وأهدافهم.
مبكرا تنبه بعض الكتاب والمثقفين لانحراف الخطاب السياسي، وأقلمته، فحذروا، وكتبوا، وخاضوا معارك فكرية مشرّفة، تحديدا بعد حرب تشرين 1973، وهو ما أدى لمطاردة بعض الكتّاب، وإطلاق الرصاص على بعضهم، وطرد من أسسوا مجلّة (فلسطين الثورة) ـ مجلّة منظمة التحرير الفلسطينيّة ـ لأنهم نقيض لخّط (التسوية) الذي أخذ في البروز، بتنظير(يساري) و(يميني) التقيا معا، وما زالا يعيثان خرابا في الوعي، بنشر ثقافة الاستسلام، والواقعيّة السياسيّة التي تتجلّى في تصريحات ومواقف المدعو (عبد ربّه)، ومجموعة نهج التفاوض!
سقط حنّا مقبل شهيدا في قبرص عام 84، وكان تعرّض لإطلاق الرصاص في الفاكهاني، واغتيل فنان فلسطين والعرب ناجي العلي في لندن بعد حملة إعلاميّة أسهم فيها كتاب، وشعراء، وصحافيون فلسطينيون، لعبوا دورا حقيرا مخزيا بشنهم حملة على ناجي، خدمة لقيادة اختارت نهج التسوية، وتنازلت عن عروبة فلسطين، قبل (أوسلو)، وعمليا تمهيدا لما جاء به (أوسلو) من بعد، وضاق صدرها بأبسط حدود النقد، وهو نقد ينطلق من الحرص على القضيّة، ورفض التفريط بها.
هناك إذا مثقفون فلسطينيّون مختلفون، متباينو الثقافة، والانتماء، والصدق، فليس الجميع على ذات الأرض، ولا يتمتعون بنفس النزاهة والصلابة، ولا يعنيهم التمسّك بشرف المثقف، إذ هنا يفترقون، ويتضح موقف الثوري الحقيقي، من الانتهازي الكاذب المُدلّس.
وهكذا: لا يكفي أن تكون مثقفا فلسطينيّا: شاعرا، كاتبا، صحافيا، أكاديميّا، فنانا، لتكون وفيا للقضية الفلسطينيّة، حتى لو أبديت مشاعر وطنية، فالموقف هو الحكم، وهو الخيار المكلف، وهو الامتحان..وفي الامتحان ينجح من يستحّق، ويسقط من هو خليق بالسقوط!
بعد (أوسلو) حدثت حالة ارتباك مؤقتة، فالاستبشار بدولة فلسطينيّة تكون محطّة في نضال الشعب الفلسطيني، تمكنه من التقاط الأنفاس، وتمنحه(وطنا) ملاذا، علما ونشيدا وجواز سفر..وضع المثقف أمام أسئلة، وخيارات، و..هذا ما ركّز عليه (مثقفو) التسوية، وسلام الشجعان، بل إن بعضهم سرّا وعلنا، اندفعوا للقاءات حميمة مع كتّاب صهاينة، داخل فلسطين، وفي عواصم الغرب: باريس، لندن، كوبنهاغن، جنيف...
لكن، وبسرعة، تكشّف أن ماء السلام كان سرابا، فالسلام مع العدو الصهيوني مستحيل، لأنه يريد كلّ شيء، وهو ما برهنت عليه جرّافات الدمار، ودبابات إعادة الاحتلال لمناطق (أ)، وتدمير الحقول، وسرقة الماء، واغتيال ( شريك) السلام الرئيس(عرفات) بالسّم، وزّج الألوف في المعتقلات الما بعد نازية، وتغيير ملامح القدس نهائيّا، بحيث لا يبقى فيها صوت مؤذن، ولا جرس كنيسة!
أين المثقف الفلسطيني من المشهد الدامي، والموت الفلسطيني اليومي، وقد تبدد الوهم، وانكشفت (الخدعة) الصهيونيّة الأمريكيّة، المغطّاة من نظم حكم عربيّة رسميّة؟!
تسابق كثيرون على المناصب: معالي الوزير، المدير العام، سعادة السفير..الخ!
ثمّ: تدفقت أموال المنظمات (غير الحكوميّة) (الأنجزة) ـ كما يصفها الدكتور عادل سمارة ـ فتسابق عشرات، بل مئات المثقفين الفلسطينيين، من أكاديميين، وكتّاب، وباحثين ـ غالبا مناضلون سابقون، يتقدمهم يساريون انتقلوا إلى خيار السياسة الواقعية المربحة والمريحة، مبررين سقوطهم بسقوط الاتحاد السوفييتي..شوف العكرتة!..وبعد أن كانت هناك قرابة مائتي منظمة غير حكوميّة في الضفّة قبل السلطة، تفشّت هذه المنظمات حتى بلغت أكثر من ثلاثة آلاف!
هذه المنظمات غير الحكومية مهامها تكشف أهدافها: دراسة كل جوانب حياة الشعب الفلسطيني، من تقاليد ختان الأطفال، إلى (ليلة الدخلة وأهمية غشاء البكارة لدى الرجل الشرقي الفلسطيني)، و..التشكيلات السياسيّة (المتطرفة) فلسطينيّا..المقصود ليست (القاعدة)، ولكن من يؤمنون بعروبة فلسطين، الاتجاهات الثقافية والفكريّة..وكل هذه الدراسات تقدّم للممولين..لماذا؟!
المثقفون الفلسطينيّون منتشرون في أجزاء الوطن: الداخل 48، الضفّة، القطاع..و ..في الشتات، والمنافي البعيدة. منهم من يجهر بموقفه، ويرفع صوته، ويؤدّي واجبه الوطني، ومنهم من يصمت صمت القبور.
هناك مثقفون يلوذون بالصمت، عن انتهازية، رغم ما تتعرّض له قضيتنا من مخاطر، فلا أحد يقرأ لهم، أو يسمع أصواتهم، وهؤلاء ينتشرون في الضفّة والقطاع، ويمتّد تأثير السلطة إلى أماكن بعيدة عن الضفّة، فتشتري تابعين في الشتات يروّجون لحكمتها، وهؤلاء يكتبون ويكذبون، مع إنهم لا يحظون باحترام أحد، ولا حتى أنفسهم!.
ثمّة رجال قانون يفضحون ما تقترفه السلطة، يبصرون شعبنا بالمخاطر، والتزوير، يتقدمهم الدكتوران: أنيس مصطفى القاسم، وأنيس فوزي القاسم...
وهناك أسماء في الضفة تكتب بشجاعة وصدق، يتقدمهم: د. عادل سمارة، عبد الستار قاسم، والشاعر زكريا محمد، وهاني المصري وغيرهم.. وكتابات هؤلاء تفضح الصامتين الخرس عن جبن، وانعدام ضمير!
كثير من المثقفين العرب اختاروا فلسطين قضية حياة، وصاروا فلسطينيين بامتياز، ورهنوا مصائرهم بمصير الثورة الفلسطينيّة، منهم: الياس خوري، أمجد ناصر، عدلي فخري(يرحمه الله) ..ولا أنسى مفكرين يتقدمهم: منير العكش..والقائمة تطول، فالانتماء لا يكون بالولادة، ولكنه خيار واع مُكلف...
المثقف الفلسطيني أمام ضميره، وشعبه، وأمته..والخيار: إمّا مع فلسطين، أو مع المصلحة الشخصيّة..ولا خيار آخر!