بقلم : سهيل كيوان ... 09.09.2010
رافقته إلى المستشفى، نامت على حافة سريره ثم استيقظت ثم أغفت ثم حلمت ثم استيقظت على سراب، تضغط على راحته وتخاطبه: ليش ما بترد... فلا يرد...
ذرفت الدموع غزيرة، لا ساخنة ولا باردة، بدرجة حرارة جسدها بالضبط. بعد أسبوعين صارت تبحث عن دمعة واحدة ولو سلفة فلا تجدها.
زاره كثيرون، نظروا إلى وجهه المحنط بنظرات بعضها بغباء نظرة ضفدع إلى لوحة مفاتيح حاسوب مرمية في حديقة، وبعضها فلسفية تحاول استنباط فكرة من قميص الجسد المهترئ.
حاول بعضهم أن يشحنها بالأمل...'ما من شدة إلا وبعدها فرج..لا تيأسي من رحمة الله...بالتأكيد سوف يستيقظ...أنا رأيت جفنيه ينفرجان عندما ناديته باسمه..قرأت عن رجل ألماني عاش سنين في غيبوبة ثم استيقظ..والعربي لن يختلف عن الألماني أو الياباني بشيء..اللهم إلا بشعريته المفرطة...
تسوّلت من الطبيب بارقة أمل فقال لها بحزم:'مُخّه تعفن...ولن يعود ...أما في ذاكرة الحاسوب وعلى الورق فهو ما زال حياً
- إذاً لماذا لا تعلنون وفاته ليرتاح الجميع...
- ليرتاح الجميع ومن قال لك انهم غير مرتاحين؟...
حظيت بتعاطف الكثيرين من عرب وسائحين أجانب، (هنالك سائحون لا يحبون شيئاً أكثر من زيارة الميتين سريرياً وتأمل جثامينهم)! وقفوا وسألوا وتضامنوا وغاصوا في التأملات وقدموا لها ساندويتشات طعام سريع وكولا، ولمسات دافئة واعدة على كتفيها وراحتيها.
ألقت برأسها على حافة السرير وسرحت...
كانت متعته العظمى أن أفرك له ظهره عندما يستحم في الجاكوزي المستوردة، كل شيء في بيتنا مستورد، الحنفيات، الشامبو، الطعام، ورق اللعب، المصلى، المسبحة، المسواك، ملابسنا الباطنة والظاهرة، بلاط الأرض، كل الأدوات الكهربائية، مواد التظيف، معجون وفرشاة الأسنان، جدران البيت، الأثاث، الأدوية، أكاد لا أذكر شيئاً محلي الصنع في بيتنا.
بعد الاستحمام أعد له الأرجيلة ثم أجلس قبالته فيستهل كلامه بالقول'أنت جاحدة..لا تقدرين النعمة التي نغرق فيها '! فأرد هجومه مؤكدة أنني أشكر الله على النعم الكثيرة التي لا تحصى، ثم نبدأ بلعب الضامة والورق وتدخين التمباك المستورد. خلال هذا يحكي لي عن بطولاته يوم كان رجلا قوياً، حكى لي عن أكثر من سبعين معركة خاضها وخرج منتصراً، ولكنه لم يتحدث ولا مرة عن هزائمه، رغم أنني رأيت بعيني رأسي من مسح به الأرض مراراً! تحدث عن عشرات النساء اللاتي عاشرهن دون اعتبار لمشاعري كأنني شخص حيادي في حياته، كيف كان يستبدلهن كما يستبدل جوربيه المستوردين، وعن شقيقته العانس الطاهرة الشريفة أخت الرجال التي لم تعرف رجلا في حياتها. حكى لي أنه أول من أدخل الصحون والملاعق والشوك إلى البلدة، وأنه في زمن ما كان قارئاً ممتازاً لكل الإنتاج المحلي والعالمي من الآداب والفلسفة، قبل أن يتوب ويقرر حرق مئات الكتب التي كان يعتز بها...كنت...كنت..كنت...كنت..كنت..لا فعل لديه سوى الماضي.. لا مضارع ولا مستقبل في حياته..كأنه لاجئ في هذا الزمن.في ليلة ما انفجرت وصرخت في وجهه:'كنت كنت كنت..أنت مثل كوكب انطفأ منذ مئات السنين..ولكنه ما زال يوهم الرائي بنوره'.
حينئذ شج رأسي برقعة الشطرنج الرخامية...وصاح وهو يدق على صدره: نحن الذين اخترعنا الشطرنج وليس الفرس البخلاء ولا الهنود الجبناء...
ليته مات ودفنوه منذ لحظة سقوطه عن سطح البيت عندما كان يراقب بالعين المجردة ظهور هلال شوال، لصرت الآن في مرحلة متقدمة من نسيانه، وكنت قد بدأت الاعتماد على نفسي وبناء حياتي من جديد.
نسيت ما هو عمري بالضبط، ولا أريد أن أعرف، ليس مهما كم عشت، عمري يوم يتكرر لا جديد فيه منذ كنت طفلة، نسيت التواريخ والأيام وحتى الأعياد، لا أعرف كيف يعرّفون سن اليأس لأنني لم أعش سن الأمل أصلا ! ما أعرفه أن الرغبة بالحياة ما زالت معششة في كل خلية من جسدي، أريد أن أعيش رغم الجفاف المطبق في كل شيء رغم أمواله التي لا تأكلها النيران، ورغم الأنهار التي تملأ خرائط مزارعه وأراضيه التي تحولت الى قنوات آسنة. ما يدهشني الآن هو كيف نجح بإمساكي والسيطرة عليّ كل هذا الزمن الطويل..كيف جعلني أقتات وأحيا على ذكريات وبطولات ومعجزات لم ألمس منها شيئاً؟
لماذا يصر الأطباء على تعليق روحه بجهاز التنفس حتى وهم يعرفون أنه لن يعود... هل يحق لي أن أطلب منهم فصله عن الأجهزة التي تبقيه بهذه الحالة الغريبة؟ لماذا لا يسمحون لي بأن أرحم نفسي وأرحمه وأنقذه من التعفن؟ سيقول بعضهم إنني جاحدة بل عاهرة..لم أمنحه الفرصة أو الوقت الكافي ولكن حتى لو نجحوا بإعادة النور إلى مخه المتعفن وفتح عينيه وهبط عن السرير ومشى فما الذي سيقدمه...
- ألا نستطيع يا دكتور فصل هذه الآلات عن جثته...
- ولماذا؟
- كي نريحه..
ابتسم ابتسامته الخبيثة وقال غامزاً 'أنت التي تريدين الراحة وليس هو، لأنه يا سيدتي لا يشعر بأي ألم..من يتعفن دماغه لا يتألم...
- وهل سأبقى معلقة بهذا الوهم إلى الأبد؟
اتسعت ابتسامته أكثر وقال- قانوننا لا يسمح بموت الرحمة ويعتبره جريمة، في أمكنة أخرى من هذا الكون يملكون الحرية حتى في اختيار موتهم، فالبعض يوصي بفصله عن الأجهزة إذا صار نبتة في سرير كي يرحل بكرامته وكبريائه مثلما عاش، وفي أمكنة أخرى تذهبين إلى العيادة وتطلبين مساعدة روحك على شلح جسدك، أما هنا فالقانون يحرم هذا المعروف...
- ولكن لماذا...؟
- نحن نلقي المسؤولية على السماء، ولكن الحقيقة أن الجميع رابحون من حالته، ويتمنون استمرارها أطول فترة ممكنة، فهناك بنوك تشتغل بأمواله، وسلسلة طويلة من المستفيدين من بقائه حياً ولو كذباً بما في ذلك المستشفى الذي يستفيد من رقوده أطول فترة ممكنة..كذلك السائحون الذين يمارسون هواية التأمل بالجثث.. حالته صفقة مربحة...وحتى لو مات فتأكدي أن أحداً لا يرغب بإعلان وفاته، ثم لا تنسي الأمل الذي يعيش في داخلك...رغم قناعتك أنه لن يعود فإن في داخلك نسبة من الأمل قد تكون واحدا أو خمسة بالمئة بأنه سيستيقظ في يوم ما ليقول لك 'إلحقيني بالأرجيلة'..أليس كذلك؟...
- الأمل ..أكثر ما أخشاه الآن هو أن يحدث أمر خارق للطبيعة البشرية ويستيقظ ليعود من جديد يلاعبني الضامة والورق ويطلب الأرجيلة، أما الأسوأ فهو أن يعود ليحكي لي عن بطولاته الغابرة.. حتى أمواله لا أعرف أين هي ومن يتصرف بها، وأي نصاب أو قاطع طريق بإمكانه أن يطردني من بيتي، في الواقع لست سوى عبدته ولكن بأقنعة متراكمة كثيرة.
كل شيء صامت سوى جهاز التنفس المطاطي في وعاء الزجاج وطنين ذبابة زرقاء، مدت يدها وراحت تتحسس الكابل الموصول بالجدار... ارتجفت يدها وهي تحاول سحبه، صعقتها النار، ارتطمت بجثمانه بقوة وسقط كلاهما على أرضية الغرفة...صرخت مرعوبة كأنها في أعماق قبر.التم الأطباء والممرضون والزائرون..فوجدوها ترتجف رعباً وتتمتم...يا رب سامحني..سامحني يا مولاي..سامحوني.. أزاحوها جانباً وبتؤدة أعادوا تعليق الأجهزة بالجثة...ثم اقتادوها مكبلة إلى التحقيق بتهمة محاولة قلب نظام الحكم بالقوة والكفر والاستهتار بمعتقدات الأمة وسرقة أربعة آلاف وثلاثمئة دولار أمريكي ومئة وثمانين يورو كانت في جيوبه ليلة سقوطه عن السطح وهو يبحث عن هلال شوال..