بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 05.11.2010
الواقع لا يبقى واقعا، والقوي لا يبقى قويا، كما أن الضعيف لا يبقى بالضرورة ضعيفا، والتاريخ في حالة تغير مستمر. لقد تحدث المؤرخون مطولا عن مراحل التاريخ وعدم استقرارها على نمط معين، وأوضح فلاسفة السياسة صراع المتناقضات وصراع الأضداد قائلين بأن كل واقع يحمل في الداخل نفيه، أو أن لكل مقولة مقولة مضادة تصارعها، فينتج عن الصراع وضع جديد يحمل في داخله نفيه أو تحديا لاستمراره. وقد ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات الكريمة التي تتحدث عن سنن الأولين والهزات التي تعرضت لها وغيرتها بصورة جذرية. ويتحدث القرآن الكريم عن الصراع بين الحق والباطل والذي يستمر إلى يوم الدين، وهو صراع يكشف في النهاية المزيد من الحقائق التي تؤثر في الواقع فتغيره.
لا تشذ المنطقة العربية الإسلامية عن سيرة التاريخ، ولعل هذا ما يفسر ارتفاع وتيرة الصراع الداخلي في العديد من المجتمعات والدول العربية والإسلامية. حالة الوعي بالمرحلة التاريخية من مختلف زواياها الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية تتصاعد في انتشارها وكثافتها، ولا مفر إلا أن تعبر عن نفسها بهذه الطريقة أو تلك، وكلما واجهت سدا منيعا يحول دون هذا التعبير، تغلب العنف على طابع الصراع بين ما هو قائم وبين قوى التغيير. الثبات ليس من سمات التاريخ، وحركة التغيير لا بد أن تأخذ دورها وتدور عجلتها، وإن لم تكن أنت الذي يحركها، فإن غيرك يحركها، وإن لم تكن معجبا بما يقوم به غيرك، فما عليك إلا أن تندب حظك لأن العجلة ستأخذك في طريقها.
قوى التغيير متصاعدة
علت في المنطقة العربية الإسلامية بعد الحرب العالمية الثانية أصوات الوحدة والتغيير والتقدم، واعتلى العروش حكام تحدثوا بآمال الناس وطموحاتهم، ومنهم من استطاع أن يستقطب العقول والقلوب على أمل أن يرفع من المستوى الحضاري للأمة، ويحقق لها ما ما وعدها به. لكن هذه المرحلة اندثرت تحت وطأة الهزائم متعددة الأشكال والألوان، فظهر جيل جديد يعيد التفكير في الأساليب والوسائل السابقة، ويفكر بوسائل ومقاربات جديدة من أجل تغيير الوضع القائم. هناك من ضحوا وطحنتهم الأنظمة العربية والإسلامية، وهناك من تراجعوا محبطين يائسين، وهناك من فشلوا، وهناك من استمروا في محاولاتهم. كانت حركة الإخوان المسلمين على رأس تلك القوى التي استمرت بعمل دؤوب بطيء، وما زالت على أمل تغيير الواقع بسلاسة ودون إراقة دماء، أما الحركات القومية فأصيبت بضربات قاسية ما زالت تحد من قدراتها على النهوض. أما المقاومة الوطنية الفلسطينية ففشلت ووصلت إلى درجة القبول بالواقع كما هو، والحركات الوحدوية انكفأت.
ولّد الفشل مراجعات للمقاربات والوسائل والأساليب، فظهر تنظيم القاعدة الذي صنع أحداثا أدت في النهاية إلى حروب كبيرة في المنطقة العربية، وأجبر الدول الغربية على اتباع سياسات داخلية وخارجية أثرت على مجمل النشاطات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والتحالفات الخارجية. وظهرت حركات جهادية في أفغانستان غيرت الوضع السياسي القائم، وتطورت طالبان التي ما زالت تقاتل حتى الآن دولة عظمى؛ وظهرت المقاومة العراقية التي أفسدت على أمريكا مشاريعها الاستعمارية. والمسألة هنا لا تتعلق بتقييم الشخص لهذه التنظيمات فيما إذا كانت على صواب أو على خطأ، وإنما بقدرتها على صناعة التاريخ، وبدور القمع والاستبداد والاستغلال والاستعباد في ظهورها وتزايد قواها والمؤيدين لها.
على مستوى الدول، هناك من بقي غير مرتاح للوضع العربي والإسلامي مثل العراق في عهد صدام حسين، وسوريا الآن والسودان وماليزيا، لكن دون تصاعد عدم الارتياح إلى درجة التحدي، وذلك لأسباب لا ضرورة للخوض بها هنا. فقط إيران هي التي شهدت تطورات كبيرة تتميز بروح التحدي للقوى التقليدية الحاكمة في المنطقة العربية الإسلامية، والمهيمنة على المستوى العالمي. ولهذا كان تقديري عام 1979، وكما ورد في كتابي المعنون سقوط ملك الملوك، أن إيران ستتعرض لتآمر وحروب بهدف إسقاط نظام حكمها الجديد، والعودة بعقارب الساعة إلى الوراء، وذلك لأن القوى المهيمنة والمسيطرة داخليا وخارجيا لا تأذن بالتغيير، ولا تسكت على التحدي. هذه هي سيرة التاريخ: تتمسك القوى المستفيدة بالواقع القائم، ولديها الاستعداد لشن حروب وسفك دماء من أجل أن يبقى الوضع القائم قائما. وبالفعل تعرضت إيران لحروب وحصار، وما زالت تتعرض لحصار تتصاعد شدته، وتتعرض للتهديد بالحرب بما فيها الحرب النووية.
نتيجة للدعم الإيراني، نشأ تنظيم حزب الله في لبنان والذي اتبع أساليب تنظيمية وأمنية وعسكرية جديدة لم تعهدها المنطقة من قبل، واستطاع أن يقلب المعادلة اللبنانية عامي 1983 و 1984، وأن يطرد الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، وأن يصمد أمام الجيش الإسرائيلي عام 2006، ويحول دون تحقيق أهداف إسرائيل.
من الناحية التاريخية، لا قيمة في النهاية لمواقف الحب والكراهية لإيران أو لحزب الله، وتنبع الأهمية التاريخية فقط من القدرة على صناعة الحدث وإحداث التغيير على أرض الواقع. هل حزب الله قادر على التحدي وصناعة التاريخ أم لا؟ هل إيران قادرة على صناعة التاريخ أم لا؟ الجواب بالتأكيد متوفر لدى القوى التي تقاتل من أجل الإبقاء على الماضي حاضرا ومستقبلا، وهو ظاهر في سياساتها الموجهة نحو إلغاء الحاضر والسير بالمستقبل باتجاه الماضي. وإذا كان هناك من يرى في إيران وحزب الله عدوين فعليه أن يطور أساليبه ووسائله ليكون قادرا على وأد تطورهما، وعلى الذي يرى فيهما خيرا أن يلحق بركبهما.
الرئيس نجاد في لبنان
لم تكن زيارة الرئيس الإيراني للبنان عادية أو تقليدية، وإنما كانت عبارة عن حلقة من حلقات صراع الأضداد الواعي، وصراع المتناقضات الواعي في المنطقة. إنه صراع الأضداد من حيث أن قوى في المنطقة تعمل عن وعي على تغيير واقعها ووفقا لرؤية واضحة لا تتناسب مع القوى التقليدية الحاكمة، وصراع متناقضات من حيث أن قوى خارجية تتناقض تماما مع فكرة استقلال المنطقة ككل أو كأجزاء. واضح أن الرئيس الإيراني كان يتعمد التحدي، وأراد إيصال رسالة بأن مرحلة التحفظ والتردد قد انتهت، وأن إرادة التغيير متوفرة تماما ومدعومة بقوة مادية ظاهرة للعيان. ويمكن تحديد هذا التحدي بالنقاط التالية:
1- الزيارة هي للبنان التي تعتبر حلقة استراتيجية في ميزان القوى الإقليمي، والذي تعمل الولايات المتحدة وإسرائيل وأنظمة عربية على حسمها لصالحها على مدى سنوات طويلة. تشكل لبنان ميدان تفاعلات ثقافية وفكرية وأمنية وعسكرية وسياسية مهمة بالنسبة لمختلف القوى الإقليمية منذ أن أقيمت كدولة، وهي ما زالت تحتفظ بمكانتها، وتستقطب الصراعات المتنوعة الدموية وغير الدموية. تعرضت لبنان الرسمية لضغوط كبيرة من أجل عدم إتمام هذه الزيارة، لكن ضغط القوى الساعية إلى التغيير والمدعومة من إيران ماديا أو معنويا تغلب على رغبات الفريق الآخر. وهذه نقطة كبيرة سجلها الرئيس الإيراني لصالحه في ميدان الصراع.
2- حمل الرئيس الإيراني معه جهازا علميا خاصا بأبحاث النانو في إشارة واضحة منه أن إيران قد بلغت من التقدم العلمي والتقني ما يجعلها في مصاف الدول المتطورة علميا وتقنيا. ومن يستطيع تطوير هذا الجهاز يكون قد بلغ من أمر التطوير العلمي والتقني مستوى رفيعا يؤهله لمختلف الصناعات الإليكترونية العسكرية والمدنية، ويمكنه من تطوير أسلحة قادرة على التصدي لأسلحة الدول الغربية. ويبدو أن الرئيس الإيراني قد اكتفى بهذا الجهاز عوضا عن حمل الصواريخ والدبابات والأسلحة الإشعاعية. أساتذة الفيزياء والسياسيون الواعون للحركة العلمية العالمية يعرفون تماما قيمة هذا الجهاز الاستراتيجية.
3- (لو) كانت إيران ضعيفة، لأتى الرئيس الإيراني إلى لبنان في زيارة أرنبية (من سلوك الأرنب) متسمة ببعض المراسيم وحفلات الطعام البروتوكولية والفذلكات الخطابية. وإذا كان له أن يزور جنوب لبنان لفعل ذلك مثل الخروف الوديع الذي يبحث عن عشب يتلهى به. أخذت زيارته لجنوب لبنان بعدا شعبيا، واستقبلته الجماهير التي تشعر بوحدتها معه وجدانيا وسياسيا، وامتازت بخطاب غير تقليدي موجه ضد إسرائيل التي اكتفت بإطلاق النفوخات (البلونات) الخاوية.
هناك من لام الرئيس الإيراني أو انتقده بسبب ما وُصف بتجاوز السيادة اللبنانية والخروج عن أصول زيارات رؤساء الدول. من الناحية الاستراتيجية، هذا لوم أو انتقاد لا قيمة له لأن الزيارة عبر عن جزء لا يتجزأ من الجدل التاريخي الذي لا يمكن أن يتنحى لصالح مراسيم موسيقية وحرس شرف. ذلك عدا عن أن الحديث عن السيادة لا معنى له في ظل أوضاع عربية متدهورة تفتقر إلى حرية الإنسان وسيادة الدول.
استياء أنظمة عربية
استاءت أنظمة عربية عدة من زيارة الرئيس الإيراني، واستاء معها من يدور في فلكها من الناس، ووجهت وسائل الإعلام قذائفها الإعلامية على إيران ورئيسها، ولم يبخل كتاب عرب بانتقاد الزيارة وتصوير ما رأوا أنه بشاعة وهجمة شيعية على أهل السنة. هذا أيضا لا قيمة له من ناحية الصراع الاستراتيجي لأن أغلب الأنظمة العربية معلقة بذيل القوى الغربية المتنفذة تقليديا. توجه الزيارة رسائل لأهل الغرب وليس لأنظمة عربية لا تستطيع الاستمرار دون الدعم الأمني والعسكري والاقتصادي والمالي الإسرائيلي والأمريكي. وإذا قررت أمريكا غدا التعاطي مع إيران والجلوس معها على طاولة التفاهم بشان المنطقة فإن هذه الأنظمة العربية لن تكون إلا مجرد جوقة لتبجيل الأمريكي.
أمام الأنظمة العربية أن تدرس الزيارة وأن تقرر فيما إذا كانت تريد السير بركب التغيير، أو المساعدة في كبح الجماح والمحافظة على الوضع القائم. إذا قررت السير في ركب التغيير فإنها تحكم على نفسها بالإعدام لأنها تمثل الماضي ولا علاقة لها بالمستقبل، وإن أرادت أن تبقى ذيلا فعليها أن تستمر في استنزاف الطاقات العربية لصالح القوى الأجنبية مما يعزز قدرة إيران على استقطاب الجماهير العربية. وكيفما كان خيارها فإنها خاسرة، وهذا هو شأن كل من لا يملك إرادة حرة.
الفتنة
حيث أن قوى التغيير في المنطقة العربية الإسلامية ضاغطة، فإن قوى المحافظة على الوضع القائم تعمل جاهدة على وقف عجلة التاريخ. هذا واضح في محاولات صناعة فتنة مذهبية بين السنة والشيعة من قبل أمريكا وإسرائيل وأنظمة عربية وبعض رجال الدين من شيعة وسنة. الفتنة مهمة جدا من الناحية التكتيكية لأنها لا توقف عجلة التاريخ فقط، وإنما تعيد العجلة إلى الوراء قرونا عديدة. على المسلمين سنة وشيعة أن يعودوا إلى معارك الجمل وصفين وكربلاء لتصفية حساباتهم الداخلية، وبذلك يتخلفون بالمزيد عن المستويات الحضارية التي وصلها العالم الآن على كافة المستويات. طبعا الأنظمة العربية لا تنتمي للحاضر، وهناك من المسلمين سنة وشيعة من ما زال يعيش في لجج التاريخ، ويرى أن التقدم لا يتأتى إلا بالسير إلى الخلف.
اللجوء إلى فكرة الفتنة المذهبية يشكل خطرا على جمهور الناس، لكن قيادات التغيير سواء على المستوى الإيراني أو العربي واعية تماما لهذه المسألة وتحاول دائما تجنب الصدام الفتنوي لما فيه من مخاطر كبيرة على الأمة، ومن فائدة ضخمة لإسرائيل وأمريكا. فضلا عن أن الفتنة لا تنفع إلا في حالات غياب الوعي، وظاهر أن المنطقة قد تجاوزت هذا الغياب، وأن الوعي هو المحرك الأساسي لقوى التغيير.
نزيف الدم
هناك من يحاول أن يكون "عقلانيا" في تحليله فيقول إن الدم الفلسطيني ما كان لينزف لولا المقاومة الفلسطينية، وإن الدم العراقي ما كان لينزف لولا المقاومة العراقية. ويضيف بأن إيران تقود المنطقة إلى حالة عدم الاستقرار الدموي. المعنى أن محاولات التغيير مكلفة جدا، ومن الأفضل القبول بالواقع كما هو، مع محاولات إقناع الأقوياء بحقوق الضعفاء. هذا هو جدل التابعين للقوى المسيطرة والمستفيدة عادة من الناحيتين المادية والمعنوية.
هذا جدل ساقط تاريخيا لأن القوي لا يمارس الظلم من أجل إقامة العدل، وعصا الظالم لا يكسرها استجداء. من الصعب على عاقل أن يجيز إراقة الدماء، لكن عجلة التاريخ لا بد أن تستكمل سيرها. وإذا كان هناك من يحزن على دم يسيل، فعليه أن يحزن أيضا على أمة تعيش خنوع الذليل.