بقلم : د.خالد الحروب ... 01.11.2010
لمعالجة مسألة "الاستقلال الوطني والقومي" يفرد "المشروع النهضوي العربي" فصلًا مستقلاً يورد فيه فرضيات عديدة تُساق وكأنها مسلَّمات لا جدال فيها، يتم بناءً عليها تطوير مقولات ومفاهيم واستنتاجات عديدة غير عملية وغير علمية. ومن هذه الفرضيات، التي تقوم على توق نضالي أكثر منها على تحليل موضوعي، المقولة التالية: "وللوطن العربي اليوم خصوصية يتعذر في إطارها إحداث فصل كامل بين البعد الوطني والبعد القومي لقضيتي الاستقلال والأمن"، وهي مقولة تنطوي على إطلاقية وتعميم غير موضوعي وربط قسري من دون استثناءات بما يجعلها عرضة للتفنيد والتفكيك السهلين. فمثلاً لسائل أن يتساءل: كيف يمكن ربط استقلال وأمن دولة مثل البحرين بالنزاع والصراع على الصحراء الغربية بين المغرب والبوليساريو؟ وكيف يمكن ربط استقلال وأمن الجزائر بالصراع بين الصومال وأثيوبيا؟ وكيف سيؤثر الاحتلال الإسباني لسبتة ومليلة على استقلال وأمن قطر؟ ليس هناك من جوامع بين هذه القضايا وأمن واستقلال كل بلد من البلدان العربية على حدة. ومن المشروع بطبيعة الحال افتراض وجود تأييد ومساندة "أخوية"، ولكن هذا الافتراض ليس شرطاً من شروط الأمن والاستقلال لدى الطرف المساند. والتأييد والمساندة يأتيان، من ناحية عملية وفعلية، في سياق النشاط السياسي والدبلوماسي الذي تقوم به الدولة صاحبة القضية المعنية لحشد التأييد لمواقفها في المحافل الدولية والقانونية، سواء من منطلق التضامن أو منطلق المصالح المشتركة والمقايضة السياسية.
ثم هناك أيضاً تكرار ما "ينبغي" وما "يجب" عمله واعتماده ومنه الربط القسري بين الأمن والاستقلال الوطني و"القومي"، ثم الدعوة إلى "صوغ استراتيجية عمل شاملة" تتناول الاستقلال والأمن، حيث يتم التوكيد على "الحاجة إلى هذه الاستراتيجية في ضوء الخبرة التاريخية التي أثبتت أنه كلما أخفق الوطن العربي في صناعة أمنه القومي وحماية استقلال إرادته وقراره، أخفق في صون أمنه وحماية أراضيه من الأطماع الأجنبية...". والسؤال البديهي هنا هو: ما هي عناصر هذه الاستراتيجية المأمولة أو على الأقل خطوطها العريضة، ولماذا لا يضعها المشروع النهضوي العربي في النص المنشور، وإلى من يحيل مسؤولية صوغها؟ إن كان ثمة ما تفترض إمكانية إضافته من قبل هذا المشروع لفكرة "الأمن القومي" فهو يكمن بالضبط في تفصيل الإجابة عن سؤال "كيف نحقق ذلك الأمن؟"، وليس فقط بالاندراج في العادة الشعاراتية التي تكرر "يجب أن" و"ينبغي على" التي تلتهم الخطاب السياسي والفكري العربي طولًا وعرضاً. فما من مقاربة، صحفية أو سجالية، تناقش الأمن العربي إلا و"يطالب" أصحابها بـ"استراتيجية أمنية عربية مشتركة". والتميز الذي تقدمه الأحزاب والمشروعات الكبرى يكمن، افتراضاً، في أنها تفصّل في الإجابة، أي تتعامل مع سؤال "كيف"، ولا تتوقف عند تكرار ما يكرره الآخرون صباح مساء من "يجبات" و"ينبغيات".
ويتكثف استخدام هذه "اليجبات" والينبغيات" عند الحديث عن "استراتيجية الاستقلال الوطني والقومي"، التي تُدرج في نطاقها الرغبة في تحقيق خمسة أهداف هي: تحرير الأرض من الاحتلال، ومواجهة المشروع الصهيوني، وتصفية القواعد العسكرية الأجنبية، ومقاومة الهيمنة الأجنبية، وبناء القدرة الاستراتيجية الذاتية. وهنا تقفز قضية مواجهة المشروع الصهيوني إلى المقدمة وفيها أكثر من مسألة. الأولى متعلقة بالوضع الراهن وتوقعات استمراره وموقف المشروع النهضوي منه، وعلى وجه التحديد قضية "الحل" لقضية فلسطين هل هي التحرير الكامل من البحر إلى النهر، أم قبول حل الدولتين، أم ماذا؟ لا يفصح المشروع النهضوي عن موقفه من هذه القضية مفضلاً الغموض العام على الوضوح الخاص. ولكن على رغم ذلك من الجلي أن المشروع يقطع مع "الموقف العربي الجماعي" ممثلًا بالجامعة العربية والمبادرة العربية للسلام التي تقوم على مبدأ حل الدولتين، وهو ذات الموقف الذي تحوم حوله الأطراف الفلسطينية المسالم منها والمقاوم بهذه الدرجة أو تلك. وهذا كله كما نعلم في ظل إعلان عربي يتم التوكيد عليه مراراً وتكراراً من أن السلام هو خيار العرب الاستراتيجي، وأن خيار الحرب ليس مطروحاً، الأمر الذي تؤكده القدرات العربية العسكرية المتواضعة الآن وفي المدى المنظور والمتوسط على أقل تقدير. وفي ضوء ذلك كله ماذا يقصد المشروع النهضوي العربي بالضبط عندما يقول "مواجهة المشروع الصهيوني"، والأهم من ذلك ما هي الرؤية القومية لمسألة الصراع من أساسه. هل هي حل الدولتين، أم حل الدولة الواحدة، أم طرد اليهود من فلسطين وتحريرها عسكريّاً؟ ذلك كله يبقى في دائرة الغموض ولا نستطيع إدراكه في النص النهضوي.
وإضافة إلى ذلك فإن النقاط التي يوردها النص تحت بند "مواجهة المشروع الصهيوني" تنتمي في مجملها إلى الشعاراتية والتعبوية، ولا تقدم بدائل ملموسة حقيقية يمكن تطبيقها وهو فعلًا أمر مؤسف. فعدا عن الدعوة إلى تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني (وهي عموماً نقطة ظرفية مدفوعة بانقسام "فتح" و"حماس" الراهن ولا تعكس رؤية معمقة)، هناك أربع نقاط تقع كلها في خانة التمنِّيات. وهذه النقاط تشمل "التشديد على إفلاس نهج التسوية مع إسرائيل"، و"التمسك العربي بالثوابت القومية في عدم التفريط بأي حق من حقوق الأمة العربية في فلسطين"، و"الضغط من أجل تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك"، و"أن يؤخذ بعين الاعتبار في رسم السياسات الخارجية العربية تجاه القوى الدولية والإقليمية موقفها من الصراع العربي- الصهيوني ومن الحقوق الوطنية الفلسطينية".
ومعيار اختبار عملية وموضوعية كل نقطة من هذه النقاط هو، مرة أخرى، سؤال "كيف" يتم تحقيق ذلك عمليّاً وسياسيّاً على الأرض ومن قبل الدول والحكومات العربية؟ وفي الواقع فإن سؤال الـ"الكيف" يظل يتيماً إزاء كل هذه المطالبات، وما لم ينته تيتُّمُه هذا بإيجاد إجابات معقولة فإننا نبقى أمام نص مثالي صلته بالواقع هشة وضعيفة!!