بقلم : سهيل كيوان ... 04.11.2010
تسود الحلقة السائدة في دولة إسرائيل حالة من الارتباك، ليس بسبب اتخاذ أو عدم اتخاذ قرار بضرب إيران وما قد يُسفر عنه، ولا هي حيرة بين تجميد الاستيطان أو تسخينه، ولا بسبب موقف اليونيسكو من قبور آبائنا وآبائهم!
ولا بسبب تردي العلاقات مع تركيا وتحوّلها إلى خصم مبين، ولا هي بسبب عدم نشوب حرب أهلية لبنانية حتى الآن كما هو مأمول، ولا هو القلق خشية اعتقال بعض القيادات أثناء سفرهم خارج البلاد بتهم ارتكاب جرائم حرب، ولا حتى من إمكانية أن تأخذ الجامعة العربية نفسها على محمل الجد فتكشر عن أنيابها ولو مرة كل عشر سنوات.
ما يشغل قادة اسرائيل حقيقة هم مواطنوها العرب الفلسطينيون الذين يحملون جنسيتها رغما عنها وعنهم، وبمعنى أدق، هؤلاء الذين لم تلحقهم الدولة الفتية بإخوانهم عبر الحدود الى المخيمات لأسباب أهمها أن هؤلاء كانوا ضمن حدود الدولة العربية المفترضة حسب قرار التقسيم عام 1947 ثم الاعتقاد السائد في تلك الأيام بأن هناك من يُحاسب على جرائم الحرب عالمياً وإقليمياً وأن هناك أهمية قصوى لصورة الدولة الجديدة في نظر الأمم، ولكن هناك من يعتقد هذه الأيام بإمكانية إصلاح الخطأ وإتمام عملية تطهير الدولة عرقياً، ليس لأن العرب رجس من عمل الشيطان لا سمح الله، ولكن ببساطة لأن 'أرض اسرائيل' هي ملك لشعب إسرائيل، والأغيار من العرب لهم احترامهم وتقديرهم ولكن مكانهم هو شرقي النهر فقط، وعليهم التصرف بأدب، كما يليق بضيف يحترم نفسه، حتى يحين موعد إخلائهم!
عاش آباؤنا بعد تسونامي النكبة في ظل حكم عسكري مغلّظ لمدة سبعة عشر عاماً، قضوا معظمها عاطلين عن العمل، فنقابة العمال (الهستدروت) كانت ترسل مندوبيها إلى ورشات العمل بحثا عن العمال العرب المتسللين لسلّ لقمة عيش لأبنائهم وتفرض على أصحاب العمل اليهود طردهم فوراً واستيعاب العامل العبري مكانهم والمخالف يعاقب!
آباؤنا المُعطّلون استغلوا البطالة وانشغلوا بأمهاتنا فألبسونا ثوب العيش والمواطنة دون استشارتنا، وهذا ما جنوه علينا وجنيناه بدورنا على أبنائنا، وأقسم بالله أن أحداً لم يقصد الإساءة لديموغرافية الدولة، وكل ما حدث كان بنيّة سليمة ونوع من المتعة المدفوعة بغريزة البقاء!
ولكنها حكمة لم ندركها أوضحها الحاخام عوباديا يوسف وهو أن الله خلق الأغيار لخدمة شعبه المختار، وإذا كنا مصرّين على البقاء في 'أرض إسرائيل' فعلينا أن لا نطمع بأكثر من خدمة شعب الكتاب،وكما أوضح حاكم عسكري سابق، أن نكون حطابين وسقاة ماء! أما بن غوريون فقد كان أكثر وضوحاً عندما حدد موقعنا بدقة كما يراه 'عبيد في السلام وأسرى في الحرب'!
سبب الارتباك هو التناقض بين ما يريدون استعراضه أمام العالم وبين ما يفكرون بتنفيذه ويمارسونه! هم يريدون الظهور إلى العالم بمظهر حضاري وإنساني وفي الوقت ذاته يريدون مضايقة هذه الأقلية حتى 'يطلعوها عن دينها'! قبل أيام سمحوا للفاشيين أن يقفوا على مدخل أم الفحم ويهتفوا 'الموت للعرب' ويطالبوا أهلها بترك بيوتهم والرحيل لأنهم غزاة ومحتلون ثم قامت الشرطة بالمهمة وعاقبت أهل أم الفحم لأنهم أظهروا نوعاً من المقاومة! ولكن ماذا لو قام مئات من العرب بالوقوف على مدخل مدينة يهودية وصاحوا باسم حرية التعبير 'نعم للسلام لا للحرب، وأخوة عربية يهودية..' لتدخلت الشرطة وقمعتهم بتهمة استفزاز المارّة.
هم يريدون من المستوطنين ان يستمروا في الاستيطان ونهب الأرض وإحراق المحاصيل وسرقتها وتجحيم حياة الفلسطيني (يعني جعلها جحيماً)! وفي الوقت ذاته يريدون أن يظهروا كمحافظين على المعايير الإنسانية وعشاق للسلام فينبري نائب وزير الدفاع ويستنكر أعمال المستوطنين غير المسؤولة أو غير الحضارية وحتى الإجرامية، ولكن المستوطنين يبتسمون ويستمرون بمهامهم بلا رادع بل وبدعم من الجيش رغم تصريحات نائب وزير الدفاع.
في مدينة صفد يعلن الراب الرئيسي فيها أن تأجير البيوت للعرب حرام ويعلن من هو أكبر منه الحاخام عوفاديا يوسف أن بيع البيوت أو تأجيرها للعرب حرام ومن يفعل ذلك فقد تنزل عليه لعنة مولانا تبارك اسمه، ولهذا فقد قام شبان يهود برجم مساكن الطلاب العرب وحتى إطلاق الرصاص على طالبي 'العلم نورٌ'!
ولكن في الوقت ذاته تدعو إدارات الكليات بما في ذلك صفد الطلاب العرب للتعلم فيها لأنهم يشكلون موردا اقتصاديا هاماً للكلية وللسكان وللمرافق الأخرى في المدينة! وبما أن الرجم والرصاص على بيوت طلبة العلم هو أمر غير ديمقراطي بل يقول البعض إنه عمل حقير فقد استنكره رئيس البلدية ولكنه اتهم الطلاب العرب بأنهم سبب عنصرية العنصريين! لأنهم لا يحترمون السبت في مدينة معظم سكانها من المتدينين! الشرطة اعتقلت اثنين من مطلقي الرصاص والحجارة للتحقيق ولكنها تترك لرجال الدين حرية سن الفتاوى المحرّضة على العدوان والعنصرية بل أن من يؤجر بيته لعرب يتعرض للتهديد حتى لو كان محارباً قديماً من وحدة مختارة في الجيش الإسرائيلي,
حالة الارتباك والتناقض في الكنيست أيضا،فهم يريدون عربا فيها كاستعراض ديمقراطي للعالم ولعرب الجوار ويمنحون نائبا عربيا لقب (نائب رئيس الكنيست) وقد يتبادلون معه النكات على منصة الكنيست! ولكن عندما يأخذ النواب العرب دورهم على محمل الجد ويفضحون الممارسات العنصرية والفاشية يتحولون الى أعداء وخونة والعدو ممكن سحب جنسيته!
في مدينة كرمئيل التي اقيمت في الستينيات من القرن الماضي في الجليل وسط محيط عربي وعلى أرض العرب أقاموا مؤخراً دوريات لمضايقة العرب لمنع سكنهم أو حتى تجولهم فيها، ولكن التجار يريدون دخول العرب للتسوق ويخصّونهم بالإعلانات ويشغلون في محالهم عربا وعربيات لجذب المستهلك العربي، إذا فهم يريدون العربي في المدينة حتى ساعة معينة بالضبط وفي خط سير وتحرك واضح ومحدد، وكأنما هو إعلان غير معلن بأن الدخول الى المدينة مسموح للعرب من السادسة صباحا حتى الحادية عشرة ليلا للتسوق أو للعمل فقط ثم يعود الى بلدته لينام فيها!
قبل أيام معدودة تم إحياء ذكرى مجزرة كفر قاسم التي ارتكبها حرس الحدود في أواخر تشرين الاول/أكتوبر بالتزامن مع العدوان الثلاثي على مصر عام ستة وخمسين، كان هدف المجزرة الواضح هو استغلال حالة الحرب وتهجير ما تبقى من العرب في منطقة المثلث المتاخمة للضفة الغربية من خلال الترويع، لم تنجح الخطة رغم هول المجزرة التي عوقب المسؤول عنها بغرامة قدرها قرش واحد! ولهذا فإن المضايقات القانونية بما يتعلق بالولاء ويهودية الدولة والفتاوى الحقيرة في مجال السكن وسد نوافذ الأمل هي وسيلة من وسائل إرهاب الدولة لحث العرب على ترك موطنهم ولكن الى جانب مواصلة الظهور كدولة مستنيرة في محيط من الظلام العربي والإسلامي وهذا مصدر الارتباك! فهل ينجح هذا! اسمحوا لي شخصياً أن أتفاءل وأقول إن ما فشل عام 1956 لن ينجح الآن لأسباب كثيرة أهمها أن رغبة الحياة ستكون أقوى لدينا ولديهم من رغبة الانتحار.