بقلم : نقولا ناصر* ... 20.11.2010
عشية احياء الذكرى الثانية والعشرين لاعلان "وثيقة الاستقلال"، نشر رئيس دائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية وعضو اللجنة المركزية في حركة فتح، د. صائب عريقات، مقالا باللغة الانكليزية في الرابع عشر من الشهر الجاري تضمن مغالطتين احداهما تاريخية والثانية استراتيجية، وساق كلتيهما من أجل تسويغ الاستمرار في الرهان على الولايات المتحدة الأميركية واستمرار ارتهان القرار الفلسطيني لاملاءاتها.
وقد استهل عريقات مقاله بالمغالطة التاريخية، فكتب قائلا إن وثيقة الاستقلال في الجزائر عام 1988 مثلت قبول "الشعب الفلسطيني بتسوية حل وسط تاريخية من أجل السلام حيث حدد طموحه الوطني باقامة دولة فلسطينية فوق 22 في المائة من فلسطين التاريخية، معترفا بذلك ضمنا باسرائيل فوق ال 78 في المائة الباقية".
ومن يراجع نص وثيقة إعلان الاستقلال لا يجد فيها أي نص على هذه النسب المئوية، بل يجد نصا على "حق تقرير المصير" للشعب الفلسطيني بالاشارة إلى "قرار الجمعية العامة (للأمم المتحدة) رقم 181 عام 1947 م "مع النص على أن "هذه القرار ما زال يوفر شروطا للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني"، مما يتناقض تماما مع النسب المئوية التي أشار عريقات إليها ويتناقض مع "حل الدولتين" على أساس هذه النسب الذي يسميه هو والفريق المفاوض لمنظمة التحرير ب"المشروع الوطني" للمنظمة، دون أي نص أو إشارة إلى أي قرار آخر للأمم المتحدة.
أما "الاعتراف الضمني" بدولة المشروع الصهيوني في فلسطين الذي أشار عريقات إليه فهو تفسير يقدمه مفاوض المنظمة يؤكد مجددا أن هذا المفاوض كان وما زال يتحدث بلسانين واحد لشعبه مبهم وحمال أوجه ولسان آخر يخاطب به "شركاءه" في "عملية السلام" بلغة صريحة لا مجال فيها لأي ابهام مثل المقدمة التي استهل عريقات مقاله بها.
وفي هذا السياق يتساءل المراقب عما إذا كان المجلس الوطني لمنظمة التحرير في الجزائر عام 1988 سيوافق على وثيقة الاستقلال لو أنها كانت باللغة التي استهل بها عريقات مقاله، ثم يتساءل لماذا يتجاهل مفاوض المنظمة حقيقة أن اعلان الجزائر لم يكن الأول بل كان الثاني بعد إعلان "حكومة عموم فلسطين" للاستقلال في مؤتمر وطني بغزة في تشرين الأول / اكتوبر عام 1948.
وكان لا بد لعريقات من تقديم هذه المغالطة التاريخية كأساس يبني عليه مغالطته الاستراتيجية من أجل تسويغ الاستمرار في الرهان على الولايات المتحدة كاستراتيجية تفاوضية للمنظمة، إذ بالرغم من أن التجربة التاريخية منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 ومنذ "النكسة" عام 1967، لكن بخاصة طوال "عملية السلام" على مدار التسعة عشر عاما الماضية - - التي استعرض عريقات في مقاله نتائجها العكسية المحبطة لفريقه المفاوض التي "تدفعنا بعيدا عن طاولة التفاوض" - - فإن "الفلسطينيين سوف يعطون لإدارة (الرئيس الأميركي باراك) أوباما مزيدا من الوقت لاقناع اسرائيل بتجميد المستوطنات"، كما كتب.
وتكمن مغالطته الاستراتيجية في التناقض بين المقدمات التي يطرحها لتدفعه بعيدا عن طاولة التفاوض وبين النتيجة التي يستخلصها من هذه المقدمات للاستمرار في الرهان على الادارة الأميركية، في تناقض صارخ مع أي حسابات سياسية منطقية مبنية على حقائق التجربة التاريخية التي تقتضي إسقاط الرهان على واشنطن مرة واحدة دون تردد أو مراوغة.
فالولايات المتحدة التي فشلت طوال أكثر من ستين عاما في اثبات صدقيتها كوسيط نزيه عادل غير منحاز في الصراع العربي الاسرائيلي لا تظهر حتى تلميحات إلى أدنى احتمال بأنها يمكن أن تتغير خلال "مزيد من الوقت" لأيام أو أشهر يمنحه مفاوض منظمة التحرير لإدارتها الحاكمة، ويدرك هذا المفاوض هذه الحقيقة ربما أكثر من غيره، لذلك فإن إصراره على منحها فرصة جديدة إنما هو دليل دامغ على فشله وعلى أنه لا يملك أي خيارات غير الاستمرار في الارتهان لها، بالرغم من تكراره الاعلان عن امتلاكه لخيارات وبدائل أخرى.
والخيارات البديلة لمفاوض منظمة التحرير، كما أعلنها، هي بدورها مرتهنة للقرار الأميركي في نهاية المطاف، وأول هذه الخيارات، كما كتب عريقات، هي "طلب اعتراف أميركي بدولة فلسطينية على حدود 1967"، بالرغم من الاعلان الأميركي المتكرر بأن اي دويلة كهذه يجب أن تولد في حضن التفاوض الثنائي المباشر مع دولة الاحتلال وبأن حدودها يجب أن يتم الاتفاق عليها بالتفاوض باعتبارها من قضايا الوضع النهائي "المتنازع عليها"، وثاني الخيارات هو التقدم بطلب الحصول على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة وهذا المسعى بدوره محكوم ب"الفيتو" (حق النقض) الأميركي في مجلس الأمن الدولي وبموقف واشنطن المعلن بمعارضة أي أي اجراء "من جانب واحد" كهذا.
والمغالطة المفجعة تتمثل في استمرار تجاهل مفاوض المنظمة للحقائق الدامغة، فعريقات على سبيال ما زال يفترض احتمال نجاح الخيارين السابقين، واحتمال أن تستجيب واشنطن لهما، إذ كتب يقول إنه "إذا" لم ينجح الخيارين، و"إذا" كان الجواب الأميركي عليهما سلبيا، فإن "القيادة الفلسطينية سوف تكون عند مفترق طرق".
إن تشكيك عريقات في الفشل شبه المؤكد للخيارين وفي السلبية المحتومة للرد الأميركي عليهما لا يعدو كونه مكابرة تغلب التمني على الواقع والوهم على الحقيقة بهدف تأجيل الخيار الوطني الوحيد المجدي المتبقي المتمثل بتحقيق المصالحة الوطنية وانجاز الوحدة الوطنية على أساس مقاومة الاحتلال الذي يعتبر استراتيجية انتظار الوهم هذه خير رصيد له للاستمرار في التغول على الأرض والانسان الفلسطيني.
فقد كانت القيادة الفلسطينية عند "مفترق طرق" منذ اندلاع انتفاضة الأقصى عام ألفين وتأكدت هذه الحقيقة بعد أربع سنوات بالتصفية الجسدية للراحل ياسر عرفات الذي دفع حياته ثمنا لادراكه لهذه الحقيقة، وقد كان التعامي عن هذه الحقيقة طوال السنوات العشر الماضية هدرا لوقت ثمين من تاريخ القضية الوطنية كان ثمنه باهظا.
والقرار الأميركي بدوره ما زال مرتهنا لقرار دولة الاحتلال الاسرائيلي كما أثبتت تجربة عامين تقريبا من ولاية الرئيس أوباما. لقد كان التقرير المعنون "اللوبي الاسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية" الذي اصدر الاستاذان بجامعة شيكاغو جون مير شايمر وجامعة هارفارد ستيفان والت أخر مثال على اتساع الوعي في الولايات المتحدة بأن هذا اللوبي هو "اسرائيلي" وليس يهوديا أو صهيونيا فحسب.
وقد خاض رئيسان أميركيان شهيران معركة لمنع ارتهان القرار الأميركي لهذا اللوبي هما دوايت أيزنهاور في خمسينيات القرن العشرين الماضي وجون كنيدي في العقد التالي من القرن نفسه، ومن الواضح اليوم أن هذه المعركة قد حسمت لغير صالح الولايات المتحدة. وقد كان "التوتر بين ادارة (أيزنهاور) وبين أنصار اسرائيل حادا إلى درجة راجت شائعات بأن ادارته كانت ستفتح تحقيقا حول المجلس الصهيوني الأميركي"، كما كتب ستيفن إل. شبيغل استاذ العلوم السياسية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس، وقد نجح انتصار اللوبي الاسرائيلي اليوم في دحض ذلك باعتباره شائعات لا أساس لها. وعندما أمر الرئيس كنيدي في ستينات القرن الماضي المجلس الصهيوني الأميركي بالتسجيل كوكيل لاسرائيل طبقا لقانون تسجيل الوكلاء الأجانب بعد أن أكد تحقيق أجراه مجلس الشيوخ في الكونغرس بأن المجلس كانت تموله الحكومة الاسرائيلية، غيرت "اللجنة الأميركية الصهيونية للشؤون العامة" اسمها إلى "اللجنة الأميركية الاسرائيلية للشؤون العامة" المعروفة اليوم اختصارا باسم "ايباك".
ومع أن الدعوى القضائية التي رفعت ضد اثنين من كبار مسؤولي "ايباك" بتهمة التجسس قد اسقطت العام الماضي، فإن الدعوى المدنية التي رفعها أحد المتهمين، وهو ستيف روزين، ضد ايباك مطالبا بتعويض عن "التشهير" به قدره عشرين مليون دولار قد كشفت تبادل اتهامات بفضائح "اباحية" موثقة في أوراق الدعوى توضح الوسائل غير الأخلاقية التي يمكن لأعضاء اللوبي الاسرائيلي ممارستها ضد خصومهم طالما لم يجدوا أي حرج في استخدامها ضد بعضهم البعض، لكنها تكشف الأهم من ذلك، وهو الصلات الوثيقة التي تربط بين ايباك وبين حكومة دولة الاحتلال الاسرائيلي. فقد ذهب روزين إلى نائب السفير الاسرائيلي في واشنطن ليحذره بأن مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي "إف بي آي" قد عرف بنقل ايباك لمعلومات سرية أميركية إلى الاسرائيليين، وقد كتب موظف ايباك السابق وكاتب العمود "الليبرالي" أم. جيه. روزنبيرغ معلقا على ذلك بقوله، على ذمة الأسبوعية الأميركية اليهودية "فورورد" في السادس عشر من الشهر الجاري، إن "ذلك سيعني أن ايباك ليست منظمة ضغط أميركية على الاطلاق، بل هي شيء مختلف جدا، جدا".
ولمن ما زال يراهن من مفاوضي منظمة التحرير على تحرير القرار الأميركي من الارتهان لقرار دولة الاحتلال قبل العودة إلى استراتيجية التحرير بعد أن تخلى المفاوض عنها بانتظار ذلك ربما يجدر تذكيره بجورج بوش "الجد".
ففي سنة 1844 نشر استاذ اللغة العبرية بجامعة نيويورك آنذاك جورج بوش، جد الرئيسين الأميركيين لاحقا بوش الأب والابن، كتابا عنوانه "وادي الرؤية، أو، احياء العظام الجافة لاسرائيل" باع حوالي مليون نسخة دعا فيه إلى "إعادة خلق الدولة اليهودية في أرض اسرائيل من أجل خلق صلة بين الانسانية وبين الله"، لكي يضغط "المسيحيون الصهاينة" في تسعينيات القرن التاسع عشر على الرئيس الأميركي آنذاك بنجامين هاريسون كي يضغط بدوره على السلطان العثماني في حينه من أجل تسليم فلسطين إلى اليهود قبل زمن طويل من "وعد بلفور" البريطاني أوائل القرن التالي.
إن للسيطرة الصهيونية على القرار الأميركي جذور عميقة تجعل تحرير فلسطين طريقا أسهل لتحرير القرار الأميركي من هذه السيطرة، وليس العكس.