بقلم : د. فايز أبو شمالة ... 01.12.2010
ما ظلَّ مني ليس عمري، ما ظلَّ مني فائضُ الزمنِ الذي اجتاز الهلاك، قد صار يومي جامداً متجعداً، قد شاب شعري في هواك، يا موطني، قد صارت الأيام حولي حائطاً، وأنا أجدُّ السيرَ، أسعى لرضاك، لا أطلب الدنيا، ولا أرجو المباهج، إنما قدمي تدق الصمت، ترقب رقصة الفجرَ الذي صار مداك.
يا موطني، أديت كل فرائض التسبيح في محرابك الصخري، واستوت الحياة على شجيرات الكرامة، ما تساقط غيرُ ثمرِ في رُباكْ، يا موطني ما زلت أسجدُ، ثم أسجدُ، تستوي في كل يومٍ قامتي، يتصبب الشوق، فأركع، ثم أسجد طائعاً من كل قلبي، كارهاً من صاغ نصراً لا يوازي قطرة الشهد التي سالت على خدٍ رجاك.
يا موطني، هذا أنا أمشي على الأرض التي صارت لغيري، ليس لي قد صار شأني، بينما روحي جروحي نبتت كالتين كالزيتون بعضاً من ثراك.
يا موطني، هذا أنا، اسمي كريم يونس، أسير عربي فلسطيني من قرية "عاره" في شمال فلسطين ـ التي صارت إسرائيل ـ ورد اسمي في يوم الأثنين20/5/ 1985 ضمن كشف الأسماء التي سيفرج عنها في صفقة تبادل الأسرى، وبالفعل لقد خرجت من الغرفة المظلمة، وسلمت ملابس السجن وحاجاته، وارتديت ملابس المفرج عنهم، وركبت الحافلة الإسرائيلية التي أقلتني مع الأسرى المحررين إلى المطار، وركبت الطائرة الإسرائيلية التي ستنقلني مع الأسرى المحررين إلى خارج البلاد، وسمعت دوى محرك الطائرة استعدادا ًللإقلاع، وأقلع قلبي من ضلوعي فرحاً.
وفجأة، قبل أن تتحرك الطائرة، تقدم مني ضابط إسرائيلي، أنزلني من الطائرة، أعاد القيود إلى معصمي، وأعادني إلى السجن مع ثمانية عشر أسيراً نجح الإسرائيليون في مناورة اللحظة الأخيرة في استثنائنا من قائمة المحررين سنة 1985!!!
اليوم وبعد أكثر من خمس وعشرين سنة ما زلت في السجن، لا تفارقني الذاكرة، عشرات ألاف الأسرى الفلسطينيين والعرب جاءوا وغادروا السجون الإسرائيلية، وأنا أتنقل بين الزنازين، معذباً بالرفض الإسرائيلي لإطلاق سراحي وأمثالي بحجة أننا مواطنين دولة إسرائيل، وحتى هذه اللحظة من الزمن العربي، ما زلت، وما زال الأسرى علي المسلماني، وعلاء البازيان، ومخلص برغال، وحافظ قندس، ونائل البرغوثي، ويحيى السنوار، وحسن سلامة، وعبد الهادي غنيم، ما زلنا نطلي قضبان صمودنا خلف الأسوار بطلاء الصبر، ونمسح عرق الزنازين بمنديل الكرامة، ونداوي صدأ أقفال الحرية بمفتاح الأمل، وننادي بأعلى الصوت: أين أنتم يا عرب، أين أنتم يا أمة لا إله إلا الله؟
هل صرتم هباءً منثوراً، وامتلأت أجسادكم دمامل وبثوراً؟ أما زالت تتخطفكم من زمانكم العقبان والغربان؟ يا عرب، أين أنتم؟ هل انطفأت نخوتكم، وتجمدت شهامتكم، وتساقطت أوراق عزتكم، وغربت إلى الأبد شمسكم!؟
إن كنتم كذلك، فاتركوا الرجال يرتبون صفقة تبادل الأسرى مع الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط، فهذا أملنا الوحيد للحياة.