بقلم : رشا حلوة ... 27.5.07
رهبة السائرين على طريق له عودة قريبة، أمواج الأعلام التي تعشق التأمل فيها حتى لو كانت معلقة على حائط بيتك المؤقت، فكم بالحري لو رأيتها ترقص رقصة الأمل تحت سماء قرية لم تحتضن هذا الكم الجميل من العائدين. جيل بعد جيل يأتي إلى هنا ليمارس فكرة الوطن العائد، ليمشي على تراب لم يشم رائحة الأقدام التي نسيت أحذيتها قبل أقل من ستة عقود بقليل.. أحاديث الأشجار التي بدأت، حين خط الموكب الأول من المتأملين عتبة القرية الأولى، تحرّك الحجارة التلقائي كأغنية مجبولة بالدمع والابتسامات.. هذا المشهد المتكرر عامًا بعد عام، يزداد جمالاً، يجعل الوجع المزمن يتحول شيئًا فشيئًا إلى متعة الأمل المتراكم في الوجوه الجديدة التي تلامس شمس وداع الربيع وانتظار الصيف على هذه الأرض.
نمشي من دون توقف، هتافات لم أعد أذكر منها سوى كلمات زُرعت يومًا في النخاع، أطفال يركضون وتطير من وجوههم ابتسامات لم تأت إلى هذه القرية منذ كانوا يومًا هنا. هذا جدي الذي ذهب بعيدًا قبل فترة أذكرها، يجلس وكوفيته التي لم يأخذها معه تحيط رأسه قليل الشعر وكثير اللمعان، يجلس كما اعتاد أن يجلس حين كان يذهب إلى حبه الأول والأخير قريته (جدتي كانت تعلم بهذا وكانت راضية بحالته/ا)، قريته التي هناك.. في أحد الأمكنة الجليلية التي تلامس فيها البيوت الجبلية مساءً أطرافََ النجوم في سماء حافظت على صفائها رغم تعكير الجو المستمر منذ احتلوا المناخ. لو كان جدي هنا لكان مبتسمًا مثل العديد ممن عاشروا معه أوجاع رسمت لنا مسار حياتنا، واكتسبوا اليوم عمرًا إضافيًا كي يروا جيلاً جديدًا لا يحمل بين طيات روحه وحلمه سوى أحلام كادت أن تموت يومًا، لكنها نهضت من جديد، لتملأ هذه الأرض وهذا المكان احتمال عودة حقيقي، لترسل إلى الشمس عبر أثير الهواء الناجي منهم رسائل تبعثها إلى المنتظرين في كل مكان بالعالم، ولتخبرهم بفرحة القرية اليوم. هذه القرية البعيدة تحتوي على مقبرةٍ حزينة الشكل والعمر، وطاحونة لا تزال تحمي خيالات نساء القرية اللواتي لا يزلن يستخدمنها ويعشقن بها رغم أنهن ذهبوا..
لهذه القرية موسيقى من حروفها، موكب القادمين- اللاجئين في وطنهم يُشكل لها معزوفة عودة بمرافقة خيول سمراء فوقها أعلام الوطن المسبيّ، تنتحل التراب المبعثر وراءها حين تجول الخيول حول السائرين، كأن الخيول استطاعت أن تمتص شوق الأرض لأهلها وتنقلها لهم كيفما تشاء.
تأتي كل عام إلى قرية معطرة بشبق الحنين، تأتي لكي تستذكر رائحة جدتك التي حملتها معها حين رحلّوها عن دميتها وألعابها التي صنعتها مع أطفال جيلها.. يأتي كلٌ منا حاملاً اسم قريته على خشبة ولوحة، والتي تنتظر بأن يأتي دورها في العام المقبل كي تعيش وقع الأقدام الكثيرة والمتزايدة فتُحيى من جديد. لكنك تكشف كل مرة أنك تأتي لترتوي أملاً، وتتأكد أن زغاريد أمهات الشهداء والأسرى تعطيك أملاً، وأن أمنيات أطفال فلسطين أينما كانوا، تغرقك أملاً، وأن العودة تشق طريقها على مهل، كانسياب الأمل فيك.
انتهت المسيرة إلى اللجون، يتدرج السائرون نحو حافلات الرجوع إلى أمكانهم المؤقتة أو الثابتة، لا ينتظرون مسيرة أخرى في العام المقبل، علّ المسيرات تكون مسيرات أعراس فلسطينية، تحوم البلاد جميعها بمواكب العائدين من كل مكان إلى هذا المكان الواحد، فلسطين.
عكا
أيار 2007