بقلم : رشاد أبوشاور ... 15.12.2010
المشاهد التي نقلتها فضائية الجزيرة لانقضاض رجال الأمن على جمهور الوحدات بالهراوات، ومن بعد بقنابل الغاز، ودفعهم باتجاه سور الملعب، وسقوط المئات منهم فوق بعضهم وهم يحاولون النجاة بأنفسهم، ثمّ ما أعلن عن إصابة 250 من مشجعي الوحدات، وتفاعلات الحدث المفجع والصادم..ليست حدثا معزولاً عابرا.
لجنة التحقيق التي أعلن عنها من موظفي وزارة الداخلية ستنطلق في تحقيقاتها أمنيا، وهذا التحقيق سيكون منقوصا، وغير مجد، لأنه سيحمّل جهةً ما وزر ما جرى، وستتم لملمة (الأمور) مشفوعة بخطاب عاطفي عن الأخوّة، والشعب الواحد، وربما التنويه بالمندسين ودعاة التفرقة!
من يريد التوقف جديا عند ما حدث لا بدّ أن يذهب عميقا في جوهر الثقافة السياسية المشوهة التي غرست في نفوس من هتفوا في مباريات إبان مجد الانتفاضة الفلسطينيّة التي كانت تبهر العالم:
هات فت وخذ شراك
تسلم إيدك يا باراك
أي والله هذا الهتاف انطلق ودوّت به حناجر في الملاعب أثناء مباريات الفيصلي والوحدات!
وزيادة على هذا الهتاف لباراك دوّى هتاف منغّم يشيد بشارون:
يا شارون يا شارون
أنت هناك واحنا هون
هل يمكن لأحد أن يتصوّر أن تجأر حناجر مئات الشباب، الذي يفترض أنهم عرب بتحية شارون وباراك..لأنهما يفتكان بالشعب الفلسطيني؟!
لم يتم التوقف جديا عند تلك الهتافات في الملاعب، ومواجهة ذلك الوعي السياسي المشوّه الذي لم ينشأ فجأة، ويتفشّى بين جمهور شّاب، يضم الجامعي، والعامل، والموظّف الحكومي!
الهتافان لم يكونا أبدا رياضيين، تعصبا لفريق الهاتفين المنشدين السعداء بباراك وشارون؟
الحق أن الفيصلي وقيادته كانا يتآخيان مع أندية فلسطينيّة في الضفّة الفلسطينيّة آنئذ، ومؤسسو الفيصلي أبناء (الشونة الجنوبية) هم من بلدة أردنية مجاورة لأريحا الفلسطينيّة، وهم عُرفوا دائما بوطنيتهم وانحيازهم لعروبة فلسطين.
في نادي الفيصلي الأردني عدد من اللاعبين الفلسطينيين، وهم ولاعبو الوحدات يشكلون أبرز لاعبي المنتخب الوطني الأردني.
الوحدات لمن لا يعرف أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وفي الأردن أندية كثيرة تحمل أسماء البلدات والمدن الأردنية، والمخيمات الفلسطينيّة: البقعة، حطين ...
الوعي السياسي المشوّه، يرى في الفلسطيني الخطر عليه وعلى الأردن، وليس الكيان الصهيوني!
عندما يسمع بعض الشباب الذين هتفوا لشارون وباراك بالوطن البديل فإن أذهانهم تذهب إلى الفلسطيني، وهذا بسبب تدني الوعي السياسي، والتجهيل، والتحريض المتعمّد.
لقد ترك جيل من الشباب لهيمنة أفكار سياسية بائسة ترسخ الإقليميّة بالتخويف من الشقيق (الفلسطيني)، وليس من (العدو) الصهيوني...
لم توضع الحقائق أمام الأجيال الطالعة بالخطر الصهيوني وأطماعه في الأردن، وأن (الوطن البديل) هو من صلب المشروع الصهيوني الذي يستهدف الأردن كما استهدف فلسطين، وأن الأردني والفلسطيني معركتهما واحدة في تحرير فلسطين وحماية الأردن.
من الذي يتصدّى للوطن البديل، ويفشل هذا المشروع المستهدف للأردن؟!
إنه الشعب الفلسطيني الصامد على أرضه، بتصديه يوميا للاحتلال والتوسّع، المتشبّث بأرضه من عمق فلسطين في حيفا ويافا والرملة وعكا والناصرة وأم الفحم والطيبة ..إلى جنين وطولكرم ورام الله والخليل ونابلس وبيت لحم ..وحتى النقب المنسي.
من يُفشل مشروع (الوطن البديل) هم الفلسطينيون المتمسكون بحّق العودة، حيثما كانوا، في الوحدات، ومخيمات لبنان وسورية ومخيمات قطاع غزّة والمهاجر البعيدة.
إذا كان الشعب الفلسطيني هو السّد في وجه التوسع الصهيوني والتمدد شرقا إلى الأردن، فكيف يوجد شباب يهتفون لقتلة أخوتهم في فلسطين، ولا تدرس الظاهرة وأسبابها، وتعالج جذريا بثقافة مغايرة تشحذ النفوس والعقول بوعي لا يترك منفذا لعبث مروجي العُزلة الإقليميّة التي لا تصون وطنا، ولا تبني مجتمعا؟!
بالتأكيد هناك من له مصلحة للعب على نعرة أردني وفلسطيني، وتأجيجها سرّا وعلنا، وغايته ليست أبدا مصلحة الأردن، وصون الأردن.
في مواجهة حدث بحجم ما جرى لا يجوز أن نسمع عبارات لا تحدد، ولا تقول شيئا جديّا، عبارات عاطفية، أو اتهامية لجهات مجهولة، أو(طبطبة) لا تعالج جذريا، وتترك المرض يتفشّى ليفتك ويبلغ مدى خطيرا يصعب مداواته بالمسكنات!
الفلسطيني ليس خطرا على الأردن، وهو ليس (عالة)، فهو أسهم في بناء الأردن قبل حزيران 67، وبعده، وما زال يبني بجد، يجمع المال بعرق جبينه، بجهده، بدم قلبه ويعود به إلى الأردن ليبني، ويسهم في الاقتصاد والعمران والتطوير، متجاوزا كثيرا من المعاناة والتمييز.
يكتب الباحث الأردني الأستاذ وهيب عبده الشاعر في كتابه (واقع الاقتصاد الأردني وآفاقه: الإطار السياسي والاجتماعي) ما يلي: ما زال الوجود الفلسطيني في الأردن ذا أهمية سياسية واقتصادية واجتماعية لا يمكن تصوّر الأردن من دونها، بالإضافة إلى توتر وانفصام عميقين ناجمين عن توجهات وسياسات رسميّة متبعة في خلق مقولة (أهل الثروة) و(أهل السلطة).(ص 132)
الكتاب منع من الدخول إلى الأردن، وفي هذا دلالة على عدم الجديّة في المعالجة الجذريّة التي تكفل قوّة الأردن في وجه الأطماع الصهيونيّة.
مجلة(السجل) الأردنية التي يشرف عليها الباحث الدكتور مصطفى حمارنة أصدرت في حزيران/ يونيو 2010 عددا ضمّ محورا هاما بعنوان: حتى لا ننسى: والملّف خصص لإبراز دور الفلسطينيين في بناء الأردن، بقصد تذكير الإقليميين الذين يطالب بعضهم بسحب جوازات سفر الفلسطينيين، ومنهم من يطالب بحرمان الفلسطيني من الحقوق السياسيّة ..الخ!.
في افتتاحية المحور نقرأ: استخلصنا أنه تجب العودة إلى البدايات لنعيد الحوار إلى منطلقاته العروبيّة الوحدوية الحداثوية التي تدفع المجتمع باتجاه التلاحم والتكامل لتحقيق المنفعة العامة، وتحسين نوعية الحياة للناس، والابتعاد كليا عن أطروحات سياسية تعيد البلاد إلى الوراء من خلال افتعال التوترات الداخلية والهجرة إلى الهويات الفرعية ، وما يمكن أن تجره من ويلات. إننا ندرك مخاطر السياسة التوسعيّة الإسرائيلية، لذا نؤكد أهمية الصمود الوطني، وتعزيز الجبهة الداخلية بإعلاء شأن المواطنة وسيادة القانون، والتكاتف في ظل هويتنا العربيّة الجامعة، فهذا مصدر قوة لبلدنا سياسيا وفكريا واقتصاديا، وهذا يعطي معنى حقيقيا لوقوفنا إلى جانب حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه على ترابه الوطن، وإلى جانب حق اللاجئين في العودة والتعويض.
الخطاب الأردني العقلاني مُغيّب، وخطاب الإقليميين العنصريين تصاعد منتشيا باتفاقية وادي عربة، لأنه رأى فيها ضمانة لاستقلال وأمن الأردن، وكأن استقلال الأردن يؤخذ من الكيان الصهيوني، وليس من الانتماء لأمته.
في كل يوم نسمع تصريحات لأعضاء كنيست، ووزراء، وقادة أحزاب، وحاخامات، وجنرالات، ورؤساء أجهزة أمن، وعن مؤتمرات تعقد بهدف معلن: الأردن وطن بديل!.
أليس الطبيعي أن يتوقف الأردن رسميا وشعبيا عند الخطاب الصهيوني؟
أليس حماة الأردن بصدورهم، ومعدهم الخاوية، هم أبناء فلسطين في القدس المنسية، وأخواتها الفلسطينيّات المخذولات؟!
آن الأوان أن يتصدّى المثقفون وأصحاب الرأي في الأردن، والحزبيون ـ رغم تواضع دور الأحزاب، باستثناء الأخوان المسلمين وحضورهم الجارف ـ وكل من يحب الأردن العربي، للخطاب الإقليمي الذي يعود بالضرر أولاً على الأردن، والذي يربك نضال الشعب الفلسطيني، ويريح ويسعد الكيان الصهيوني، ويسهّل عليه تنفيذ مخطط الوطن البديل. ما جرى أبعد من مجرّد خطأ أمني، إنه تعبير عمّا هو أكبر، وهو يستهدف الأردن وفلسطين، ولذا يجب التوقف بجدية أمامه، واستخلاص العبر منه، ومعالجته جذريا.