بقلم : رشاد أبوشاور ... 22.12.2010
المستوطنون الذين جُلبوا من أوربا الشرقيّة، أنشىء لهم حي خاص على أرض صودرت من أهل المدينة الفلسطينيّة العريقة يافا، وما أن استقّر بهم المقام حتى فتحوا النوافذ وتصرفوا على أن البحر بحرهم، وأن السماء سماؤهم، وأن رنين أجراس الكنيسة الأرثوذكسيّة المبنية منذ القرن السابع عشر يزعجهم!
اسمحوا لي أن أذكّركم بما جرى في بغداد للمسيحيين العراقيين في كنيسة (سيدة النجاة)، وأخذ المصلين رهائن بحجّة سخيفة ومفتعلة وهي المطالبة بمعرفة مصير سيدتين اعتنقتا الإسلام قي مصر، وتلافيا للفتنة الطائفيّة سُلمتا للكنيسة وطويت المشكلة!
قتل عدد من المصلين، وكاهن الكنيسة، وانبثّ الرعب بين المسيحيين الذي لم ينجوا رغم أنهم في حمى سيدة النجاة..ومتى؟! بعد مؤتمر السنودس في روما، والذي كان أبرز قراراته رفض ادعاء الصهاينة بأن فلسطين أرض الميعاد، أي إبطال حجّة إنشاء الكيان الصهيوني دينيّا، وتوحيد المسيحيين في العالم حول هذا القرار، وفي مقدمتهم المسيحيون العرب!
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق تيتّم ملايين الأطفال، ونهبت ثروات العراق النفطية والثقافية والحضارية فوق الأرض وتحتها. نجح الاحتلال في تمزيق نسيج العراق الاجتماعي، فانفلتت الغرائز الوحشيّة، وتفشّت الطائفية المنحطّة، واستهدف المسيحيون العراقيون وهو ما اضطرهم للهرب نجاةً بأنفسهم.
المسيحيون العرب مواطنون أصلاء في كل الوطن العربي، ومنذ ما قبل الإسلام، فهم المناذرة والغساسنة في بلاد الشام التي استقبلت طلائع الجيوش الإسلامية ونصرتهم على الرومان.
هل نُذكّر بأن سيّد كنيسة القيامة صوفرونيوس ـ هذا اسمه الكنسي، وهو عربي قّح ـ هو من استقبل الخليفة عمر ووقع معه على (الوثيقة العمريّة)، لعل في هذا درسا كبيرا لكّل عربي مسلم أو مسيحي، وبالأخص المسلم، وهو ما يجب أن لا يغيب عن الذاكرة!
في العراق وحتى الاحتلال الأمريكي لبغداد في نيسان/ابريل 2003 تواجد أكثر من مليون مسيحي، وحاليا، وبعد سبعة أعوام من الاحتلال لم يتبّق سوى أقل من نصف مليون، فهناك من هربوا غربا، وهناك من لجأوا لأقطار عربيّة، وهناك من يقيمون في شمال العراق، في منطقة الحكم الذاتي الكردي، انتظارا لانحسار ليل الاحتلال الأمريكي، وزوال أتباعه الذين يعيثون في العراق فسادا وخرابا، ويتقاسمون ثرواته، فلا دولة بنوا، ولاحرية جلبوا، ولا مجتمعا واحدا أبقوا، ولكنهم نجحوا في تدمير العراق خدمة للأمريكان والصهاينة.
ثمّ نتساءل: أهي صدفة أن تشتّد حملة المستوطنين الصهاينة على الكنائس في فلسطين بالتناغم مع ما يحدث للمسيحيين في العراق؟
نحن نعرف أطماع الصهاينة في المسجد الأقصى، وحلمهم الدائم في التخلّص من الفلسطينيين واقتلاعهم بشرا وحضارةً وتاريخا وتراثا، ولكن الصهاينة لا يتوقفون عند معاداة العرب المسلمين، فكّل عربي مسيحيا كان أم مسلما هو عدو يجب اقتلاعه والتخلّص منه.
الصهيونية لا تنطلق من الدين إلاّ لتضليل يهود العالم، وجذبهم إلى فلسطين، ومن بعد طرد السكان الأصليين، سواء أكانوا مسلمين أو مسيحيين، لا فرق فكلهم عرب.
من ينطلق من خطاب يجمع بين المسيحيين واليهود الصهاينة يعمل بوعي أو بدون وعي في خدمة المشروع الصهيوني، مشروع تفكيك نسيج الأمة العربية كلها من محيطها إلى خليجها، ببث النعرات الطائفية، والإقليميّة. أليس هذا ما نعيشه في أيامنا هذه؟!
في مصر تُفجّر الخلافات بين مسلم ومسيحي قبطي. في لبنان تفجير الصراعات بين مسلم ومسيحي، وحين خفّت هذه النار أشعلت نار الفتنة بين مسلم سنّي ومسلم شيعي. وفي أمكنة أخرى سيلجأون إلى مدني وفلاّح، ومواطن ولاجئ، وربّما إذا لم يتّم التنبّه إلى أردني وفلسطيني.
لا تستخفوا بعدو الأمة، وإمكاناته، وقدرته على شّق الصفوف بإثارة الإحن والنعرات والحزازات والحساسيات، فهو يعرف كيف يغزو أمتنا من الداخل، فلا تنسوا ما جرى منذ وجد الكيان الصهيوني، بل وقبل إعلان دولتهم، أي منذ كانوا عصابات، وكانت قياداتهم تعمل ليل نهار على انتزاع فلسطين من أهلها، بينما الأمّة تغرق في الجهل، والتفكك، والتخلّف.
لو شئت أن أورد أسماء المسيحيين العرب الذين ضحّوا في خدمة أمتهم لما توقفت، ولملأت صفحات كثيرة بتلك الأسماء الكريمة المتميزة
وطنيا، سياسيا، ثقافيا، فكريا. دائما وجد هؤلاء المضحون، بل وتقدموا الصفوف رافعين راية الأمة، وراية تحرير فلسطين.
عندما كنا نخوض معركة بيروت عام 82 تمنيت أن يجيء اليوم الذي أرى فيه المسلمين والمسيحيين وهم يصلون معا في الفضاء تحت السماء العربيّة المفتوحة، كل بحسب ما يمليه قلبه وضميره، وجاء يوم أسطول الحريّة لنًُصرة غزّة، فرأينا السيد مطران القدس كبوجي يصلي خاشعا فاتحا الإنجيل، بينما الشيخ رائد صلاح يؤم المصلين المسلمين المبحرين تضامنا رغم الخطر.
صلى أولئك المسلمون والمسيحيون العرب من أجل غزة المحاصرة، وتعرّضوا للموت، واستشهد تسعة أتراك، وكان الجميع في سفينة واحدة!
السفينة الواحدة!
نحن في السفينة الواحدة تخشع قلوبنا لترانيم أجراس الكنيسة، وأذان المسجد، ومعا نرفض الركوع للطغيان الصهيوني الأمريكي.
هذا طريق من يؤمنون بالحريّة والكرامة الإنسانية، وبأن وطننا واحد، والخطر على سفينتنا واحد.
قبل سنوات غير بعيدة، كان حزب الوفد في مصر يرفع علما يحتضن فيه الهلال الصليب، ويقود الحزب في فترة رجل مسيحي قبطي هو مكرم عبيد، بل وينجح في الانتخابات بأصوات المسلمين.
الطائفية، الإقليميّة، لعبة صهيونية، وهي التهديد المباشر لنسيج مجتمعاتنا، ومستقبل أمتنا، فهي تفكيك، وتمزيق، وتجهيل، وهي حرف عن الأهداف.
قيل دائما: القلعة تغزى من الداخل، وقلعة أمتنا تغزى من داخلها.
وطننا العربي الكبير يفكك، من السودان وحتى العراق شرقا، و..على أي قطر الدور؟!
عندما تلعب جهة ما تحت أي حجّة لعبة مسلم ومسيحي، مسلم سنّي ومسلم شيعي، فاعلموا أن هؤلاء إمّا عملاء مباشرة، أو مضللون، وفي كل حال هم في خدمة المشروع الأمريكي الصهيوني الذي لا يحترم الكنيسة ولا المسجد.
عند الاحتلال لا فرق بين الشيخ رائد صلاح و المطران عطا الله حنّا والمطران كبوجي.