أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الأمن الغذائي العربي: التهديد الأخطر!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 23.12.2010

في سياق التعرض للتهديدات التي يتعرض لها العالم العربي وبلدانه وتحليلها يقول نص "المشروع النهضوي العربي": "إن مصادر تهديد الأمن القومي العربي لا تقتصر على الأطماع الخارجية واحتمالات غزوه واحتلاله عسكريّاً، وإنما تتسع لتشمل مصادر أخرى غير عسكرية تتعدد أوجهها وأبعادها"، مشدداً على ضرورة تبني مفهوم شامل للأمن يتضمن تلك الأبعاد. ويناقش على وجه التحديد أربعة أبعاد لذلك الأمن الشامل هي الأمن الغذائي، والأمن المائي، والأمن البيئي، والأمن الاجتماعي. ومن المهم ابتداءً الإشارة والإشادة بالمقاربة الشمولية لمفهوم الأمن وتحريره من النظرة العسكرية التقليدية التي تحشر التهديدات التي تتعرض لها البلدان والشعوب في الحروب والغزو الخارجي، وتفترض أن المناعة العسكرية والجبروت الحربي هي الوسيلة الوحيدة لتأمين الأمن القومي للبلدان. فالتجربة التاريخية للشعوب والدول غنية بما فيه الكفاية للتدليل على أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لضمان أمن الشعوب الجماعي أو حتى على صعيد الأفراد. ويكفي، ومن دون استطراد هنا، الاستشهاد بالتجربة السوفييتية التي ما زالت طازجة في هذا المجال. فموسكو السوفييتية امتلكت من الجبروت العسكري ما كانت تهدد به الولايات المتحدة والعالم الغربي بأسره، ناهيك عن تمكنها من حماية أمنها القومي وردع أية تهديدات خارجية. بيد أن الجوانب الأخرى للأمن القومي هي التي أنهكت المشروع السوفييتي وقادت في نهاية المطاف إلى تقويضه. وهي الجوانب التي يشير إلى بعضها نص المشروع النهضوي هنا بدقة، وخاصة الأمن الغذائي، والأمن الاجتماعي في الحالة السوفييتية.
ولكن المخيب في النص النهضوي هو الابتسار الشديد في معالجة جوانب الأمن والتهديدات غير العسكرية هذه، واختصارها كلها، أي أنواع الأمن الأربعة، في أقل من صفحتين، في حين أسهب النص في تفصيلات الأمن العسكري والردع والدعوة لامتلاك القوة العسكرية بما فيها السلاح النووي. ويشير التركيز الشديد والتوسع في التنظير للقوة العسكرية والأمن الوطني والقومي المرتبط بها إلى استمرار غلبة التفكير العسكرتاري على العقل القومي والأولوية القصوى التي يمنحها لهذا الجانب من "المشروع". وهذا يدلل على عدم تزحزح الفكر القومي العربي عن المربعات التقليدية من التنظير للنهوض، وهي ذات المربعات التي انطلق منها معظم منظري القومية حيث تتحالف البسماركية والسوفييتية في تكوين البنية التحتية للتفكير القومي. ولئن كان من جديد يمكن أن يسوقه نص المشروع النهضوي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فهو استيعاب تجارب القوة العسكرية على مستوى العالم والمنطقة وتمثلاتها ونجاحاتها وفشلها والغوص في أسباب ذلك الفشل خلال القرن العشرين. ولاشك أن التهديدات غير العسكرية للأمن القومي التي يمكن أن تبرز في وجه معظم شعوب ودول العالم ويكفي أن نتوقف عند تلك التي سجلها النص النهضوي، أي الأمن الغذائي، والأمن المائي، والأمن البيئي، والأمن الاجتماعي، كفيلة بتقويض أية دولة أو نظام سياسي واجتماعي مهما بلغت قوته العسكرية. وربما حان الوقت لأن يتم التفكير بعمق في عكس أولويات تحقيق الأمن الوطني والقومي والبدء بإنجاز جوانب الأمن التي تشكل الأساس المشترك والمتين الذي يمكن أن يقوم عليه أي مشروع، وتأخير الانخراط في مشروعات عسكرية استنزافية إلى أمد غير منظور. ولا يمكن تحقيق أمن عسكري وبناء قوة مانعة على أساسات هشة ومتخلخلة.
وبتفصيل أكثر في قراءة معالجة المشروع النهضوي للتهديدات غير العسكرية التي تواجه العالم العربي ودوله، وفي قراءته لحال الأمن الغذائي نقرأ الجملة اليتيمة التالية لكن بالغة الخطورة: "... يواجه الوطن العربي انكشافاً غذائيّاً خطيراً بسبب عدم قدرته على تحقيق الاكتفاء الغذائي في السلع الأساسية، إذ إنه يعاني عجزاً غذائيّاً أخذ يتزايد في السنوات الأخيرة على نحو خطير بسبب الزيادة السكانية وعوامل التصحر وشح المياه وتدهور الإنتاجية الزراعية في عدد من البلدان العربية، مما يعرضه للرضوخ للضغوط الخارجية، ويهدد استقراره الاجتماعي. لذا يتعين على الوطن العربي أن يشرع فوراً في وضع المخططات اللازمة لسد الفجوة الغذائية من خلال زيادة الاستثمارات وتحقيق التكامل في السياسات الزراعية". والتعليق الأول الذي يستدعيه هذا الإقرار، وفي ضوء خطورة درجة الانكشاف في الأمن الغذائي في العالم العربي، هو التساؤل عن واقعية النقاش المطول والحمية الفائقة حول بناء القدارات العسكرية الذي سبق الحديث عن جوانب الأمن غير العسكري. فالتوصيف المذكور هنا يدفع أية سياسة حكيمة نحو إيلاء أولوية الأولويات لتحقيق الأمن الغذائي وصوغ استراتيجيات مفصلة لضمان وجوده. والتسارع الديموغرافي في العالم العربي يُعطف عليه عدم قدرة البلدان العربية على تحقيق تنمية اقتصادية موازية لذلك التسارع سواء في إيجاد فرص عمل، أو مواكبة التعليم ومواجهة معدلات محو الأمية، ثم عدم تأمين الغذاء للأجيال القادمة. ومثل هذا الوضع يشكل خطراً حقيقيّاً وتهديداً داهماً يتعدى التهديدات الخارجية.
وعلى رغم كل تلك الخطورة التي يقرها نص المشروع النهضوي فإن الدهشة تكمن في المرور العابر على هذا الخطر الذي لا يتعدى التوصيف في جملة واحدة مطولة. وفي الوقت الذي توسع فيه النص في رسم واقتراح استراتيجيات لتجاوز الضعف العسكري وبناء قدرات ردع استراتيجي وسوى ذلك وصولًا إلى الدعوة لامتلاك الأسلحة النووية، فإننا لا نقرأ جزءاً من ذلك في معالجة تهديد الأمن الغذائي. وكل ما يجترحه النص لا يتعدى مناشدة محبطة موجهة إلى "الوطن العربي" تقول "يتعين على الوطن العربي أن يشرع فوراً في وضع المخططات اللازمة...". ولا يتوقع أحد من نص المشروع النهضوي العربي أن يقدم لائحة بالسياسات العامة التي يراها كرافعة للنهوض، وخاصة أن النص يقدم ذاته على شكل بيان "مانفستو" يطرح الأطر العريضة للتفكير القومي الراهن والمستقبلي. لكن للقارئ أن يتوقع اهتماماً بتسطير رؤية استراتيجية موازية على أقل تقدير للرؤى الاستراتيجية العسكرية والردعية التي سبقت الحديث عن الأمن الغذائي بصفحات قليلة.