بقلم : د.فيصل القاسم ... 26.12.2010
لا بد أولاً أن أعبر عن استنكاري واستهجاني الشديدين للطريقة السخيفة والمفضوحة التي تعاملت بها أجهزة الأمن الغربية ممثلة بالأمن السويدي مع صاحب موقع ويكيليكس جوليان أسانغ. ففي الوقت الذي كان اهتمام العالم أجمع منصباً على التسريبات المليونية التي فضحت أمريكا ومعظم حكام العالم، أطلت علينا الشرطة السويدية بتقديم أمر للإنتربول بإلقاء القبض على أسانغ بتهمة حادثة اغتصاب في السويد. لقد بدا الطلب السويدي سخيفاً بسخافة التهمة، خاصة وأنه تزامن مع تعاطف دولي منقطع النظير مع مؤسس الموقع الأهم في تاريخ الانترنت. ناهيك عن أنه بدا كيدياً وفاقعاً بامتياز، وربما أفقع من التهم التي تلفقها أجهزة الأمن العربية عادة للمغضوب عليهم بخفة عجيبة.
لكن ورغم الإصرار السويدي على تسلم أسانغ من بريطانيا ربما بضغط أمريكي، إلا أن المحاولات السويدية البائسة فشلت. صحيح أن السلطات البريطانية ألقت القبض على صاحب موقع ويكيليكس لبضعة أيام، لكنها سرعان ما أطلقت سراحه بكفالة ضاربة بذلك عرض الحائط بالطلب السويدي الهزيل. وكي لا نلوم السويديين، فحتى لو تسلموا أسانغ فإنهم كانوا سيحاكمونه بتهمة ليس لها علاقة أبداً بتسريباته الخطيرة بشكل مباشر، وإنما بتهمة الاغتصاب، وهذا طبعاً من حقهم لو تأكد ذلك، مع العلم بأن تهمة الاغتصاب صعبة على الهضم، خاصة أن محامي أسانغ أعلن أن موكله لم يغتصب فتاة سويدية وإنما عاشرها وهي نائمة، واستخدم واقياً ذكرياً مثقوباً. ولو كنت محل السويديين لقاضيت مصنع ديوركس للواقيات الذكرية لعدم تأكده من سلامة واقياته قبل طرحها في الأسواق، بدل ملاحقة أسانغ على تهمة لا دخل له فيها.
وكي لا نبتعد كثيراً عن صلب الموضوع، هذا هو أسانغ وقد خرج من السجن بسرعة البرق، علماً بأن سلطات السجن البريطانية، وللغرابة، زودته بعد دخوله السجن بخدمة الانترنت، وهي الخدمة التي دخل السجن بسببها افتراضياً.
أما الجندي والمدون الأمريكي الذي سرب الوثائق إلى ويكيليكس فقد أكد وزير العدل الأمريكي أنه لم يُعتقل، وأنه لم يتعرض لأي سوء معاملة أثناء التحقيق معه، ولم يتعرض للضرب المبرح، ولم يتم تكسير رأسه أو أضلاعه أو يديه أو ساقيه. ولم يُبصق في وجهه. فعلاً سلطات تحترم نفسها وتجعلك تحترمها غصباً عن الذين خلفوك.
لنقارن الآن المعاملة التي تلقاها صاحب أخطر موقع إلكتروني في التاريخ مع المعاملة التي يتلقاها بعض المدونين العرب المساكين لمجرد أنهم يوجهون بعض كلمات العتاب أو حتى المناشدة لهذا الزعيم العربي أو ذاك، فينتهي بهم الأمر بعد سويعات إلى غياهب السجون ليقضوا في أقبيتها المظلمة سنوات وسنوات دون أن يعرف بمكانهم أحد. فقد أمضى المدون المصري المسكين عبد الكريم نبيل البالغ من العمر ستة وعشرين عاماً أربعة أعوام بتهمة الإساءة لبعض المسؤولين. ناهيك عن أن السلطات المصرية فصلته من الجامعة وحرمته من التعليم. وقالت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان إن نبيل المعروف باسم كريم عامر عانى من حالة صحية سيئة، وإنه تعرض للضرب المبرح على يد رجال الأمن قبل الإفراج عنه.
وفي لبنان على سبيل المثال، لم يتوقّع أحد أن تعود وصاية المخابرات لتمسك مستخدمي الإنترنت من رقابهم، فتستدعي المدوّن خضر سلامة للتحقيق معه بخصوص عدة مقالات كتبها، و"قضية الفيس بوك" الشهيرة التي نتج عنها توقيف أربعة شبان نتيجة ما كتبوه على حائط إحدى المجوعات.
وفي بلد آخر هناك المدون عبد الإمام الذي لاحقته أجهزة الأمن وأودعته السجن بسبب بعض التعليقات في فيس بوك. وعندما بدأت بعد يومين حملات ضغط من قبل منظمات حقوقية عالمية وتضامن من مدونين ونشطاء، أعلن أحد أجهزة الأمن أن قضية عبد الإمام ليست بقضية رأي، بل إنّ اعتقاله جرى بعد "ثبوت ارتباطه وتمويله من قبل خلية إرهابية"! لاحظوا كيف لفقوا له تهمة طازجة جداً تجعل أسانغ يضحك في سره لأن تهمته كانت جنسية وليست إرهابية. والأغرب من ذلك أن عبد الإمام فقد وظيفته ومصدر رزقه.
وفي سوريا تم في نهاية العام الماضي استدعاء شابة لم تنه بعد عقدها الثاني، وما زالت رهن الاعتقال حتى هذه اللحظة.
وحدث ولا حرج عما حدث ويحدث للمدونين في المغرب ودول أخرى. وهذا طبعاً غيض من فيض مما يتعرض له رواد الانترنت في العالم العربي من ملاحقة وتضييق. فهناك أجهزة أمن تراقب المواقع التي يدخل إليها الناس. وفي بعض البلدان إذا تبين للأجهزة أن شخصاً ما يدخل إلى مواقع المعارضة أو بعض المواقع السياسية المحظورة، فإنه سيلاقي مصيراً غامضاً. ومن المضحك أن البعض يحتال على بعض السلطات العربية بأن يدخل إلى مواقع إباحية أولاً ثم ينتقل إلى المواقع السياسية كي يتجنب ملاحقة الأجهزة، لأن الدخول إلى المواقع الجنسية مسموح، أما ارتياد المواقع السياسية فيودي بصاحبه إلى الزنازين المظلمة في بعض البلدان العربية.
لاحظوا الفرق بربكم بين المعاملة التي تلقاها صاحب موقع ويكيليكس الذي عــرا الولايات المتحدة ومعظم حكام العالم، وتسبب بمخاطر جمة للكثير من الزعماء والحكومات، لا بل عرّض مصالح بعض الدول للخطر، وبين المعاملة التي يتلقاها المدونون العرب بسبب جملة نشروها على الفيس بوك، أو بسبب رسالة مناشدة وجهوها لهذا المسؤول العربي أو ذاك. أضف إلى ذك أيضاً أن جوليان أسانغ دخل السجن عملياً ليس بسبب موقعه الإلكتروني الرهيب الذي هز العالم، بل بتهمة أخرى تزامنت مع زلزال تسريبات ويكيليكس، بدليل أن الرجل ليس مطلوباً للقضاء الأمريكي بالرغم من فضحه لخزائن الأسرار الأمريكية وإحراج أمريكا كلها.
احمد ربك يا جوليان أسانغ، فلو كنت عربياً لسجنوك على فعلتك الرهيبة مئات السنين، لا بل سجنوا أيضاً كل ذريتك من بعدك حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً.
لو لم يكن الإعلام سلطة رابعة، إن لم نقل سلطة أولى، في العالم المتقدم لذهب أسانغ في ستين ألف داهية. أما عندنا فالإعلام مجرد "سلــَطة"، بفتح اللام، تتناولها السلطات العربية كمقبلات لالتهام المجتمع ككل من بعدها!.