بقلم : د. فايز أبو شمالة ... 16.12.2010
في الرابع من هذا الشهر استلقيت في الساعة الخامسة فجراً على ثلاثة كراسي في مطار القاهرة الدولي، كنت تعباً كغيري من المسافرين الذين تمددوا على المقاعد كي ينالوا قسطاً من الراحة بعد نهار طويل من الانتظار في معبر رفح، وبعد ليل منهك من السفر البري. كان الوضع يشبه يوم الحشر، فلا أحد يهتم بمظهره، ولا أحد يلتفت إلى وظيفة أحد أو إلى مكانته، ولا أحد يبدي ملاحظات نقدية على تصرف الإنسان وقت الشدائد، فالجميع يشكو التعب، والجميع يترقب موعد سفره القادم، والجميع يفتش عن حمام لقضاء حاجته، أو مكان يؤدي فيه الصلاة، والجميع في حالة ترقب واستفسار؛ وطائرات القلق تهبط في ممرات حساباته الخاصة، وتقلع مع هواجسه بتأخر موعد السفر.
ومن الغريب أنني في الساعة الرابعة من عصر نفس اليوم، كنت أجلس في مقعد درجة أولى على متن الطائرة المتجهة إلى الجزائر، هكذا حجز لي الجزائريون مقعداً وسط الدبلوماسيين ورجال الأعمال، وأنا أقول في نفسي، سبحان الله، من رآني عند الفجر ممداً على ثلاثة كراسي لا يصدق أنني الإنسان نفسه الجالس بزهو وخيلاء، ولكنني صدقت، وأنا أعود بالذاكرة إلى يوم الرابع من مايو لسنة 1994، حين كنت أجلس صباحاً على بلاط السجن، وأنا ألبس قميص السجن البني، وأعطي درسي اليومي للسجناء منتظراً موعد كأس القهوة الوحيد الذي يطوف فيه علينا أحد السجناء، ولم يكن يخطر في خيالي أنني سأغادر السجن إلا بعد عدد من السنين التي حكم فيها على القضاء الإسرائيلي.
في ذلك اليوم من الرابع من مايو وقع ياسر عرفات بصفته رئيس منظمة التحرير الفلسطينية مع إسحق رابين بصفته رئيس حكومة إسرائيل على اتفاقية القاهرة، وما أن أتما التوقيع حتى بدأ الإسرائيليون بالإفراج عن مئات السجناء الذين تبقى من مدة حكمهم عدد من السنين. وكنت أحد أولئك السجناء المفرج عنهم في ذلك اليوم.
لم أصدق في تلك الليلة وأنا أمشي على أرض مخيم خان يونس أنني حر، وبعيد عن السجن، كنت خجلاً أتمدد على الفراش في بيتي، وأتوجس الخوف والريبة من كل حركة، وقد خيل إلي أن الجيش الإسرائيلي سيأتي ليأخذني ثانية، ويقول أخطأنا في الاسم. ولكنني صدقت أخيراً؛ أن ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حالٍ إلى حالٍ.