بقلم : نقولا ناصر* ... 08.01.2011
(إذا كان معدل البطالة عربيا يبلغ ضعفي المعدل العالمي وقد "تجاوز الخطوط الحمر"، فإن معدل البطالة الفلسطيني يزيد على ضعفي مثيله العربي متجاوزا منذ مدة طويلة كل ما تعتبره المعايير الدولية في أي مكان من العالم "خطوطا حمراء")
تعليقا على انتفاضة الفقراء والعاطلين عن العمل والتعاطف الشعبي الواسع معهم في تونس، وهي انتفاضة لم يجرؤ الحزب الحاكم على الاعتراف بمسؤولية سياساته عن اندلاعها ولا جرؤت الأحزاب المعارضة الشرعية وغير الشرعية على ادعاء المسؤولية عن قيادتها، صدق الكاتب العربي الفلسطيني د. فايز أبو شمالة عندما كتب مؤخرا بأن "الغضب المتفجر في تونس هو غضب كل العرب على واقعهم المزري .. لأن ما يحس فيه العربي التونسي من وجع يضرب عصب كل الأقطار العربية"، مضيفا بأن "الغضب" التونسي "لا يقف عند حدود الفقر، والبحث عن فرصة عمل، أو الحاجة إلى رغيف خبز".
وصدق الدكتور أبو شمالة لأنه يتحدث من عمق الوجع الفلسطيني الذي لم يتفجر غضبا بعد، ولأنه يدرك أن عمق الوجع وحجم الغضب مضاعفان في فلسطين بخاصة، وفي قطاع غزة على الأخص، مهما بلغت شدتهما في أي قطر من الوطن العربي بعامة، وخصوصا في العراق الذي يشارك فلسطين الكثير من أوجه محنة الاحتلال الأجنبي لكنه يختلف عنها في كون الاحتلال الأميركي ليس استيطانيا وإحلاليا كنظيره وحليفه الصهيوني وفي كون وجع العراقيين منه وغضبهم عليه لم يتحولا بعد إلى ظاهرة تاريخية مزمنة كما هو حال أشقائهم في فلسطين.
فعلى سبيل المثال، إذا كان معدل البطالة عربيا هو الأعلى في العالم ويبلغ ضعفي المعدل العالمي وقد "تجاوز الخطوط الحمر" عام 2009 (منظمة العمل الدولية)، فإن معدل البطالة الفلسطيني يزيد على ضعفي مثيله العربي متجاوزا منذ مدة طويلة كل ما تعتبره المعايير الدولية في أي مكان من العالم "خطوطا حمراء".
إن الصورة الزاهية التي ترسمها المؤسسات المالية الدولية والاعلام الرسمي للوضع الاقتصادي في تونس لها مثيل في فلسطين.
فتقرير العام الماضي العالمي للقدرة التنافسية الذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي، على سبيل المثال، صنف الاقتصاد التونسي في المرتبة الأولى في إفريقيا، وفي المرتبة 36 عالميا لتتقدم تونس مثلا على ثلاث دول أوروبية هي البرتغال وايطاليا واليونان، وتحتل تونس المرتبة الأولى بين الدول العربية في الانفاق على التعليم والمرتبة (18) عالميا ليكون التونسيون أكثر العرب تعليما، ولديهم أعلى معدل لحصة الفرد من الدخل عربيا، ومعدل النمو الاقتصادي لبلدهم يزيد مثلا على مثيله في الجارة النفطية الجزائر، وتزيد تونس الحد الأدنى للأجور مرة كل ثلاث سنوات منذ (18) سنة، وفيها نظام للتأمين الصحي يشمل ربع السكان تقريبا، ناهيك عن إشادة البنك وصندوق النقد الدوليين في تقاريرهما بالاصلاحات الاقتصادية في تونس، التي تفتخر بانها وقعت وصادقت على أكثر من 58 اتفاقية دولية للعمل منها ثمانية اتفاقيات تتعلق مباشرة بالحقوق الأساسية للعمال، قبل أن "تشوه" الانتفاضة المتواصلة للفقراء والعاطلين عن العمل هذه الصورة الزاهية للقطر الشقيق.
ولأن هذا الانجاز التونسي لا يمكن أن يكون "على الورق" فحسب، إذن لا بد من إيجاد تفسير موضوعي للغضب الشعبي الذي تفجر "على الأرض". ومن الواضح أن انعدام العدالة في توزيع مشاريع التنمية والثروة في تونس هو التفسير للغضب الشعبي الذي يجد له نظيرا مضاعفا في الأراضي الفلسطينية المحتلة لا بد أن ينفجر غضبا عارما في أول فرصة سانحة.
والاحتلال، غير الموجود في تونس، هو السبب الرئيسي طبعا للافقار الجماعي للشعب الفلسطيني داخل الوطن المحتل وخارجه، لكنه ليس السبب الوحيد.
ويتمثل سبب ثاني في سياسيات بعض الدول العربية المضيفة للاجئين الفلسطينيين، ف"المسح الاجتماعي – الاقتصادي للاجئين من فلسطين في لبنان" الذي أجراه باحثون من الجامعة الأميركية في بيروت ووكالة "أونروا" بتمويل من الاتحاد الأوروبي ونشر خلال كانون الأول / ديسمبر الماضي كشف، مثلا، أن احتمال أن يعيش اللاجئون الفلسطينيون في الفقر هو ضعف الاحتمال المماثل للشعب اللبناني وأن النسبة المئوية للعاطلين عن العمل تقل قليلا عن الضعف وأن النسبة المئوية لمن يعيش من اللاجئين تحت خط الفقر المحدد من الأمم المتحدة (66.4%) هي ضعف النسبة المئوية تقريبا لأشقائهم اللبنانيين.
ويتمثل سبب ثالث في التضحية بالدعم العربي للأشقاء الفلسطينيين إما بحجة الانقسام العربي أو بذريعة الانقسام الفلسطيني، والأمثلة المفجعة كثيرة في التاريخ العربي المعاصر، وليس آخرها الجدل المقيت الذي تفجر في الدورة السابعة والثلاثين لمؤتمر العمل العربي بالبحرين في آذار / مارس الماضي حول عبارة "في ضوء السيولة المتاحة" لدفع مبلغ زهيد لا يزيد على خمسين ألف دولار لدعم صندوق التشغيل الفلسطيني.
إن تهمة "الإثراء غير المشروع" الموجهة ضمن تهم أخرى لأحد أعضاء اللجنة المركزية في حركة فتح مما قاد إلى تعليق عضويته بانتظار نتائج التحقيق معه، وإلغاء الأردن مؤخرا لعقد مشروع استثماري بمئات ملايين الدولارات في العقبة لمستشار اقتصادي سابق للرئيس الفلسطيني الراحل ياسرعرفات هما أحدث مثالين يكشفان فقط عن قمة جبل جليد الفساد المستشري في سلطة الحكم الذاتي الإداري المنبثقة عن اتفاقيات أوسلو الي وقعتها منظمة التحرير مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو الفساد الذي بدد مليارات الدولارات من معونات المانحين الأجانب والعرب. فالفساد سبب رئيسي رابع للافقار الجماعي للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وهو بالمقارنة مع نظيره التونسي يبدو مضاعفا أيضا، وما زال بانتظار المؤسسات الدولية والعربية والوطنية المتخصصة والباحثين الأفراد للكشف عن حجمه الحقيقي بعد فشل كل لجان التحقيق في الفساد التي ألفتها المنظمة والسلطة في كشف بعضه.
فالخبير الاقتصادي في معهد السياسات الاقتصادية "ماس"، د. نصر عبد الكريم، دعا مؤخرا حكومة رام الله إلى "إعادة النظر" في سياساتها "لردم الفجوة بين المناطق في التنمية وردم الفجوة بين الطبقات، لأنه ما زال هناك غياب للعدالة في توزيع الدخل"، ولا حظ وجود "تركز للثروات وارتفاع في الأسعار .. ما يعني أن الفجوة بين الفقراء والأغنياء تتسع ومعها تتقلص الطبقة المتوسطة في المجتمع". كما لاحظ أن ضريبة القيمة المضافة تفرض على المستهلك وهو الأغلبية الساحقة من الفقراء الفلسطينيين، ليطالب ب"فرض ضريبة على الدخل والثروات" من أجل "إعادة النظر في توزيع الثروة". أليست هذه هي المواجع نفسها التي فجرت الغضب في الشارع التونسي !
إن الصورة الزاهية التي تروج للاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال تتحدث عن توقع وصول نسبة النمو الاقتصادي لعام 2010 الماضي إلى (7%) - - وهي النسبة المئوية نفسها التي قدرها صندوق النقد الدولي للعام السابق - - و(50%) في القطاعين المصرفي والسياحي، والسوق المالي الفلسطيني يحتل الموقع الثامن عربيا في تحسن مؤشراته، ووزارة الاقتصاد في رام الله سجلت (1307) شركات جديدة برأسمال زاد على (393) مليون دولار أميركي العام الماضي مقابل (1717) شركة برأسمال مماثل تقريبا في العام الذي سبقه، وتتحدث عن مجمع رئاسي وحي دبلوماسي جديدين، وعن تدفق سلسلة الفنادق الدولية، ومشاريع إسكان فخمة، وبرنامج للرهن العقاري بنصف مليار دولار من أجل تشجيع شراء المساكن أطلق في حزيران / يونيو الماضي وكان المتوقع أن يبدأ العمل بنهاية العام الماضي، إلخ. مما ضاعف أسعار الأراضي أضعافا، ودفع رئيسة بلدية رام الله جانيت ميخائيل إلى أن تتوقع "ارتفاعا في عدد العاطلين عن العمل وبالتالي زيادة في المشاكل الاجتماعية" (لوس أنجيليس تايمز في 25/12/2010)، ودفع معهد بروكينغز الأميركي أوائل عام 2009 إلى التوصيف التالي في تقرير له:
"إن أفضل وصف للاقتصاد الفلسطيني حاليا هو وجود ثلاث اقتصادات منفصلة" عن بعضها: أولا اقتصاد رام الله حيث تتدفق ملايين دولارات المعونات، وثانيا، "أما بقية الضفة الغربية فقصة أخرى" حيث "البطالة أعلى، والأجور أدنى، وفرص العمل في القطاع الخاص قليلة"، وثالثا قطاع غزة حيث كان الاقتصاد "كارثة" حتى قبل العدوان الشامل على القطاع قبل عامين، ليخلص التقرير إلى أن استمرار حصار القطاع وعدم إحراز تقدم في المفاوضات السياسية سوف يؤخر اي نقاهة اقتصادية شاملة في الأقل لمدة خمس سنوات، مما يبدد أي صورة زاهية يتم ترويجها لأسباب لم تعد خافية على أحد، أهمها التعويم السياسي لمفاوض منظمة التحرير الذي ما زال يبيع وهم السلام لشعب لم يعد أغلبه قادرا على شراء الخبز بشعارات مثل التصريح الذي أدلى به رئيس مجلس إدارة صندوق الاستثمار الفلسطيني د. محمد مصطفى في الرابع من آب / اغسطس الماضي بأن الاقتصاد الفلسطيني سوف ينمو بمعدل (20%) سنويا "بسهولة" إذا "تحقق السلام" مع دولة الاحتلال الإسرائيلي (بلومبيرغ) !
في الحادي عشر من تشرين الثاني / نوفمبر الماضي نقلت وكالات الأنباء عن منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" أن (%80) من الفلسطينيين تحت الاحتلال يعيشون تحت خط الفقر، و(30%) عاطلون عن العمل، بينما الأمن الغذائي معدوم بين (61%) من أهالي قطاع غزة وبين (25%) من أهالي الضفة الغربية. وحسب آخر تحديث لموقع "كتاب الحقائق العالمي" لوكالة المخابرات المركزية "سي ىي إيه" على شبكة الانترنت فإن (46%) في الضفة و (70%) في القطاع يعيشون تحت خط الفقر، و (19%) و (40%) عاطلون عن العمل في المنطقتين على التوالي. وأرقام هذين المصدرين المفترض أنهما محايدان بقدر ما تبدد الصورة الزاهية التي تروج للاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال بقدر ما تؤكد بأن الوجع التونسي مضاعف حقا في فلسطين.