بقلم : زهير ابن عياد ... 11.05.2010
ومن العادات المتجذّرة جأهليّاً ويستعملها عرب النقب هي ادعية السقيا والغيث. فقد كان البدو حتى عهد قريب يخرجوا لبقعة خالية نساءاً ورجالاً "ليغيّثوا" وهي ادعية بسيطة نصوصها على شكل استجداء لطلب الغيث والماء, وهذا الأمر قديم قدم "وافد عاد" الذين ذهبوا ليستقوا لقومهم عند الحرم. وهناك طلب لسقيا افراد بعينهم قد ماتوا, والطلب من الله أن يسوق سحابة لسقي قبورهم تسرّب الينا من خوالي السنون دعاء سُقيا لاحد بدو النقب وهو:
يا رب عمزنة بها الغيث _ تسقي بها قبر ابن ليث
واظن أن هذا الدعاء استورده بدو النقب من الحواضر, لان اسم ليث مهجور عند البدو, على كلّ هذا الدعاء كمفهوم لمدى العلاقة بين بدو النقب في ثقافتهم والجأهليون بحيث نشاهد لهذا الدعاء قول متمّ بن نويره في رثاء اخيه مالك, وهو بيت قريب منه أي الدعاء:
سقا الله ارضاً حلها قبر مالك _ ذهاب الغوادي المدجنات فامرعا
- الحالة الدينيّة ورحلات التصوّف: لا شكّ أن السنوات ما قبل الثمانينيات كانت مُظلمة بالجهل الديني عند البدو, وقلّ ما تجد شخص يفقه أمور وتعاليم الشرع الإسلاميّ هذه حقيقة ترويها لنا سوالف الشيخان الشفهيّة حتى اليوم, من أنهم نادراً في القبيلة اجمعها ما تجد مصلّي, إلاّ أن هؤلاء الشيبان كثيراً ما يتبادروا كلامهم بانهم كانوا صافيين النية "نيّة سليمة" لهذا كانت اغلب سنواتهم خصاب... هذا وقد استمر الوضع إلى ما هو عليه حتى بدأت الصحوة الدينيّة عند بدو النقب وذلك في السنوات الاخيرة من الحركة الإسلاميّة والدعاة الخارجين في سبيل الله. هذه لمحة بسيطة عن الحالة الدينيّة التي كان عليها بدو النقب مع ما كوّنوه من معتقدات ربّما تكون مشركة بالله. وهذه الحالة ما هي إلاّ طبق الاصل لما كانت عليه حالة الحجاز ونجد وبواديها. التي ادت إلى بروز الاتجاه الوهابي السعودي في محاولة لارجاع الناس إلى الشرع الصحيح, وقد كان الأمر البارز في معتقدات بدو النقب كان الايمان بقبور الاولياء الصالحين وتعظيمهم وزيارة مقاماتهم والذبح لهم. وقد حدثوا أنهم يمرّوا بقطيع الغنم بجانب قبر الوليّ. ويخاطبوا الوليّ "اختر شاتك يا مبارك" ومن الغرابة أن احدى الشياة تتجه فوراً إلى قبر الوليّ دون أن يسوقها احد, فيذبحوها عنده, وهذه عادة متاصلة في الجذور الجاهليّة يقول الشاعر قيس بن الملوّح بعد أن نحر ناقته على قبر والده:
عقرت على قبر الملوح ناقتي _ بذي السرح لمّا أن جفاه الاقارب
وقلت لها كوني عقيراً فانني _ غداً راجلٌ امشي وبالامس راكب
أن من نتيجة هذه الأمور حصل عند هؤلاء البدو ثقافة معيّنة تكاد تكون اشراك بالله من أن الاولياء بامكانهم جلب الخير والرزق وطرد الشرور والمكارة واشفاء المرضى, وقد نُسِجت الاساطير حول هذه المقامات, وبسببها تكوّن عندنا أدب قصصي شفهي منقول يُفيد باحداث غريبة وقعت لعديد من الاشخاص عند تلك المقامات, وما زلنا نسمع تردّد هذه القصص عند كبار السن, ونعود لكلامهم هؤلاء الدائم من أن نيّتهم مع كلّ هذه سليمة, وظنّي أن ايمانهم بالله كان قويّاً فلو قيّض الله لهم العلم والدعاة منذ زمان لما راينا تلك الشعوذات والجهالة.
في اتجاه مماثل نلاحظ نفس العلاقة بين أهل الحجاز ونجد وبين أهل النقب في هذه المعتقدات بل أن أهلنا في النقب كانوا يزورون بعض المقامات في السعودية كمقام الشيخ حميد, وكان من ابرز اهداف الوهابيين , ردع الناس عن زيارة قبور الاولياء, وبالفعل قاموا بهدمها وبيّنوا حكمها الشرعي في الدين الإسلاميّ. اعتقد أن هذه المعتقدات لأهل النقب لم تأتي من فراغ, بل جلبها مهاجرون من بوادي العرب كالحجاز ونجد واستقطبها من كان هنا حتى انتشرت وعمّت.
كان هناك بعض المتصوّفة الذين جالوا اطراف العالم الإسلاميّ لنشر طرقهم, وكان من هؤلاء المكيّون والعراقيّون والشّاميّون, فبعض المتصوّفة الذين استقروا في الحجاز بما تملكه تلك من قداسة أو أنهم هم انفسهم حجازيون, اتجهوا إلى النقب, وبالتالي كوّنوا هم ومريديهم ثقافتهم الدينيّة الخاصة, فكانوا يتوغّلوا في الصحراء, ويستقروا في مكان ما ويؤسسوا لهم ما يُسمّى الزاوية, وقد يأتي اليهم البدو من كلّ صوب للتبرك دون الاندماج معهم لهذا نلاحظ أن هناك اشخاص معدودين في النقب كانوا متصوّفة وأهل دين. وعندما يتوفّى زعيم المتصوّفة في الزاوية فانه يُصبح من الاولياء الصالحين ويصبح مزار لأهل النقب ويحلفون به ويقدمون النذر عند ضريحه.
واني لاعتقد أن من أهلنا في النقب كان متفقّه في أمور الدين والعلوم الشرعيّة وربّما حَفِظَ القران وزار مكّة للحج, وبسبب قلتهم وغرابتهم من المجتمع ما زلنا نسمع بذكراهم حتى اليوم كالشيخ أبو عيّاده والنباريّ والوليّ سعيد الكريشيّ, وعوائل هؤلاء هي من العشائر العريقة في النقب. قد يخطر ببال القارئ سؤالاً مهماً أنه بما اننا نتحدّث عن علاقة أهل الحجاز ونجد بعرب النقب, فالاخيرون يتبعون المذهب الشافعي والحنفي خلافاً لهؤلاء الذين يتبعون المذهب المالكي والشافعي والحنبلي؟, فالجواب أن فلسطين كلها تتبع الدولة التركيّة العثمانيّة التي اتبعت المذهب الحنفي كمذهبا رسميا للدوله, وكان أهل النقب من رعاياها في حين أن الجزيرة العربية كانت بعيدة نسبيّاً عن السيطرة العثمانيّة, فكان الاشراف وآل سعود فيما بعد التي انتجت من الحركة الوهابيّة التي اتخذت المذهب الاشد والمتشدد وهو الحنبليّ الذي يسود في نجد وفي الحجاز الشافعي والمالكي.
ختاما ننوه الى دليل تاريخي حول هذه المواضيع ذكره عارف العارف في كتابه بئر السبع وقبائلها صفحه 251 مفيدا انه " لم تنتشر الطرائق المذهبيه بين البدو انتشارها بين الحضر , غير اني رأيت الطريقه الشاذليه بين فريق من الحناجره , والطريقه اللطيفيه بين فريق من الجبارات" ..
- اللهجة البدويّة: في اعتقادي أنها الاقرب إلى العربية الجاهليّة اقصد فصحى المعلقات, واظن أن الرسم التالي يوضّح لنا تطوّر اللغة العربيّة
- لغة المعلقات "قريش"
بداية العربية (جرهم وحمير – وبني اسماعيل - اللغة العامية التي وصلتنا اليوم
قد كانت بدايات العربية في ازمان جُرهم زعماء الحرم وأولاد اختهم بني اسماعيل وبني حمير في اليمن. تلك اللغة التي تطوّرت لتصل إلى فُصحى قريش وظهرت المعلقات على ستائر الكعبة, تلك اللغة التي نزلت بها المعجزة الخالدة والتي نضاهي بها الامم إلاّ وهي معجزة القران الكريم. ولا شكّ أن العربية قد وصلت إلى الذروة واخذت بالنزول والانحطاط لتصلنا اليوم على شكل لغة مقسّمة إلى لهجات عديدة ومنهن اللهجة البدوية التي حافظت على نقاوتها وذلك لمناعة الصحراء وبالتالي الحفاظ على اكبر قدر من المفردة العربية.
ومما لا ريب فيه أن لغة العرب لم تكن موحدة البتّة, انما كانت لهجات تتوحد بالفصحى عند عكاظ أو سوق المربد. فلهجة حمير تختلف عن ربيعة, وربيعة نفسها قد تختلف لهجاتها, لتفرّق موطنهم وبُعد الديار, فتغلب سافرت إلى هجر وبكر بن وائل إلى العراق, وعبد القيس إلى البحرين... نلاحظ أن اللغة العربية كانت ذات مستوى معيّن ايام جّرهم واخذت تعلو وتتّجه نحو الفصحى كما ذكرنا حتى زمن قريش ونشوء المعلقات وبعد ذلك ونتيجة لتوسّع العرب وخروجهم من الجزيرة العربية ومخالطة الاقوام, انحطت الفصحى وتغيّرت اللهجات وظهر علم النحو وازداد اللحن في اللغة.
وبما اننا نعتقد أن لهجة أهل النقب مشابهة إلى حدّ بعيد تلك التي في الحجاز ونجد فنتسائل ونقول أن تلك المواقع كانت منبع الفصحى وعامتها الاساسيّة فكيف يا تُرى اختفت هذه الفصحى التي نلحظها في أشعارهم؟ وفي اعتقادي أن هناك العديد من الاسباب نحصر منها الآتي:
•من المعروف تاريخيّاً أن الإسلام بعدما عمّ وانتشر في بقاع الارض بين عربها وعجمها , وملك دولة مركزها خرج من الاماكن المقدّسة إلى الشام والعراق, تخالط العرب الخارجين مع الاقوام الأُخرى وظهر العاميّ في اللغة, ولا ننسى أن هناك فريضة الحج التي اخذت القلوب والافئدة تهوي إلى مكة, وتوارد العجم والمتصوّفة منهم على مكة يتمركزون بها لما لها من صبغة دينيّة روحيّة, كلّ ذلك علاوة على اجتماع الحجاج السنويّ من عرب وعجم ومكة والمدينة كانت بالطبع مركز وملتقى تجاري وسياسي لعربان الجزيرة وغيرهم من المسلمين غير العرب, فكانت بمثابة سوق كبرى لهم, ونتيجة ذلك خالطوا العجم فيها وتلعثم لسانهم وثقل واختفت الفصحى المعهودة. وقد ساهم في ذلك استقرار بعض العجم في مكة والمدينة للتجارة أو العبادة.
•هناك قبائل هاجرت باكملها مع الجيش الإسلاميّ خلال الفتوحات الإسلاميّة, واتجهوا خارج شبه الجزيرة العربية, ومن المحتمل أن هناك بعض العوائل التي استقرت خارج الجزيرة لسنوات عديدة قررت العودة إلى موطنها الاصلي "نجد الحجاز" وذلك بعد أن تلعثم لسانها, وعند عودتها وتمازجها مع السكان الاصليين ومع مرور الوقت تلعثم لسان الحجازيون والنجديون أيضاً ليصلنا اليوم على حال لغتهم العامية الحاضرة.
•كانت كلّ قبيلة لها نوع نُطُق خاص في اللهجة, وعندما تلتقي هذه القبائل تمتزج وتختلط هذه اللهجات مع بعضها لتخرج لنا في النهاية مع المؤثرات العامية. فنزار من الشمال وقحطان من الجنوب وعربان الشام والعراق عندما يتلاقون تتمازج تلك اللهجات.